مجانين رفعت الأسد وأخيه حافظ.. خطيب بدلة*

كتب الصديق الأديب الصحفي عمر قدور قصة بعنوان "مجنون رفعت الأسد". القصة تحكي عن رجل مهووس، في أوائل الثمانينات، حاول الدخول هارباً إلى الأراضي التركية، متوهماً أن الرفيق الدكتور رفعت الأسد يخطط لقتله بالتعاون مع شقيقه حافظ!!..
وعلى الرغم من غرابة هذه الرواية إلا أن موظفي المعبر التركي لم يولوها اهتمامهم، ولم يتبين لهم أن الرجل مجنون، وما كان منهم إلا أن قبضوا عليه وسلموه للسلطات السورية التي أودعته عند المخابرات، وهؤلاء بدورهم لم يقصروا معه في ضربه وتعذيبه وإهانته، لقناعتهم بأنه رجل عاقل؛ ولكنه حويط، ومتآمر، وإنما يتصرف على هذا النحو بقصد الإساءة لهذين القائدين التاريخيين أمام الأتراك، الطورانيين، السلاجقة!
ذكرتني هذه الحكاية بحكاية أخرى رواها لي صديق من قرى الساحل السوري، بطلُها عسكري مجند شديد البلاهة حصل على إجازة مدتها أسبوع، وعندما حل وقتُ التحاقه بقطعته العسكرية التقى به رجل خبيث من قريته اسمه "رفعت"، سلم عليه وسأله عن الوجهة، فلما أخبره بها قال له:
- لا لا، لا تذهب. أجلها للشهر القادم!
قال المجند: وإذا سألوني ليش تأخرت، ماذا أقول؟
قال رفعت: بسيطة، قل لهم رفعت طلب مني أن أتأخر وعلى مسؤوليته.
وهذا ما كان بالفعل. عاد المجند إلى بيته، وأمضى شهراً كاملاً فيه. وعندما التحق بقطعته العسكرية سأله الضابطُ المختص عن سبب التأخير فقال له:
- أنا لم ألتحق بناء على طلب رفعت!
ههنا التبس الأمر على الضابط، ليقينه بأنه لا يوجد أحدٌ في سورية يأمر بمخالفة النظام العسكري على هذا النحو الصارخ غير الرفيق رفعت الأسد، فقال للمجند:
- أي والله والنعم، على رأسي أنت والرفيق رفعت! أنت تأمر يا ابني، وإذا لم تكن لديك مشاغل في المساء أرجو أن تقبل دعوتي لتناول فنجان قهوة عندي في المكتب!
فلما كان المساء جلس الرجلان مع بعضهما البعض، وتبين للضابط أن الفتى أهبل، وأن رفعت هذا غير رفعت ذاك، فغضب وناوله لكمة أوقعت فنجان القهوة على ثيابه، ثم على الأرض، وبطحه أرضاً وعجق عليه بقدميه، وأمر بإرساله إلى سجن تدمر العسكري بسبب إقدامه على الفرار من خدمة العَلَم من دون إذن شرعي!..
إن الإصابة بجنون التعلق بشخصيات الزعماء السياسيين ليس جديداً علينا، فالسيد أبو عمر آمِتْ، وهو مصلح كهرباء إدلبي، اشتهر أيام الوحدة الثنائية بين سورية ومصر بصداقته القوية مع جمال عبد الناصر. وكان يحكي لأهل مدينة إدلب كيف كان الرئيس جمال يستقبله في القاهرة.. ولأنه من المقربين جداً، أو، كما يقول أهل حلب (من جوة السَقَّاطة)، كان يستضيفه في منزله، بين أفراد الأسرة الصغار الذين يهتفون حينما يرونه ويهيصون قائلين: عمو أبو عمر، عمو أبو عمر! وبالنسبة للطعام لا يرضى أبو عمر أن يأكل إلا مما تطبخ الأخت أم خالد.
ومن حكايات أبي عمر التي لا يمكن أن تغادر الذاكرة واحدة تقول إن جمال عبد الناصر حضر مرة إلى دمشق في زيارة رسمية، ليلتقي الإخوة في الإقليم الشمالي، فلما دخل قاعة المؤتمرات، وهرع المسؤولون السوريون الكبار لملاقاته، أدار بصره بين الحضور وقال لهم بعتب واندهاش واستنكار: أُمَّال فين أبو عمر؟!
فلما بدؤوا بالغمغمة والعنعنة واللف والدوران غضب، وحلف على أنه لن يجلس ولن يناقش الشؤون التي جاء لأجلها ما لم يحضر أبو عمر!
وعلى الضفة الأخرى من المشهد كان أبو عمر متعمشقاً في نهاية العمود الكهربائي، يصلح الأسلاك والفناجين، وإذا بطائرة هليوكبتر تبحث عن مكان للهبوط قرب العمود، ومن خلال النافذة طلب منه الكابتن أن ينزل عن العمود، ويسارع إلى الصعود بمجرد ما تتوقف الطائرة. وحينما طلب منه أبو عمر أن يُمهله نصفَ ساعة يبدل خلالها بثياب الشغل ثيابَ الوجاهة ومقابلة الحكام، قال له الكابتن:
- تبديل ملابس شو والرئيس يرفض الجلوس ما لم ير حضرتك، مشينا أبوس يدك!!
يمكننا الزعم، أخيراً، أن المسؤولين ورجال المخابرات، والحواشي، والشبيحة الذين يدورون في فلك الحكام المستبدين يسكتون عن المجانين الذين يتعلقون بتلك الشخصيات، ويحاولون التندر بفصولهم وحكاياتهم في المجالس العامة، لسببين، الأول أن هذا الهوس الجنوني يأتي بالبرهان القاطع على أهمية حكامهم، فلولا ذلك ما بلغ الناس قمة الهيام والهوس بسببهم، والثاني أننا في بلاد العرب.. بلاد العجائب!
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية