أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الوريث وحليب التيس.. ميخائيل سعد

عندما ذهبت إلى زيارة "أبو محفوض"، وهو بالمناسبة والدي، كان يجلس في "أرض الديار العربي"، في حمص، وحوله عدد من كبار السن، يشاركونه النميمة ويحرضونه على أحد أقربائنا، الضابط، العائد حديثا من زيارة "تيس البوكمال" بعد أن استخدم نفوذه العسكري فاستطاع الحصول على كأس من حليب ذلك التيس العجائبي له ولزوجته، علهما ينجبان طفلا، بعد أن فشل الحب والطب والسطوة العسكرية وقابلات الحي الشعبي في اختراق عقم رحم الزوجة وإلزامه بحمل "الوريث". 

وكان جميع الحضور متفقين على أهمية "شفة" الحليب التيسية (نسبة إلى التيس)، التي كانت من الممكن أن تشفي "ركبة أبو محفوض" من آلامها.

عندما رآني والدي ابتسم، مع "طعجة" ساخرة من شفتي من القصة التي رواها عشرات المرات، والتي تتحدث عن عجائب الإيمان "بالتيس وحليبه" وما يحمله من إمكانيات عظيمة لشفاء الآلام وتحقيق المعجزات، قال، موجها الكلام لي: أنتم الشباب تشككون دائما بالمعجزات، فسألته، ردا للتهمة: وماذا لو تحققت المعجزة، ولم تحمل المرأة، وحمل قريبنا الضابط، كيف سنقنع الناس أن حليب التيس هو سبب الحمل وليس شيئا آخر؟ وانفجر جميع أصدقاء أبي بضحكات قوية، أعقبها موجات متتالية من السعال المترافق مع دخان سجائرهم، حتى أن الخوف انتابني من أن يصاب أحدهم بنوبة قلبية، ولكن لحسن الحظ تجاوز الجميع النوبة دون أضرار.

ومجمل القصة أن نظام حافظ الأسد أراد أن يجعل السوريين يتسلون بالخوارق والعجائب كي يصرفوا انتباهم عن ذبح المجتمع السوري، بشكل عام، والمآسي التي تركتها مذبحة حماه في ذهن السوريين وحياتهم اليومية بشكل خاص، وهكذا تلقفت أجهزة مخابراته قصة اكتشاف أحد الفلاحين في مدينة البوكمال السورية، التي تقع على الحدود العراقية، بأنه يملك تيس ماعز يدر حليبا، وأوعزت لإعلامها أن يجعل من الحدث -الطفرة- قصة مشوقة تلهب خيال الناس وتدفعهم للاهتمام به. وهكدا أصبح "التيس" حديث سوريا، وامتدت شهرته لتصل إلى البلدان المجاورة، وتوافد "المؤمنون" بقدرات حليب التيس على تحقيق ما عجزت دولة الأسد عن تحقيقه في مشافيها، من شفاء المرضى وبراء البرص، وتلقيح العواقر، وإعادة الشباب إلى الشيوخ، خاصة وأن الفياغرا لم تكن في ذلك الوقت مكتشفة، فتقاطر أثرياء العرب وفقراؤهم على البوكمال، ونشطت كل أنواع التجارة المرتبطة بالسياحة "الجنسية" للتيس، فُبنيت الفنادق، وافُتتحت المقاهي، وازدادت محلات الألبسة النسائية الفاخرة التي تبيع ألبسة تثير "التيوس"، وتم تحضير وطباعة الكتب التي ترشد السائح الخارجي و"المؤمن التيسي" الداخلي إلى أفضل السبل في الاستفادة من حليب التيس.

في هذه الزحمة البشرية حول "تيس" البوكمال، قرر أحد أقاربنا، وهو ضابط شاب و"ورع"، أن يذهب من حمص إلى حيث التيس، فقد مضى على زواجه أكثر من خمس سنوات، ولكن الله لم يرزقه بالولد الذي سيرث اسمه ويرفعه عاليا بين أبناء قريته، مع أملاكه، وخاصة عقاراته التي جناها من عرق جبينه عندما كان أحد ضباط سرايا الدفاع في حماه أثناء المذبحة، فبالإضافة إلى ما "كسبه حلالا" من ذهب ومجوهرات من بيوت الحمويين، فقد حباه "القائد" ومنحة قطعة أرض صالحة للبناء لقاء "بطولاته"، فحقق من وراء بيعها ثروة خيالية بالنسبة لشاب في عمره، لذلك كان شديد الحرص على رؤية وريث لهذه الثروة، وقد حاول مع العلم والطب والأدوية الحديثة والشعبية هو وزوجته، ولكن كانت النتيجة دائما كانت سلبية، ما دفعه للقنوط واليأس، لذلك، فعند سماعه بعجائب "التيس البوكمالي" قرر دون تردد الذهاب إلى هناك. 

كان والدي حينها رجلا قد قارب السبعين من عمره، ثقيل الوزن، قليل الحركة، ما أثر على ركبتيه، وجعله ذلك يشكو ألما، يشتد ويخف، حسب رغباته الليلية غير المعلنة وعراكه مع اللحاف الصوفي، وعندما سمع قريبنا، في إحدى زياراته إلى بيت أهلي، يتكلم عن رحلته إلى البوكمال، طلب منه أن يصطحبه معه في سيارته العسكرية، خاصة أنه لن يخسر لا ثمن البنزين ولا كلفة التصليح، لأن إدارة الجيش هي المكلفة بسيارات الضباط، فوعد الضابط أبي دون أن ينفذ وعده.

كان ذلك العصر، وأعني أواسط الثمانينيات، عصر حافظ الأسد دون منازع، فقد تم له القضاء على ثورة كان يمكن أن تكون شعبية، كما هو عليه وضع ثورتنا الحالية، ولكن للأسف فقد كانت إدارة المعركة بيد هواة وطالبي سلطة أكثر مما كانت بيد ثوريين حقيقيين، ما أدى إلى كارثة اجتماعية وسياسية كان من نتائجها موت السياسة في المحتمع السوري، عدا عن موت أكثر من مائة ألف سوري بيد قوات حافظ الأسد، وانتصر آل الأسد انتصارا حاسما أبقاهم حتى الآن في السلطة، وجعل الناس يصدقون قصة العجائب المنسوبة إلى "حليب التيس" ويتهافتون عليه وعلى غيره من الخرافات، لأنه على الأقل لا يُميت الشارب ولا يدمر بيته ولا يغتصب نساءه.

كنت أظن مع كثيرين غيري من السوريين أن عصر الضابط الذي يبحث عن حليب التيس كي تحمل زوجته منه وتنجب الوريث له، قد مضى إلى غير رجعة مع قيام الثورة السورية العظيمة، ولكن الخوف كل الخوف من أن يعيد التاريخ نفسه، لأننا في هذه الحالة سنكون مادة سخرية ليس فقط من الأجيال القادمة، وإنما من أولادنا وشعبنا الذي تشرد في كل بقاع الأرض، وربما يكون السبب الأساسي في ذلك هو أن قيادة الثورة لم تكن حتى الآن على مستوى تضحيات السوريين ودمائهم، ولا أستبعد أن يظهر في وقت ليس بالبعيد تيس أو مجموعة من التيوس "الحلابة والولادة" التي يؤمن بقدراتها العجائبية بعض المخصيين من الضباط، ويزورها بعض قادة فصائل الثورة وزعمائها السياسيين للإعلان عن مبايعتهم لضابط من أحفاد ذلك "التيس".

عذرا يا والدي "ابو محفوض" فربما أخبرك قريبا، وأنت في قبرك، أن الضابط قد "حبل" من حليب التيس بدلا عن زوجته، التي قررت أن تبقى عاقرا.

(227)    هل أعجبتك المقالة (173)

مواطن سوري

2014-12-12

صدقاً انت .... اللي بدو يحبلك كل ... سورية.


أحمد محمد الشيخ

2018-10-19

مقال رائع شكرا.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي