الإرهاب الذي ضرب باريس مؤخرا، والحشد الإعلامي والسياسي الواسع على خلفيته ينذر بأن هذا الحادث لن يمر بدون تداعيات خطيرة، ومن الطبيعي مقارنته بأحداث 11 أيلول التي هزت أمريكا والعالم في 2001.
إثر أحداث أيلول تم إعلان الحرب على الإرهاب وتشكيل تحالف دولي من أجل ذلك، حيث تم احتلال أفغانستان وإسقاط حكم طالبان ومن ثم احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين، وازدادت إثر ذلك ظاهرة الإسلاموفوبيا من جهة والتطرف والتشدد في الجهة المقابلة، وبات المسرح مهيئا في أي لحظة لاستقبال مزيد من العمليات الإرهابية ضد الغرب ومصالحه.
تكبدت الولايات المتحدة خسائر ضخمة وخاصة على الصعيد الاقتصادي، منذ إعلانها الحرب على الإرهاب وصلت بها حافة الإفلاس، ومع ذلك لم تحقق وعد الاستقرار والتنمية والديمقراطية في العراق وأفغانستان، ولكنها استطاعت استغلال حالة الصراعات والفوضى في الشرق الأوسط أخيرا لتفرض خفضا لأسعار النفط بشكل كبير، ما أعاد الروح والقوة للدولار والاقتصاد الأمريكي ويمكن القول إن أمريكا بدأت تحصد أخيرا مكاسب اقتصادية جراء حربها على الإرهاب.
مظاهرة باريس غير المسبوقة ضد الإرهاب والتضامن مع شارلي إيبدو وضحايا الإرهاب بمشاركة قادة وسياسيين من فرنسا والعالم تنذر بأن عهدا جديدا من محاربة الإرهاب قادم، وأن الجميع بدون استثناء يتهافت ليكون شريكا فيه.
ومن المفارقات النادرة مشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني معا في تظاهرة ضد الإرهاب في الوقت الذي لم يستطيعا التقدم باتجاه السلام خلال سنوات.
لا شك أن الحادثة سترخي بظلالها وتأثيراتها السلبية على الجالية المسلمة في فرنسا وأوروبا على حد سواء، وما يدفع تلك الجاليات للقلق العميق حالة التضامن الأوروبي الواسعة مع فرنسا والخشية من ازدياد موجات العنصرية من اليمين الأوروبي المتطرف، والذي بات يحقق مكاسب سياسية مطردة.
لا شك أن الجهات والأحزاب السياسية الفرنسية ستوظف الحادثة لتحقيق مكاسب سياسية.
ومن هنا كان لافتا تصريح زعيمة اليمين المتطرف لوبين بعدم ربط حادث شارلي إيبدو الإرهابي بالإسلام، وبرّأت المسلمين منه في رغبة منها لإظهار اعتدالها وتقربها من الجالية المسلمة. وهذا الخطاب العقلاني المعتدل ساد الأجواء الإعلامية الفرنسية بشكل عام، والتي تجنبت تمرير أي عبارات عنصرية أو استفزازية، وتم نقل الأحداث بشكل مدروس وهادئ للتخفيف من حالة التوتر والاحتقان الداخلي، وفي المدارس تم الحديث إلى الطلاب بأن الفاعلين لا يمثلون الإسلام والمسلمين لا بل حتى القول إنهم غير مسلمين.
منذ الآن ستكون شارلي إيبدو حاضرة في الاستحقاقات السياسية في فرنسا بقوة ومثار شد وجذب بين القوى السياسية ويمكن للجالية المسلمة لو توفرت لها الرؤية السليمة أن تقلب الأمور وتحقق نتائج جيدة لصالحها من خلال إدارتها بنجاح لسعي الأحزاب والكتل السياسية للحصول على تأييدها.
الخطاب المعتدل الذي بادرت به لوبين لا يمكن أن يستمر طويلا كما اعتقد ولن تستطيع الحصول على مكاسب سوى بخطابها المتطرف الذي توجهه لجمهورها المتعصب ومن المتوقع خسارتها الانتخابات القادمة كذلك وصعود ساركوزي من جديد.
إذا كانت أحداث أيلول كرست الولايات المتحدة كقائدة للتحالف الدولي ضد الإرهاب فهل ستكرس شارلي إيبدو فرنسا كقائدة لأوروبا في حملة جديدة ضد الإرهاب وهل هذا ما تسعى إليه فرنسا من وراء هذا الحشد في مظاهرة الجمهورية؟
تطفو نظرية المؤامرة بسذاجة وبشكل مبالغ فيه أحيانا كثيرة في الأوساط العربية بشكل خاص؛ فأحداث أيلول مدبرة أمريكيا، وفق تلك الذهنية وفي أحسن الأحوال تم التواطؤ من قبل الاستخبارات الأمريكية لتمريرها، وعلى نفس المنوال سارع كثيرون لوصف حادث شارلي إيبدو بالمسرحية الاستخبارية دون أن يشرحوا لنا لماذا قدم الأخوان كواشي حياتهما لتمثيل ذلك الدور.
هناك تكهنات كثيرة حول التداعيات الخارجية لأحداث شارلي ويطرح السؤال أن أحداث 11 أيلول، أسقطت حكم طالبان وصدام حسين، فهل ستسقط أحداث شارلي حكم الأسد؟ وهل لتصريحات الرئيس الفرنسي أولاند قبل يوم من الحادثة بخصوص الندم من عدم التدخل ضد النظام السوري بعد استخدامه الكيماوي أي دلالة؟
صحيح أن النظام والمعارضة أدانا الحادثة على حد سواء، ولكن بأهداف ونوايا مختلفة، فالنظام يطرح نفسه شريكا في محاربة الإرهاب، وهو حذر الغرب من ذلك مرارا، بينما المعارضة تعزو الإرهاب للنظام نفسه وتطالب بإسقاطه ولكنها تخشى أن تكون حادثة شارلي فرصة لتعويمه وإعادة التطبيع معه والتراجع عن إسقاطه وبالتالي عودة التعاون الغربي الأمني والاستخباراتي معه، الأمر الذي أنقذه من السقوط من قبل.
عدم وجود مؤسسات قوية للمعارضة لا يتيح لها طرح نفسها شريكا للإرهاب في ظل تمدد داعش في مناطق نفوذها، بينما يتمتع النظام بخبرات طويلة ويملك معلومات واسعة عن المتطرفين والإرهابيين وعلى ذلك يمكن أن يكسب النظام هذه الجولة، وهذا يشكل خطرا كبيرا على مسار الثورة السورية ما لم يتم تداركه عبر نشاط ديبلوماسي قوي تقوم به المعارضة.
بالنسبة لعباس ونتنياهو، فإن ما يجمعهما هو العداء لحماس وربما ستشهد الأيام المقبلة انتكاسة جديدة للعلاقة بين سلطة أبو مازن وحماس، أما بالنسبة للدول العربية الأخرى، فستكون الفرصة متاحة للحكام لمزيد من التشدد وقمع الحريات.
ورغم مسارعة إيران لإدانة الحادثة، إلا أن تاريخ الجمهورية الإسلامية لا يشفع لها بذلك مع وجود فتاوي إهدار دم سلمان رشدي من المرجعيات الدينية ورصد الجوائز المالية الضخمة لذلك.
إذا كانت أحداث 11 أيلول قد دفعت الأمريكان للذهاب بعيدا وغزو أفغانستان والعراق فإن أحداث شارلي إيبدو لن تدفع الفرنسيين للقيام بمغامرة مماثلة خارج الأراضي الفرنسية، ولا يعرف تأثير بعض الأدلة على ارتباط المنفذين بداعش وهرب حياة بومدين إلى سوريا، على ذلك وبكل الأحوال فإن الإرهاب جاء من الداخل الفرنسي وسيتم التحول فرنسيا لتقديم الأمن على الحرية، كما قال وزير الداخلية الفرنسي وستؤثر الإجراءات الأمنية الجديدة بلا شك على حياة الفرنسيين وخاصة المسلمين واللاجئين منهم.
رغم مأساوية أحداث شارلي إيبدو، فإنها تثير لدى السوريين مشاعر عدم المساواة والمعايير المزدوجة لعدم اهتمام العالم بإنهاء مأساتهم المستمرة منذ سنوات.
بحجة محاربة الإرهاب تهافت الجميع على باريس ليأكلوا من كعكة شارلي، ولكن يخشى في النهاية أن يكون ثمن الحفاظ على الحرية خسارتها.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية