أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

السجن السياسي في كتاب "حكايات سورية".. هشام الواوي

اعتاد محررُ كتاب "حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد" الأديب السوري الساخر خطيب بدلة أن يعتصر الجمل، والكلمات، وحتى حروف الجر، ليستخرج منها ما يثير الفرح.

يحتفظ "بدلة"، في كتابه "حكايات سورية" الصادر مؤخراً عن دار نون بالإمارات العربية المتحدة، بمكان وثير وفسيح لحكايات سجون أمن الدولة، وكأنه يخبئ أشياء نفيسة يخرجها لزواره من فئة الـ (vip)، ويستعرضها أمامهم، فهو يستضيف، في الفصل الأخير من الكتاب، ثلاثةً من أصحاب "السوابق" والمحكوميات الطويلة، مانحاً إياهم مساحة يعرضون فيها ذكرياتهم التراجيدية، دون أن يتخلى عن مشروعه الضاحك بالطبع.

تنجح حكايات هؤلاء السجناء المناضلين في دفع القارئ لأن يُفرج عن ابتسامة صغيرة رغم كون عينيه مغرورقتين بالدموع. وبرأيي أن معد الكتاب كان محقاً في وضع ذكريات السجن ضمن إطار الحكايات السورية، فالسجن هو الأداة الأساسية في "عدّة" تطويع الجماهير وتدجينها من قبل الديكتاتور.

يقص فرج بيرقدار حكايات سجنه بنفسية شاعر، يكتب وكأنه يرفرف في الفضاء، دون أن يَظهر أثر للحقد على السجان ضمن رفرفاته، هناك (فقط) شفقة وشعور بالتفوق وتحرٍّ دقيق عن لحظات كوميدية يقيم بها الدليل على غباء السجان..
استغباء السجان، في الحقيقة، كان همَّاً للكتّاب الثلاثة، حاولوا تأكيده بدلائل متنوعة.
كان فرج يُلمح إلى ذكاء السجين ومهارته في الالتفاف على القوانين، فيَظْهَرُ غباء السجان وكأنه تحصيلٌ لحاصل، بينما يستخدم الدكتور محمد جمال طحان لهجة منفعلة وكأنه ما زال تحت تأثير لحظات السجن الثقيلة، ويأتي بمفردات بعضها شتم واتهام مباشر مع تلميح إلى لهجة محددة تنم عن غباء العنصر المتحدث بها. أما غسان الجباعي، وهو المُخرج المخضرم، فيلجأ إلى حيل درامية ليصل إلى نتيجة مفادها "أن السجان غبي"، ويسترسل، وكأنه يقدم تتابعاً لصور متلاحقة في فيلم فيتحدث عن الأم، ولحظات السجن الباردة والحارة التي كان السجان يشهدها فاغر الفم، وكأنه من عالم آخر بعيد، رغم التصاقه بمسجونيه كالقيد الحديدي.

يصف محمد جمال الطحان لحظات سجنه بطريقة تسجيلية، يعدد درجات السلم، ويحصي الصفحات التي أُجبر على كتابتها، كان تركيزه شديداً على القسوة والعنف اللذين يميزان سجن المخابرات الجوية، من خلال بدائية الطريقة التي ينتزع فيها المحقق المعلومات، ويرسم شخصية سافلة للمحقق المستهتر بسجينه.

كان لقاء السجين بالسجان مميزاً وصف فيه الطحان المكان بأذنيه، فكانت صورة سمعية شمية دقيقة (رائحة الأبقار، صوت شفط المتة، وجو الكحول المخيم على التحقيق..). وأما لقاء فرج بيرقدار بسجانه فقد كان مختلفاً. المكان وثير والرَجُلان الموجودان فيه يتبادلان النظر بحيرة، والسجين، وبلسان الراوي، يصف مركزه الأخلاقي المتفوق ويشير إلى تهافت السجان بتناقضه وشخصيته غير المتناسقة المرسومة بطريقة المرايا المقعرة.. بينما لقاء غسان جباعي بسجانه كان له تأثير بركاني، السجن كله يقف باستعداد ويطل السجان من عليائه عبر مكبر إذاعي صدئ ليقول (لا يوجد لدينا سجناء سياسيون)! كان لقاءً ألغى فيه السجان كل الواقفين حفاة وهم يستمعون إليه. لم يُغفل غسان أية لحظة انسانية في مثل هذا الموقف خصوصاً عندما ذكر العيون الخجلة لحملة البنادق من الحراس وقد خلع عنهم بكرم نبيل صفة سجانين في ظل وجود قائدهم الأكبر.

استخدم غسان الجباعي الرموز والإشارات بكثرة في عملية التوصيل، كأن للسيمياء لوناً انفجارياً عندما قص حكاية بيان الحناوي الذي خرج من السجن ودخل قريته ثم قرع أول باب، وعانق أول سيدة، فكان الباب باب بيته والسيدة كانت أمه، لم تكن على الباب أي نقطة علام تثير شهية الخارجين من السجون، فكل الأبواب متشابهة وكل السيدات ينتظرن سجيناً أمضى نصف عمره في المعتقل، وهكذا وبأقل قدر من الصفحات أوصل غسان لقارئه حجم السجن السوري وفداحة فجيعة الأمهات.

المكان عند الدكتور طحان كان معيارياً ينحصر بكوريدور طويل يسير فيه تم توصيفه هندسياً، فهناك من يعطيه توجيهات مرورية وصولاً إلى غرفة مغلقة بنوافذ عالية.. فيما يحفر فرج بيرقدار أمكنة جديدة في السجن أكبر من تلك التي يعرفها السجان نفسه، فهناك قاووش للبراءة يتحدث عنه مدير السجن بسذاجة فيما يبتسم فرج عند ذكر قاووش البراءة فتفرج ابتسامته عن ذلك المدى الذي يفصل مدير السجن برتبه العسكرية عن مسجونين يعترف حتى اسم قاووشهم ببراءتهم.

أخفى فرج بيرقدار وراء طرافته حكماً عميقة واستخدمها بمداها الأقصى فبدا كوميدياً يقتنص لحظات محددة يعمل على تحويلها إلى كائن من جص ينفع بوصفه "وسيلة إيضاح" علمية، وهَذَّب حكاياته لتبدو كثيفة مكتنزة وغنية تدعو القارئ للمشاركة في صنع اللحظة "الكوميدرامية"، فيما أصر الدكتور طحان على طريقته بالتوثيق التي يلتقط فيها صورة للمشهد بعينيه، وإن كان تحت تأثير "الطماشة"، فيترك أذنيه تقرآن المكان والوجوه، ويفتح صيوانيهما على اتساعهما ليلتقطا كل شيء يقع ضمن مجالهما (آهة السجين، وزفرة السجان، وصوت ارتطام القيود..) كفوتوغرافي لم يتدخل بصياغة المشهد وكأنه لا يؤمن بالفوتوشوب!. فيما لاذ غسان الجباعي بصور أيقونية تقليدية (الأم والضيعة والحنين..) وأصر على أن يحضر كمخرج داخل السجن فكانت تجربة فريدة في تاريخ المسرح حين يوشوش الممثل حواراته لمشاهده في أجمل طريقة توصيل فنية.

هذه النصوص، على قصرها، وتقسيمها إلى فقرات، تبدو منتقاة بعناية، وتظهر وكأنها مخيض الزبدة، تزخرف الفصل الأخير من كتاب يجمع شتات حكايات سورية علاقتها بالاستبداد شديدة الوثوق.

هشام الواوي - مساهمة لــ"زمان الوصل"
(195)    هل أعجبتك المقالة (172)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي