قافلة جميل الأسد.. خطيب بدلة

كان المواطن السوري، في العهود السابقة، يتباهى أمام أهله، وأهل بلدته، بكونه على معرفة برجل مليونير، أو بمدير شركة إنتاجية، أو دائرة حكومية، أو وزير، أو نائب في البرلمان، أو قاضٍ في السرايا... حتى إن النساء، في الأعراس القروية، إذا أردنَ أن يمتدحن رجلاً معروفاً في القرية يترغلن بأهزوجة تقول:
فلان أبو الكرم والعطايا
إذا فات على سراية حلب
بتوقف لُهْ كل السرايا!
وأما في عهد الأسدين، الأب والابن، فأصبح المواطن السوري العادي يتباهى بأنه على معرفة وطيدة بعضو في شعبة الحزب، أو في الفرع، القيادة القطرية، أو في منظمة الشبيبة، أو في الطلائع، أو اتحاد الحرفيين.. وأما المواطن المدعوم، فتكون لديه معرفة بمساعد أول في الأمن العسكري، أو نقيب في أمن الدولة، أو مقدم في القصر الجمهوري.. والمحظوظ من هؤلاء القوم هو الذي يتعرف على واحد مقرب من آل الأسد أو شاليش أو مخلوف، أو، أن يكون له علاقة ما، بالشبيحة.
وعلى ذكر الشبيحة..
كانت قافلة التهريب التابعة للرفيق جميل الأسد مؤلفة من ست سيارات سياحية، سوداء، زجاجُها داكن (فيميه). وكانت تنطلق من ريف اللاذقية في الصباح الباكر من كل يوم، سالكة طريق حلب القديم الذي يمر من جسر الشغور وأريحا حتى سراقب حيث تنعطف يساراً وتتابع سيرها على الأتستراد الدولي إلى حلب، حيث تفرغ حمولتها لدى العملاء، وفي آخر النهار تعود من حيث أتت. ولأنها من نوع المرسيدس "شَبَح" فقد عُرف راكبوها باسم "الشَبّيحة".
لم يكن أحدٌ من أهالي البلدات والقرى التي تقع على طريق القافلة يعرف شيئاً عن طبيعة المواد التي تنقلها السيارات الست، ولكن الشائعات كانت تقول إنهم يهربون السجائر الأجنبية التي تباع في الموانئ البحرية التي يمتلك المعلم جميل الحق في احتكارها، والمخدرات، والأسلحة، والآثار، وأشياء أخرى من هذا القبيل.
رويت عن قافلة العم جميل هذه حكايات تصب كلها في خانة الاعتداء العبثي على كرامة السوريين الذين يسوقهم حظهم السيء إلى المرور في طريق القافلة، فمن يُطلق زموراً على الطريق العام، وهو غير منتبه لمرور القافلة، ينزل عليه غضب الله تعالى، إذ سرعان من تتوقف السيارات الست إلى يمين الطريق وينزل الشبيحة منها حاملين الكلاشينكوفات الروسية، ويُنزلون سائقاً أو اثنين أو ثلاثة ممن يشتبه بأن أحدهم أطلق الزمور، يعجقون عليهم، ويتركونهم على الأرض وهم يتخبطون بالآلام والكدمات، ويعودون إلى سياراتهم ليستأنفوا طريقهم بمرح شديد..
وفي يوم من الأيام، كان فتى من جسر الشغور يمشي على الطريق بظاهر بالبلدة، فتوقفت القافلة بقربه، ونزل أحد الشبيحة وأعطاه جزرة، وقال له:
- شو اسمها هي ولاه كر؟
قال: جزرة.
قال له: حلال عليك. طلعت ذكي. امسكها لأشوف بيدك اليمين.
نفذ الفتى الأمر. فقال له الشبيح:
- ابقى واقف هون وأنت شايل الجزرة لحتى نرجع أنا والشباب المسا، وإن ما لقيتك هون والله لكسر راسك يا حيوان.
بقي الولد المسكين واقفاً أكثر من ست ساعات. وكل الذين مروا به كانوا يستغربون منه هذه الوقفة، ويقترحون عليه أن يهرب بجلده، ولكنه لم يكن ليجرؤ على ذلك، وبقي واقفاً حتى عادت القافلة، وتوقفت، ففتح الشبيح نافذة السيارة وقال له: ولا حيوان، هاي غير الجزرة اللي عطيتك ياها!
ونزل الشبيحة الآخرون، أشبعوه ركلاً ومضوا.
ملاحظة أولى: بلغت ثروة جميل الأسد- بحسب ما تداولت مواقع التواصل الاجتماعي- في لحظة وفاته، خمسة مليارات ونصف المليار من الدولارات، وأنه يمتلك 163 عقاراً في سورية وغيرها، وبالأخص في فرنسا، عدا عن الأموال السائلة المودعة في البنوك الأوربية.
ملاحظة ثانية: راتب الخريج الجامعي في سورية، بتاريخ كتابة هذه المقالة هو 20 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 96 دولاراً أميريكياً.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية