أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الحكومة السورية المؤقتة: مساهمة المعارضة في مشروع التقسيم.. محمدصبرا*

الخطر داهم وحقيقي في ظل هذا الجموح للسلطة

يقول العلامة ابن خلدون: "وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره". إن دور أي قائد سياسي هو استشراف حركة التغير الممكن حدوثها في المستقبل وبناء خطته الاستراتيجية وحركته التكتيكية استناداً إلى هذه المآلات الممكنة الحدوث من خلال تحليل دقيق وواقعي لموازين القوى، ولانزياحات هذه الموازين، والاتجاه الذي ستسير فيه في مستقبل الأيام. فالسياسي الذي يستطيع تغيير حركته بالانسجام مع حوادث الواقع وتبدلاتها، وبالتناغم مع تغير موازين القوى، هو السياسي الحقيقي، بخاصة عندما يجنبه هذا التغيير بعض الخسائر التي كان يمكن أن تحصل فيما لو بقي مصراً على نهجه السابق، وفي جميع الأحوال تبقى الأهداف التي رسمها لنفسه ثابتة نسبياً.

أما في حال تغيرت موازين القوى كافة، وتغيرت الوقائع، وبقي السياسي متحجراً، ومصراً على نهج معين أو أسلوب محدد، فلا يمكن آنذاك أن نكون إزاء سياسي بالمعنى الحقيقي، بل أمام كائن منفصل عن الواقع، يعيش عالمه الوهمي، المبني أساسا على تفكير رغبوي ساذج، وغير مؤسس على حقائق الواقع، وهذا ما سيدفعه بالضرورة إلى الغرق، وإغراق القضية التي يتبناها بالكامل.

إن ما يستدعي هذه المقدمة هو الكم الهائل من اللاعقلانية التي تحكم سلوك المعارضة السورية، ولا سيما الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة، خاصة في قضية أساسية وجوهرية هي قضية وجود حكومة سورية مؤقتة.

فمنذ بداية تأسيس الائتلاف الوطني جاء من يحمل هذا المشروع ببشارات ووعود كثيرة، كان من أهمها أن خزائن الدول ستفتح على مصراعيها للوليد الجديد، وأنه بمجرد تأسيس حكومة مؤقتة ستنهال الاعترافات عليها، وسيتم تسليمها مقعد سورية في الجامعة العربية، ومن ثم سيكون بإمكانها أن تطرد وفد النظام من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحل محله باعتبارها صارت الجهة الشرعية الوحيدة الممثلة للدولة السورية، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية طلبها للمساعدة العسكرية الأجنبية، باعتبارها الحكومة الشرعية.

راودت هذه الأحلام أذهان الكثيرين، وساهم البعض عن حسن نية أو عن قصد مبيت في تغذية هذا الوهم، وأصدرت الجامعة العربية في هذا السياق قرارها الشهير رقم (7595) بتاريخ 6/3/2013، الذي نص على اعتبار الائتلاف هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري، ونص في فقرته الثانية على دعوة الائتلاف الوطني إلى تأليف هيئة تنفيذية لشغل مقعد سورية في الجامعة العربية.

كان التفسير الذي اعتمدته المعارضة السورية لتعبير "الهيئة التنفيذية" هو الحكومة المؤقتة التي نص النظام الأساسي للائتلاف الوطني على تشكيلها في المادة 27 منه، والعجيب في الموضوع أن أعضاء الائتلاف فشلوا في تأليف حكومة مؤقتة بسبب صراعاتهم على الحصص والنفوذ، فقد تمت تسمية السيد غسان هيتو في شهر نيسان من عام 2013 لتأليف حكومة مؤقتة، لكنه فشل في ذلك بسبب خلافات أعضاء الائتلاف حول حصص كل كتلة من كتله، الأمر الذي فوت على الائتلاف فرصة شغل مقعد سورية في الجامعة العربية ونزع الشرعية عن نظام الأسد آنذاك، يوم كان المناخ العربي والدولي يمكن أن يسمح بمثل هذا الأمر.

ما يثير في النفس مرارة كبيرة هو أن أعضاء الائتلاف أنفسهم قاموا بالاتفاق على تأليف حكومة مؤقتة في الوقت الذي كان واضحاً فيه أن الظروف تغيرت ولم تعد مواتية، فقد تم تأليف الحكومة السورية المؤقتة في شهر تشرين الثاني من عام 2013، أي بعد الهجوم الكيماوي الذي قام به النظام بتاريخ 21/8/2013، وبعد توقيع الاتفاق الدولي بين النظام والمجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية بتاريخ 27/9/2013 والذي تبناه مجلس الأمن بالقرار رقم 2118 الصادر في التاريخ نفسه.

هذا يعني أن المعارضة عندما شكلت حكومة مؤقتة كانت تعلم علم اليقين أن النظام قد أصبح شريكاً للمجتمع الدولي في اتفاقية نزع السلاح الكيماوي، ومن غير المعقول أن يقوم المجتمع الدولي بنزع شرعية النظام بعد توقيع هذه الاتفاقية معه، ولقد كان واضحاً تغير موقف الجامعة العربية، التي رفضت تسليم المقعد للحكومة المؤقتة بعد تشكيل هذه الحكومة ومطالبة الائتلاف بذلك، بل لقد كانت قمة الكويت واضحة في دلالاتها الرمزية من حيث إن موضوع نزع شرعية النظام قد بات من الماضي، فبعد علم الثورة الذي رفرف في قمة الدوحة في آذار من عام 2013، ظهر علم النظام على طاولة القمة، ومنع وفد الائتلاف من الجلوس على هذه الطاولة، ثم صارح الأمين العام لجامعة الدول العربية وفد الائتلاف الذي زار القاهرة في شهر أيلول بأن تسليم مقعد سورية للمعارضة أمر مرفوض.

إن كل هذه الوقائع والدلالات تجعل من وجود حكومة سورية مؤقتة مشروعاً للتقسيم، خاصة بعد التصريحات العلنية التي أدلى بها السيد أحمد طعمة رئيس الحكومة المؤقتة، والتي قال فيها إن المنطقة العازلة ستديرها الحكومة المؤقتة. هذا ببساطة يعني أن المعارضة تسعى لاقتطاع جزء من الإقليم السوري، ووضع حكومة تديره في ظل إدراكها أن العالم أجمع، بما فيه جميع الدول العربية، لن تسحب شرعية النظام في تمثيل الدولة السورية.

ومن أغرب ما يمكن أن نصل إليه هو ذلك التطاحن والصراع بين أعضاء الائتلاف على حصص الحكومة، وتمسك رئيس الحكومة بهذا اللقب بغض النظر عن مدى الخطورة الجدية التي بات يشكلها وجود هذه الحكومة على وحدة الكيان السوري.

لقد تقدم كثيرون بنصائح لأعضاء الائتلاف يرجونهم فيها إعادة بحث هذا الموضوع، والنظر في مدى الخطورة القانونية على وحدة سورية، ومع ذلك صموا آذانهم ومضوا في صراعاتهم، ولقد كنت شخصيا مدافعاً عن وجود حكومة مؤقتة في عام 2013 وعملت مستشارا قانونيا لهذه الحكومة، إلا أنني وبعد إدراكي أن العالم والدول العربية لن تسحب الاعتراف من حكومة النظام، استقلت من هذه الوظيفة منذ بداية هذا العام، منبهاً إلى ضرورة التفكير مرة ثانية، وبشكل متجرد عن الأنانيات الشخصية ولوثة الألقاب الفارغة، فالخطر داهم وحقيقي في ظل هذا الجموح للسلطة ولوجود منطقة عازلة بات رئيس الحكومة المؤقتة يطالب بها ليحكم جزءاً من الأرض السورية، ففي ظل وجود علمين وجيشين وحكومتين ونظامين قضائيين يعملان بقانونين مختلفين نكون قد أنجزنا جميع متطلبات تقسيم سورية، وتتحمل المعارضة في هذا الأمر قسطاً ليس هيناً من المسؤولية.

إن الجميع مطالبون الآن، بشكل جاد وسريع، بتدارك هذا الأمر، والتفكير ببدائل أكثر عقلانية، آمنة ومانعة لتمرير مشروع التقسيم الذي يمكن أن يتقاطع فعلياً مع ما يسعى إليه النظام، على يد معارضة منفصلة عن الواقع، وعن حركته، والتي تعيش أسوأ لحظات عقمها السياسي والوطني.

*الرئيس التنفيذي لحزب الجمهورية
(147)    هل أعجبتك المقالة (168)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي