أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

قصة عادية لمواطن سوري.. ميخائيل سعد

كتب لي الشاب عبد الله، القادم من سوريا حديثا، إنه يريد التعرف علي شخصيا بعد أن وصل إلى مونتريال قبل أيام، فاعتذرت منه لأنني كنت موجودا في اسطمبول، وقتها، وسأبقى لمدة أربعة أشهر. قبل أن أنهي الأسبوع على وصولي مونتريال قادما من "الآستانة" كتب عبد الله مرة جديدة مهنئا بعودتي بالسلامة وطالبا موعدا للقاء. كنت سعيدا بإصرار الشاب على التعرف علي، وسعيدا بذاكرته، أول لأقل تنظيمه لأوراقه ومواعيده.


اتفقنا على اللقاء البارحة في أحد المراكز التجارية، وفي الموعد كان الشاب بقرب طاولتي مادا يده للمصافحة. كنت قد حاولت التدقيق في صورته، وقدرت أن عمره قد يكون بحدود الثلاثين، ولكن المفاجأة كانت أنه دون الخامسة والعشرين من العمر.


تحدث بحميمية وسهولة عن نفسه وعائلته الثرية، وعن تحصيله العلمي العالي، وعن تجارته التي بدأها مبكرا كي لا يطلب من أهله، وعن الصفقات التجارية التي عقدها مع جهات حكومية، ودرت عليه ربحا جيدا، مما مكنه من شراء بيت، فهو، كما قال، من أنصار الزواج المبكر الذي يتيح له أن يكون "نظيف الفراش".


لم يكن ثائرا، ولكنه لم يكن ضد الثورة، كانت أمور حياته ميسرة بفضل علاقات والده التاجر مع حكام المدينة ورؤوساء الفروع الأمنية، يدفع ما يفرضونه عليه وينال التسهيلات التي تسمح له بوصول بضاعته إلى الأسواق، علما أن هذه البضاعة كانت دائما نظامية الدخول، ومسجلة في الجمارك جسب الأصول، وضريبتها مدفوعة على آخر قرش، كما قال الشاب.

بداية رحلة العذاب

قال الشاب: كنت في الجامعة ألقي محاضرتي، فأنا معيد، عندما دخل أحد الأشخاص قاعة المحاضرات، وطلب مني الذهاب فورا إلى مكتب عميد الكلية، وهناك وجدت دورية مخابرات بانتظاري، وطلبوا مني مرافقتهم إلى الفرع لأن "المعلم" يريد أن يطرح علي بعض الأسئلة.


كان وجه العميد، الذي حاولت الاستنجاد به، ينقط سما وشماتة، حتى أنني لم أستطع التقاط نظرة تعاطف من عينيه. عندما وصلت إلى فرع الأمن السياسي عرفت أن تقريرا قد كتبه أحد الأصدقاء والمنافسين لي في العرض الأخير الذي قدمته للحكومة، وكان هو قد قدم عرضه، ولكن مع وعود بدفع ملايين لأحد المسؤولين إذا رسى عليه العقد. كان رئيس الفرع متفهما لوضعي، وأحد الذين يتقاضون راتبا شهريا من والدي، لذلك رأى أن الفرصة مناسبة لمزيد من الابتزاز، فاتصل بوالدي يخبره بأني موجود عنده في الفرع بتهمة خطيرة، قد تكون "الإرهاب".


وبدأ مشوار الابتزاز المالي لأسرتي. وعندما أخذوا كل ما طلبوه، تم تحويلي إلى "الجنائية"، وهناك تكرر السيناريو نفسه، والقول لوالدي إنني قد أُتهم "بالإرهاب" لأن لي صداقات ومعارف مع بعض أبناء الحي الذين هجروا المدينة والتحقوا "بالإرهابيين"، ولما كان والدي يعرف ألعابهم وطرق الابتزاز التي يستخدمونها، فقد وافق عليها كلها، لأنه، كما قال، لا يستطيع المقامرة باللعب معهم فروح ابنه بين أيديهم، وقد سمع قصصا عن شباب تم اعتقالم وقتلهم لأسباب أقل من تهمة "الإرهاب". في الجنائية، وبعد أن قبضوا الملايين المطلوبة، تم تحويلي إلى المشفى الوطني، حيث بقيت فيه ٨٠ يوما مقابل مليون ليرة. بعد الانتهاء من المشفى أعادتني الجنائية إلى الشعبة السياسية حيث تم التحقيق معي عنك.


عند اعتقالي كان كمبيوتري المحمول معي، وقد تمت مصادرته مع كلمة السر المتعلقة بالفيسبوك، وكلمة سر الإيميل. وعندما أعادوني إليهم، قام أحد الضباط بالتحقيق معي لمدة يوم كامل، كان يريد اتهامي بأنني على علاقة سياسية معك، وعندما أكدت له أنني لا أعرفك شخصيا أبدا، سألني لماذا كل مقالاتك موجودة على كمبيوتري، وعذرا منك الآن استاذ ميخائيل، قلت له: إنني أريد الاطلاع على الأفكار المعادية للوطن ولسيادة الرئيس، ومقالات هذا الشخص خير مثال على ذلك، فلغته سهلة، وقريبة من لغة الناس العاديين، وهو يبث أفكاره الخطيرة من خلالها، لذلك كنت أحتفظ بها. وقد قال لي الضابط المحقق أكثر من مرة، أثناء التحقيق، إن ميخائيل سعد قد يكون عميلا إسرائيليا وعليك أن تقول كل ما تعرفه عن هذا الحقير. ولما تأكد أنني لا أعرفك نهائيا، قال لي إنه سيحولني إلى المحكمة، التي قد تطلب تحويلي إلى محكمة الإرهاب في دمشق.

حتى هذه اللحظة كان والدي قد باع بيتي والمكتب وتجارتي وبعض تجارته، كي يسدد الأموال التي كان يطلبها رجال الأمن والوسطاء الذي كانوا يفرضون أنفسهم فرضا، مطلقين الوعود بالإفراج عني، ولكن ما إن تصبح الأموال بين أيديهم حتى كانوا يختفون. لقد رأيت بعيني كيف كانوا يعتقلون الناس من الشوارع بمجرد معرفتهم أن الوضع المالي لأهاليهم مريح ويمكنهم دفع المال مقابل إطلاق سراحهم، علما أن قسما كبيرا من هؤلاء الناس كانوا في العلن من مؤيدي النظام.

في سجن عدرا

عندما يكون معك مال يمكنك أن تحصل على كل ما تريده، حتى في السجون، فالشرطة فقراء وعندهم عائلات كبيرة العدد، وقانون البلد الفعلي هو "الرشوة"، لذلك كان من السهل أن تحصل على مكان جيد للنوم، بدل النوم عند باب القاووش، ويمكنك الحصول على هاتف مع كاميرة وإنترنيت، وهذا ما كان يساعد في إرسال الصور من داخل السجن.


كان الجميع ينهب الجميع، من رئيس المصرف المركزي أديب ميالة الذي كان كل شهر يلعب بسعر صرف الدولار كي يحصل رواتب موظفي الدولة من الناس، وانتهاء برامي مخلوف الذي كان المسؤول عن تغذية المساجين في سجن عدرا، ووصولا إلى الشرطي، والجميع يعرف أن المال هو حلال العقد، وبما أن والدي كان ورائي دائما، والمال يصنلي، فقد كنت أختار الأماكن التي كنت أحب العمل فيها، وآخرها في مستوصف السجن.


ومن الحوادث المثيرة، أن سيدة جاءت أحد الأيام لتصوير صدرها، وقد عرفت أنني سجين، فطلبت مني أن أخبر أخاها السجين معنا في القاووش أن أمه موجودة أيضا في السجن، وعليه أن يتقدم بطلب لإدارة السجن كي يراها. وهكذا عرفت أن الأم والبنت والابن في السجن وأن الوالد كان قد استشهد سابقا، في العام الثاني للثورة.


بعد أن أصدر بشار الأسد عفوه بمناسبة ذكرى وفاة والده، علمنا أن الدوريات المنتشرة على الطرق تعتقل الناس على الشبهة، وكان معنا شاب عمره أقل من عشرين عاما، وقد شمله العفو ولكنه يخاف أن يعتقل من جديد إذا خرج وحيدا، فطلب منه رقم هاتف أحد أفراد أسرته لأتصل به، فقد كان معي هاتف نقال، دفعت ثمنه للشرطي ٤٠ ألف ليرة، وعندما اتصلت ببيت الشاب ردت صبية قالت إنها أخت الشاب الذي أتكلم باسمه، ولكن قد تم تبليغهم انه مات منذ أشهر، وعندما أكدت لها أن أخاها معي في المهجع بدأت بالبكاء، واستلمت الأم السماعة وتكرر الاستجواب والبكاء ووضفت لهم الشاب فتأكدوا أنه هو بعينه، ثم كلمني العم فكررت ما قلته، وأضفت أن ابنهم سيخرج في الثامنة من السجن، وعليهم أن يكونوا في السادسة صباخا امام باب السجن، وهذا ما حصل.

٦٥ ألف دولار ثمن تقرير كاذب
 أخيرا صدر قرار محكمة "الإرهاب" ينفي عني التهمة، وتأمر المحكمة في النهاية بإطلاق سراحي، دون أن يذيل الحكم بمنعي من المغادرة، وبعد شهرين كنت في مونتريال كطالب دراسات عليا، وكنت مقبولا في إحدي الجامعات منذ سنتين، لذلك لم أجد صعوبة في الوصول إلى كندا. وكان والدي قد قد احصى المال الذي دفعناه من اجل رد معلومات كاذبة في تقرير لأحد "الأصدقاء" المنافسين، فكان المبلغ الإجمالي ٦٥ ألف دولار أمريكي، وثمانية أشهر من السجن في المعتقلات السورية، وكنت سعيد الحظ، لأن غيري ما يزال قابعا في السجون، أو أنه مات تحت التعذيب، وكان لا بد من رحلة العذاب هذه كي يكتشف الإنسان السوري أن المال و"الجاه" لا يحميانه من براثن "الأسد"، وأن الثورة يجب أن تنتصر.

(152)    هل أعجبتك المقالة (147)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي