أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

إذن... فلنذبح "النصرة" ونواجه الدبابات بزيتون إدلب!

"النصرة" في بعض الأوقات أثبتت براغماتيّة تتفوق على القوى السياسية للمعارضة

السلمية هي الخيار الرومانسي في الصراعات مع أنظمة ديكتاتورية تتدرّع بالعسكر، فالتجربة مع النظام السوري أثبتت أن كل غابات الزيتون بأغصانها في إدلب ما كانت لتوقف حاجزاً واحداً عن قصف المدنيين، وأن كل ياسمين دمشق ونعناع حلب وسوسن حمص ليست بقادرة على إعاقة إقلاع طائرة محملة بالبراميل المتفجرة لتحيل الأحياء في تلك المناطق إلى ركام فوق ساكنيها.

مناسبة الحديث هنا هي الهجمة الأخيرة لعدد كبير من الشخصيات العامّة من مثقفين وممثلي تيارات مختلفة تتقاطع جميعها عند رفض تصنيف انتصار الثوار في وادي الضيف ومعسكر الحامدية بريف إدلب إنجازاً لمصلحة سوريا، بالقدر الذي يشكل فيه خطراً على مستقبل البلاد لأن "جبهة النصرة" هي التي قادت العملية، والشواهد على مواقف تلك الشريحة كثيرة، ومثيرة للدهشة بوصفها تنحاز إلى رؤيتها نحو التنظيمات الإسلامية دون محاولة تفكيك الصورة، وتقديم رؤية واقعية لإنقاذ البلاد من خطر السقوط في مشاريع أسلمتها.

يتجاهل المدافعون عن قيام الدولة المدنية، ومناصرو الثورة السلمية -وهو حقهم- حقيقة ما يجري في سوريا عن قصد أو غير قصد، سوى أنهم يبثّون الرعب من مستقبل البلاد في ظل حكم إسلامي يتجاوز كل الخصوصيات والحقائق التاريخية لطبيعة المكون البشري لهذه البلاد.

وإذا سلّمنا -بالطبيعة- بمخاطر الفكر المتطرف على المستوى الداخلي والإقليمي وحتى الدّولي، فإن معالجة هذا الواقع لا تكون إلا بقراءة سليمة للتطورات التي جعلت التنظيمات الإسلامية تتصدر العمل العسكري، ومنها "جبهة النصرة" التي تمكنت من إحراز تقدّم لافت على الأرض بالتعاون مع فصائل وتشكيلات أخرى خصوصاً على جبهتي إدلب والجنوب.

المطلوب هو القيام بمراجعة شاملة لأداء النخب ودعاة الدولة المدنية، ووضع مشروع حقيقي لفهم طبيعة الصراع وأسباب انخراط الشباب على الأرض في العمل المسلح تحت مظلّة "جبهة النصرة"، وغيرها من التشكيلات ذات التوجهات الإسلامية، وفي إطار المكاشفة علينا أن نعترف بأن "جبهة النصرة" تضم آلاف المقاتلين من الشباب الذين تقطعت بهم السبل، وكان بعضهم وصل إلى حدّ اليأس جرّاء الفظائع والانتهاكات التي رآها وكان أحد ضحاياها، وليس خافياً أن كل تلك الآلاف لم تجد إطاراً لها بعد دخول الثورة مرحلة العسكرة، إلى درجة أن بندقية واحدة لدى الجيش الحرّ كان يتناوب عليها مقاتلان أو ثلاثة، إن مات الأوّل وصلت للثاني.

ليس دور المثقف والسياسي تقديم آراء منبتّةٍ حول الخطر إذا كان الأمر مرتبطاً بالآخر وحقّه في الحياة، وإلا فإن إقصاء هذا الآخر خصوصاً مع الهجمة الحاصلة على الإرهاب بتحالف دولي يعني دعوة صريحة لقتله وكأنّ السلميّة في الممارسة هي سلوك يجب أن تنتهجه المجتمعات فيما يجوز قتل تلك المجتمعات عند أوّل خروج لها عن هذا المنهج.

لا يمكن شنّ هجوم على أيديولوجيات "النصرة" على قاعدة "الإقصاء التنافسي" أو ما يعرف بقانون "غاوس"، لأن الجميع سيصلون إلى طريق مسدود فالقانون يقول بطبيعة الحال "المتنافسان تماماً لا يتعايشان" - (complete competitions cannot coexist) - فدعاة الدولة المدينة ليسوا منافسين للنصرة وغيرها من التيارات الإسلامية، فمعظم يهاجمون هذا التنظيم بدافع الخوف من الخطر الذي يتهدد أمنهم الذاتي، أو تركيبة المجتمع، ولا ينتمون إلى بيئة الأكثرية بحكم الدين أو بحكم الأيديولوجيا والفكر، وهو أمر طبيعي لا ينفي أحقية هذه المخاوف.

ليس هناك حلّ إلا بالتفكير في إعادة الشباب المنخرط مع الجماعات الإسلامية إلى صفوف مقاتلي الجيش الحرّ بعد تأهيله، وليس اعتبارهم جزءاً من قوىً ظلاميّة إلا إمعاناً في الإقصاء وتعميق شعورهم بأنهم مستهدفون مهما كانت النتائج.

أما وقد أثبتت التجارب أن المعركة ضد الإرهاب هي حرب عقول ومناصحة أوّلاً، لا حرب إقصاء، فإن ثمة من يجلس خلف شاشات الكمبيوتر ليقول للسوريين إن طرد "النصرة" لقوات النظام في إدلب وحوران هو خطرٌ يهددّ مستقبلهم، دون أن يحدّث أصحاب البيوت المرميّين في أربع رياح الأرض عن فكرته لعودتهم إلى بيوتهم، ولا هو قادر أو مؤهل لإنجاز مشروع سياسي -اجتماعي- اقتصادي يستجيب لحاجات الناس المسفوكة دماؤهم على طول البلاد وعرضها.

السؤال الكبير هو أين سيصل الجميع باستعداء تشكيلات إسلامية يمكن إعادة ترتيب أوضاع عناصرها، وماذا لو أن المجتمع السنّي في سوريا أجاب على طرح الإقصاء الذي يحمل خطر قتل عشرات الآلاف من أبنائه بردٍّ إقصائي مماثل.

لعلها الكارثة التي تعني أن البلاد ذاهبة إلى تكوينٍ آخر مختلف، وهنا مكمن الخطورة الحقيقي.
لا بد من استيعاب طبيعة هذا التنظيم، وتركيبته وتداخلاته وتطوره خلال أربع سنوات مضت، إذ يجب الاعتراف بأنه يتكون من ثلاث طبقات الأولى تشكل العامل الأقوى وتتكون من الشباب السوري الذي وجد نفسه داخلها بعد انسداد الأفق ومنع تمويل وتسليح الجيش الحر، والثانية وهي لا تشكل 15 بالمئة من عناصر التنظيم وهي مجموعات من دول عربية وغير عربية، والثالثة هي من بقايا تنظيم القاعدة والمنشقين عن تنظيم دولة العراق، وهم في معظمهم مقاتلون متمرّسون منهم من خرج من سجون النظام وسجون العراق بعد منتصف عام 2011 ما يبرهن على أن الاستخبارات السورية الإيرانية ليست بعيدة عن أسباب توسع وانتشار التنظيم وصولا إلى انقلابه غالب الأحيان ضدّهم مع دخول قيادات جديدة ليست لقوى الاستخبارات سلطة فعلية عليها.

تفكيك المشكلة يتطلب وضع الحقائق على الطاولة، فليست هناك عائلة في مناطق سوريا إلا وانخرط أحد أبنائها في القتال إلى جانب "النصرة" على اعتبار أنها كانت تملك العتاد والدّعم.

"النصرة" بدأت كتنظيم عقائدي لكنها انتهت إلى قوّة أمر واقع تتداخل فيها معطيات اجتماعية سياسية اقتصادية، وهو ما يتطلب تفكيك الأسباب وصولا للتمكن من استرداد أبناء السوريين المنخرطين فيها، دون هدر دمهم، واستعدائهم.

ومن غير المبالغ فيه القول إن بعض الجماعات الإسلامية وبينها "النصرة" في بعض الأوقات أثبتت براغماتيّة تتفوق على القوى السياسية للمعارضة على الأرض عندما عزلت نفسها عن الشأن العام بطلب من المجتمعات المحلية، كما حصل في درعا، وانشغلت بمحاربة النظام.

علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
(178)    هل أعجبتك المقالة (178)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي