منذ بداية الثورة ظهر أن الوقت سيكون له دور حاسم في تقرير مصيرها، كان واضحا أن النظام يسعى باستمرار لكسب المزيد من الوقت والرهان أن ذلك كفيل بإضعاف الثورة وإخمادها تدريجيا عبر إحداث انحرافات أساسية في مسارها وتحويلها باتجاه العسكرة والعنف والطائفية والنزعات القومية والإرهاب، وقام بتصفية الناشطين واختراق صفوف الثورة والمعارضة وتشويه صورتها.
من جهتها فإن المعارضة وقعت في فخ استعجال النصر وإسقاط النظام وجاءت تصرفاتها على هذا الأساس منذ تشكيل المجلس الوطني الذي تم بدفع خارجي لاستنساخ التجربة الليبية تماما بدءا من الرجوع للعلم الوطني القديم وانتهاء بالتدخل العسكري، ولم تستطع التخلص من ذلك مع مرور الوقت وفشلت على الدوام في بناء مؤسساتها بشكل قوي ومتماسك بل باتت هدفا سهلا للاستقطاب الإقليمي والدولي.
في لقاء لي مع ديبلوماسي غربي زار حمص سرا في بدايات الثورة وبحضور ناشط معروف كنا نعتقد أن سقوط النظام وشيك، وأننا لسنا بحاجة لأي دعم خارجي في سبيل ذلك سوى السماح بالتظاهرات السلمية وتغطية الاحتجاجات عن طريق وسائل إعلام عالمية محايدة لتفنيد أكاذيب النظام حول الثورة. وبالفعل فقد أكد وزير خارجية الديبلوماسي المذكور تلك المطالب في مؤتمر صحفي بعد أيام قليلة، ولا أريد إدعاء أو نسبة أي فضل لنا في ذلك وبالطبع لم ننجُ بسهولة من الذيول الأمنية للقاء السري المفترض.
يمكن اعتبار الخطاب الأول لبشار الأسد في مجلس الشعب بعد اندلاع شرارة الاحتجاجات من درعا لحظة مفصلية في تاريخ سورية، فخلافا لتوقعات مؤيديه ومعارضيه على السواء لم يقدم الأسد في خطابه أي تنازلات أو وعود بإصلاحات حقيقية أو حتى أي عقاب واعتذار عن تصرفات رجال مخابراته ضد أهالي درعا، وبالعكس وصف ما يجري بمؤامرة كونية معلنا أن الحرب ضدها ستكون طويلة وستمتد لسنوات قادمة، بالنسبة لي كعضو في مجلس الشعب وقتها، فقد سألتني "قناة فرانس 24" قبل ساعات من موعد الخطاب عن توقعاتي، فأجبت بأن المفترض أن يضع بشار الأسد توصيات ومقترحات المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث المنعقد عام 2005 المتعلقة بحزمة الإصلاحات موضع التنفيذ السريع عبر جدول زمني ولكن الأسد لم يفعل أو يقدم أي شيء.
خطاب الأسد المذكور في مجلس الشعب تحول ساحة للتندر وخاصة على هتافات أعضائه وتصفيقهم الطويل والممجوج خلال الخطاب وتم وصف الأسد بالمنفصل عن الواقع رغم تحقق الكثير مما تحدث به فيما بعد.
من المهم دراسة أسباب تأخير الخطاب لمدة يومين عن الموعد المقرر ومن يقف وراء ذلك، حيث تم إخراج مسيرات شعبية مؤيدة ضخمة في مختلف المدن السورية، وهل كان ذلك تعبيرا عن صراع خفي بين معسكرين داخل النظام، وقتها حمائم تريد تقديم تنازلات وإجراء إصلاحات وصقور لا تقبل بأي شيء سوى الحل الأمني وقمع الاحتجاجات، ولذلك قامت بحشد المسيرات لتأكيد وجهة نظرها؟ وخلال الخطاب كان القلق يبدو على الأسد ومن موقعي القريب منه في المجلس، وقتها شاهدته يتجاوز عدة صفحات بدون قراءتها ويدل على ذلك إنهائه الخطاب بشكل مفاجئ وغير متوقع في الوقت الذي كان الجميع يترقب منه تقديم مبادرة ما في النهاية.
من المهم أيضا معرفة لماذا أعلن الأسد امتداد الحرب لسنوات، وهل كان ذلك مقصودا وجاء استنادا لخبرته الشخصية وتوصيات مستشاريه، أم بناء على معلومات مؤكدة لديه، وفي هذه الحالة يجب معرفة مصدرها وهي تشير بالفعل هنا لتخطيط مسبق لكل ما جرى في سورية من قتل وتخريب وتدمير وتؤكد نظرية المؤامرة الكونية، ولكن تبقى معرفة الطرف الحقيقي الذي يقف وراءها.
يبدو النظام غير مكترث لسوء الأحوال في البلاد وخروج مناطق واسعة عن نطاق سيطرته، وهذا لا يمكن فهمه وتفسيره سوى بوجود أهداف خفية وغير معلنة يخطط للوصول إليها في نهاية المطاف، ولذلك اختار سياسة الحرب الطويلة المفتوحة لتحقيقها من خلال إدخال البلاد في حالة واسعة من الفوضى بوجود تنظيمات متطرفة تساعده على إعادة شرعيته المفقودة وتأكيد روايته الأولى حول الإرهاب، وهذا سيؤدي إما إلى القبول بالنظام كشريك أساسي في الحل السياسي حتى لو كان ذلك بدون الأسد أوانكفاء النظام إلى مناطق قوته ونفوذه في دمشق وحمص والساحل والوصول لتقسيم البلاد حتى لو كان ذلك بدون إعلان مباشر.
من الصعب معرفة السر الخفي وراء حرب النظام على شعبه والتي دمرت البلاد، وامتدت لسنوات وهل ذلك لغاية الحفاظ على السلطة والطائفة فقط، أم أنه قام بتنفيذ أجندة خارجية في المنطقة لإعادة ترتيب وتقسيم المنطقة من جديد على أن يكون شريكا في اللعبة القادمة.
حتى الآن يبدو أن كل ما قالته بثينة شعبان في بداية الثورة قد تحقق وبالتفاصيل المملة، كذلك ويبدو أن النظام استطاع البقاء حتى هذه اللحظة مقابل ضعف وتفكك المعارضة وتراجع الجيش الحر لصالح تنظيم "الدولة الإسلامية" وانحسار موجة الانتقاد الموجه للنظام فقط من قبل المجتمع الدولي وظهور بوادر إعادة تطبيع معه.
وقت السوريين من دم فعلا وقد نزفوا بما يفوق كل التوقعات وقدرة البشر على التحمل، وإذا كان النظام راهن على الوقت من أجل بقائه فليس كل ما يقرر في الكواليس يمكن تنفيذه في النهاية، ولا يمكن للشعب السوري في خاتمة المطاف الذي قدم كل هذه التضحيات سوى أن يستمر في ثورته حتى تحقيق
أهدافها كاملة، وليعلم المستبدون أن الثوار هم من يضحكون أخيرا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية