أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

يا لبناني اقتل فلسطينياً وسورياً.. خطيب بدلة

حينما توفي الشاعر اللبناني سعيد عقل في الثامن والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر 2014، راودتني رغبة قوية في أن أكتب عنه هنا، في جريدة "زمان الوصل". ولكنني قلت لنفسي إن سعيد عقل شاعر، بينما هذه جريدة سياسية، وهو لبناني، والجريدة تعتني بالشأن السوري.

وبما أننا، نحن العربان، قوم ذرائعيون، فقد بدأتُ بتذليل الصعاب، وقلت لنفسي: سعيد عقل شاعر صحيح، ولكن له آراء سياسية!!! ولئن قال، ذات يوم من عام 1982 إنَّ على كل لبناني أن يقتل فلسطينياً؛ فأنا أستطيع أن أضيف: (ويقتل معه سوريَّاً)!!!... ووقتها يستقيم لي الأمر.

في عالم الدراما، هناك قاعدة ذهبية تقول إن الشخصيات الإشكالية هي التي تمنح المؤلف مجالاً واسعاً للإبداع والابتكار. وبمعنى أكثر وضوحاً؛ أقول إن الشخصيةَ الشريرة تمنح الكاتب "السيناريست" فرصة لإدارة صراع درامي غني، في حين تدعونا الشخصية الآدمية، الطيوبة، الحبابة، البسيطة، للحَوْقَلَة!.. وقد روي عن الزعيم فارس الخوري أنه كان بصدد تشكيل وزارة، فرَشَّحَ له أحدُ أصدقائه رجلاً لمقعد وزارة ما، فسأله:
- وما مواصفاته؟
قال: عاقل، وحباب، ومستقيم، يمشي من بيته إلى شغله، بجوار الحائط ويقول يا رب سترك!
فقال له: هذا يصلح أن يكون زوجاً لأختي أو لأختك، أكثر مما يصلح وزيراً!
برأيي المتواضع أن الشخصين اللذين يتحملان المسؤولية في قضية سعيد عقل برمتها، هما عاصي ومنصور الرحباني! لسبب بسيط جداً هو أنهما أخذا من سعيد عقل أجمل ما عنده، وقدماه بطريقة أكثر من فذة، ورسخا قصائده في ضمائر الناس عبر أكثر من ستة عقود من الزمن، فكان أن أوقعانا في مشكلة عويصة تتلخص في السؤال التالي:
- كيف يكون المرء شاعراً كبيراً، وإنسانياً، وشفيفاً، بل وعبقرياً، ويكون، في الوقت نفسه، عنصرياً، وانعزالياً، وذا ميول إجرامية يدعو إلى قتل الناس (إخوتنا الفلسطينيين) على الهوية؟
سأحاول أن أتلمس الجواب الآن، فأقول، إن سعيد عقل مبدعٌ كبير، يمتلك نَفْساً إنسانية عظيمة، وشخصيته أقرب إلى شخصية أبي الطيب المتنبي الذي بلغ إحساسُه بأهميته حداً جعله يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعتْ كلماتي مَن به صممُ
أنامُ ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصمُ
ولكن، ورغم كل هذه العظمة والأبهة التي رآها المتنبي في نفسه، فهو لا يعبئ رأس سعيد عقل، فحينما سئل عنه قال: يعني.. له أبيات!
إذا كنتَ تريد الحق فاعلم أن أكثر ما أضرَّ بنا، نحن السوريين، هو تلك الحالة الإعلامية الخطابية الديماغوجية التي ما فتئ إعلام البعث وحافظ الأسد ينفثها في خلقتنا فترينا كلَّ شيء من منظور خطابه القومي، ومن خلال اتجاره بقضية أشقائنا الفلسطينيين... فمثلاً، لم نكن نرى في شاعر مثل سعيد عقل سوى أنه متعصب لبلده الصغير لبنان، وأنه فينيقي النزعة، ومعادٍ للشعب الفلسطيني الشقيق. وكأن حافظ الأسد لم يخذل الفلسطينيين حينما ذُبحوا في أيلول الأسود سنة 1970، ولم يقتلهم في تل الزعتر بالجملة سنة 1976، ولم يملأ بهم سجون المخابرات العسكرية وأمن الدولة طيلة سنوات حكمه!
ولد سعيد عقل في سنة 1912، وحينما أطلق تصريحه الرهيب ضد الفلسطينيين كان في السبعين من عمره، أي أن مشروعه الإبداعي كان قد اكتمل.. وفي كل الأحوال نحن نستطيع القول بأنه (قال) ولكنه لم (يقتل) أحداً؛ بينما قتل حافظ الأسد وابنُه بشار ما لا يقل عن نصف مليون من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين!
وأنا، شخصياً، وفي كل الأحوال، لا أقبل من سعيد عقل أو غيره من المبدعين أن يلوث تاريخه الإبداعي بمثل هذه التصريحات، لأن للمبدع مصداقيته بين الناس، والمفروض به أن ينشر المحبة والسلام بتصريحاته مثلما ينشرها في ثنايا إبداعه.

يقولون إن سعيد عقل دعا إلى تبني اللغة العامية اللبنانية بديلاً عن العربية الفصيحة، ولكن هذا كان عبارة عن كلام في الريح، فهو الذي كتب، إن كنتم تذكرون: مُرَّ بي، وسائليني يا شآم، وشامُ يا ذا السيفُ، وقرأتُ مجدَكِ، وغنيتُ مكةَ، وسيفٌ فلْيُشْهَرْ، ومِنْ روابينا القمر، ونَسَمَت من صوب سوريا الجنوبُ، وكلها قصائد رائعة جعلنا الرحبانيان نحفظها عن ظهر قلب.

السؤال الذي يطرح نفسه أحياناً: هل الشعر المكتوب بالعامية شعر؟ أو: هل يرقى إلى مستوى الشعر؟
أقول: نعم. لقد كتب سعيد عقل بالعامية ما يرقى إلى مستوى الشعر العظيم.. اقرأ مثلاً:
دقيت. طل الورد عالشباك.
وينها؟ تلبك ما عاد يحكي
ماتت؟ لشو تخبّر؟
أنا واياك، أنا واياك
وحدنا يا ورد رح نبكي!

(157)    هل أعجبتك المقالة (183)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي