من المُخبرين إلى الشبيحة.. حَوِّلْ.. خطيب بدلة*

يسود في أوساط الأدباء والصحفيين والمثقفين السوريين، منذ الأيام الأولى لحكم الجنرال حافظ الأسد، شعورٌ بالنقمة والاستياء حَيَالَ الأشخاص الذين يتعاملون مع الأفرع الأمنية المخابراتية، ويزودونها بالوشايات، أو ما يُعْرَفُ بـ "التقارير"..
ويحاول الأدباءُ الإقلالَ من شأن هؤلاء القوم، فبدلاً من أن يسموا الواحد منهم "كاتباً" يقولون إنه "كَتِّيب"، ويستخدمون في الجَمْع صيغةً عامرة بالازدراء هي: الكَتَبَة أو الكَتّيبة!.. وينعتون المُخْبِرَ بألقاب مهينة من مثل: فسفوس، وفاسودي، وعوايني، ولَأْلُوء، ومعرص، وأحياناً يلجؤون إلى الترميز، فإذا ذُكِرَ أحدُهم في مجلسهم، يقولون عنه: فاعل خير، خَطُّه كويس، جهاز مَنَاعة!
والحقيقة أن كلمة (مَنَاعَة) تُعَبِّرُ عن هذه الحالة على نحو دقيق؛ فالأجهزة الأمنية- بحسب ما يزعمُ النظام السوري- تشبه جهاز المناعة غير المرئي الذي يساعد الجسم على مقاومة البكتريا السامة، والجراثيم، والفايروسات... بمعنى أوضح: إن الأجهزة المخابراتية في دولة مواجهة مع العدو الصهيوني الغاشم مثل سورية، لا بد أن يتعرض نظامُها الممانع، (بزعمهم) بين الحين والآخر، إلى مؤامرات صغيرة، أو متوسطة، أو كبيرة،... مؤامرات بالجملة أو بالمفرق، وأحياناً تكون إحدى هذه المؤامرات عالمية، أو كونية،.. كهذه الأخيرة التي تسعى إلى إسقاط النظام الحالي الذي ما فتئ يقض مضجع العدو الصهيوني، منذ أربعين عاماً، ويُجبره على ترك دفاعاته البرية والجوية والبحرية في حالة استنفار دائم!
إن وجود المُخبر "الفسفوس" في مثل هاتيك الظروف، أمرٌ لا مندوحة عنه، فعملُه، في الحقيقة، شبيه بتنظيف مجرور المدينة (الكهريز)، فإنْ لم يُقدم أحدٌ ما على القيام به فإن المياه الوسخة ستطوف على البيوت ويضطر الناس إلى الهرب، أو إلى إنجاز هذا العمل القذر بأنفسهم.
وما دام الأمر يتعلق بأوساط الأدباء والمثقفين، فلا بد أن يكونَ المُخبر الفسفوسُ من الفصيلة ذاتها، ويُدَسَّ فيها بالطريقة التي يسميها المزارعون "التقليم" أو "التطعيم". فكما أن هناك شجرة تفاح مُطَعَّمَة على إجاص، وشجرة زيتون كَبَرْبَري مطعمة على زيتون معراوي، يمكن أن تعثر على شاعر مُطَعَّمٍ على مُخْبِر، أو روائي مُطَعَّمٍ على فسفوس، أو مسرحي مطعم على عوايني، وهكذا.
ههنا لا أجدُ بداً من الخوض في تفاصيل عملية التطعيم الغريبة التي تجري في أوساط الأدباء والصحفيين السوريين. فالشاعر أو القاص أو المسرحي الذي يوفدُ للعمل في القطاع الثقافي، يجب أن يكون موظفاً في أحد الفروع الأمنية براتب شهري، أو متطوعاً يشتغل حباً بالوطن والأب القائد، أو مخبراً متعاقداً يقبض أجرته على القطعة؛.. أي أن تُحسب تعويضاته من خلال ضَرْب عدد التقارير التي ينجزها خلال شهر بتسعيرة التقرير الواحد!..
ويجب أن يكونَ المخبرُ، في الأغلب الأعم، بعثياً،.. ولكي ينجز عمله بنجاح، ينبغي عليه أن ينتسب إلى أحد الأحزاب المعارِضة الراديكالية، مثل حزب العمل الشيوعي، أو المكتب السياسي (جماعة رياض الترك)، أو حزب البعث اليميني الذي يُعرف باسم "بعث العراق"، وتكون هذه الازدواجية التنظيمية بعلم قيادته، وبتأييدها، وربما صرفت له القيادةُ أجراً إضافياً بسبب جرأته، ومقدرته على الاندماج في الحزب الآخر الممنوع والتكيف معه.. بينما هناك مادة في القانون تعاقب مَن يثبتْ عليه الازدواجُ المعاكسُ- كأن يكون ناصرياً، مثلاً، وينتسب إلى حزب البعث- بـ "الإعدام"!!
في مطلع سنة 2011، ومع بداية المؤامرة الكونية على النظام السوري، تلقى "سوق التقارير الأمنية" أو إذا شئتَ "سوق الفَسْفَسَة" ضربة تاريخية موجعة، إذ تخلص معظم السوريين، في المناطق الثائرة، من عقدة الخوف، وما عادوا يهتمون لتقرير حقيقي، أو كيدي، يسطره فسفوس ذو خط جميل لفرع، أو مفرزة أمنية.. وههنا، في الحقيقة، دفعت الضروراتُ القيادةَ السوريةَ الحكيمةَ إلى إيجاد بديل تاريخي عن المخبرين، ألا وهو الإخوة "الشبيحة"، وأوكلت إليهم مهمة تتلخص في إهانة المواطنين السوريين، وتحقيرهم، والدوس على أجسادهم في الساحات العامة.. وهي مهمة- لو تدري يا رعاك الله- نبيلة للغاية، فبموجبها يقع الرعبُ في نفوس هؤلاء المواطنين، فيعد واحدُهم إلى المليون، قبل أن يُقْدِمَ على الانضمام إلى المؤامرة الكونية الرهيبة!
***
ملحق صغير: كنا نجلس في أحد المقاهي بحلب، ربيع 2012، وكان لنا صديق ساخر، يخلط في حديثه الجد بالمزاح، وكان، ذات مرة، يتحدث متصنعاً التأثر، قائلاً:
- أنا أستغرب من الأصدقاء الذين يتحدثون عن الإخوة الشبيحة بسوء.. الآن الأخ الشبيح يتقاضى راتباً مقداره خمسة عشر ألف ليرة سورية يطعم بها أولاده، فهل تريدون منه أن يجلس عاطلاً عن العمل وتجوع أسرته؟! حرام عليكم. أم أنكم تريدون منه أن يشحد عند باب جامع سيدي زكريا؟ بصراحة يا شباب، العمل شرف للإنسان، والبطالة شيء حقير..
وقبل أن يكمل صديقي حديثه انسحب ثلاثة أو أربعة أصدقاء من الجلسة مستائين، معتقدين إنه يتكلم جاداً!
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية