في خماسية مدن الملح، للكاتب الكبير عبد الرحمن منيف، شخصية نمطية تشبه الجوكر، موجودة في كل مكان من حياتنا العربية، مع أنظمة الاستبداد ومع الثورات التي تنشد الحرية، لذلك اخترتها لمقال اليوم، مسلطا الضوء على هذا النوع من البشر للانتباه له ولسلوكه وطريقة تفكيره.
د.صبحي المحملجي
بعد أن قدم لنا منيف، في روايته، وصفا دقيقا وتفصيليا عن الطبيعة والناس والقيم والعادات، للمنطقة قبل اكتشاف النفط، بدأ برصد التغيرات التي حصلت على الإنسان والطبيعة بعد اكتشافه. وتهافت الشركات الأمريكية على المنطقة، وبناء مدينة حران، التي أصبحت فيما بعد مدينتين؛ حران العرب وحران الأمريكان. في هذا الوقت، وقت تحول القرية-القبيلة إلى مدينة لا هوية لها، وصل الدكتور صبحي المحملجي ليكون أحد أهم الناس في وضع حجر الأساس لمستقبل المدن العربية النفطية، طبعا بعد الأمريكان.
فما إن وطأت قدما المحملجي مدينة حران البترولية حتى قرر "أن لا يتخذ قرارا تحت تأثير الغضب أو الانفعال" وأن عليه التفكير بعقل بارد، وهو وريث ثقافة تقول: احذر عدوك مرة، وصديقك ألف مرة، لذلك هو يرى أن الأصدقاء عبء على الإنسان، وهم مثل "الغول والعنقاء"، وبما أن هدفه المال، والمال فقط، فقد كانت أولى زياراته إلى أمير حران، عارضا خدماته الطبية و"الثقافية" والجنسية، والتجسسية، وغير ذلك من خدمات سيقدرها له الأمير.
والمحملجي، في علاقته بالأمير، أو السلطة السياسية التي يمثلها موقع الأمير، يمارس الثقافة الانتهازية بشكلها "الواطي" المتخلف، مطبقا المثل الشعبي القائل: "اليد التي لا تستطيع عليها قبلها وادعُ لها بالكسر"، وهذا ما عبر عنه "لأصحابه" في وصفه للسلطة السياسية في حران: "كلهم حمير من فوق لتحت"، ولكنه نفسه سيقول بعد قليل، وهو بين يدي الأمير "سوف تذكر حران، بعد عشرات السنين، بل بعد مئات السنين، هذا اليوم الأغر المحجل من أيامها، يوم زارها ابن أعظم السلاطين، مولاي الأمير خزعل، ويوم تكرمت يداه ففتحت أنابيب الخير والبركة، على هذا الشعب، فتدفقت المحبة بين الناس، وشملت الخيرات القاصي والداني، وبدأت الحياة الهنية".
وضع الهدف، رسم الخطة، وسار على الدرب، ساهم كطبيب، في قتل المعارضين وتزوير الحقائق، ونشر الإشاعات، استمال المنافسين أو حيدهم، كان يقرأ ما يجول في خاطر "الأمير" فيسارع إلى تنفيذه قبل صدور الأمر بذلك، لذلك لم يمضِ وقت طويل حتى استطاع المحملجي السيطرة على القصر، فقد أرسل "دميته" حماد إلى رئاسة جهاز الأمن، وعين ابن أخته سكرتيرا في القصر، ووضع مع أحد أعوانه فلسفة الإعلام في الإمارة، حتى إنه استقدم من بلاده حلاقا خاصا للقصر، وزوج ابنته للسلطان، وكانت زوجته الجميلة تفتح أمامه الأبواب التي استعصت عليه. وأصبح "ظل السلطان"، فهو الذي يقرر ويتصرف، متدخلا في كل التفاصيل، ولم يكن ينسى، ككل المستشارين الأذكياء، أن القرارات الهامة والمصيرية يجب أن تخرج من بين شفتي السلطان وكأنها من ابتكاره، وليست من ابتكار المحملجي. وكان الدكتور المحملجي، مثله في ذلك مثل كل "حكام الظل" في الأنظمة الاستبدادية العربية، الذين يحكمون من وراء الستار، مقدمين للسلطان المستبد كل ما يحتاجه ابتداء من المنشطات الجنسية وانتهاء بصفقات السلاح.
ولما كان المحملجي من "المثقفين"، الذي درس في الغرب وزار عدة بلدان غربية ديمقراطية، فإنه كان على دراية بالدور الهام الذي يلعبه الإعلام، لذلك أقنع الأمير أن يصدر أمره السامي بإنشاء الصحف والمجلات، قائلا له: "إذا ضمنا أن يقرأ الناس ما نكتب، منعناهم من قراءة ما يكتبه الآخرون، وإذا راقبنا كل شيء، وعرفنا كيف نسد الثغرات، نكون قد كسبنا نصف المعركة".
وقد استطاع المحملجي فعلا أن يربح نصف المعركة، خلال ثلاثين عاما، وهو عمره في الرواية، ولكنه نسي، في نشوة النصر، أن النصف الثاني من المعركة ما زال قائما ومتجددا كل يوم، ولمواجهته يحتاج إلى أسلحة "نوعية" ليس مسموح له امتلاكها الآن بعد أن استنزفت قواه الثلاثون عاما الأولى من عمر المعركة، وبدأ يخسر بعض المواقع الهامة التي سارع خصومه لاحتلالها، وتراجعت حظوته عند السلطان، وهكذا بدأ العد التنازلي لنهاية هيمنته، وما كان يقوله خصومه عنه في السر أصبحوا يقولونه علنا، ويصل إلى مسمعيه: "فهو ابن قحبة، وتيس، وطيز سعدان، ولص وقواد، وسافل، الخ".
وجاء حكم الزمن، وبدأ البناء بالانهيار، خسر المحملجي المال والنفوذ والجاه، وطُرد من حران، فذهب إلى سويسرا لعله يرمم ذاته المشروخة، إلا أن الانهيارات لحقته إلى هناك فخسر زوجته، التي هربت منه عائدة إلى حران، وخسر ابنته التي وُجدت ميتة في أحد الفنادق، بعد أن طلقها السلطان، وتخلى عنه ابنه، وفشل في أن يكون فيلسوف عصره، وهجره "أصدقاؤه" الذين اشتراهم بالمال، وأصبح عاريا أمام الجميع، وقبل ذلك أمام نفسه، ولفته زوبعة رياح الصحراء الحارقة، وهو في سويسرا، فاقتلعته من الطبيعة التي كان يحاول أن يحبها، وأعادته إلى حران التي ساهم في تشييد أعمدتها الرملية الملحية، لتشيد له قبرا من الجنون، في صحراء امتزج رملها بالنفط والدماء، كما هو واقع الحال الآن في سوريا.
وتنتهي الرواية، على أمل أن نتعلم.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية