أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هل يدفع "الدروز" ثمن الوقوف على "التلّ" وأكل التاريخ.. علي عيد

في أكتوبر الماضي دعا وليد جنبلاط إلى عودة الدروز إلى أصول الدين الإسلامي

لعلّ الحكمة الصينية التي استخدمها وليد جنبلاط قبل نحو ثلاثة أعوام "أقف على حافة النهر وأنتظر جثّة عدوّي" تفسّر الموقف المرتبك للدروز في سوريا ولبنان من الثورة السورية، وهي مقولةٌ تخالف بالطبيعة تاريخهم كجزء متفاعل مع ما يجري حولهم، الأمر الذي استدعى لاحقاً إطلاق جنبلاط ولأكثر من مرّة دعوة صريحة لأبناء طائفته في سوريا للانخراط في الثورة.

وقف "دروز" سوريا على "التلّ" يراقبون، ولكنّهم دخلوا دوّامةً لا يمكن الخروج منها بالمطلق إلا بفعل استثنائي، فالتاريخ الذي يقرأونه على شركائهم ويتلذذون به في مضافات الجبل هو غير ما يُسجل اليوم.

مناسبة الحديث في شأن موقع وموقف "الدروز" مما يدور حولهم هي الوقائع المستجدّة خلال الشهرين الماضيين، وآخرها الحديث عن اقتراب تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من حدود محافظة السويداء الشمالية، وارتفاع منسوب الخوف ممّا هو قادم، وهذا التطور سبقه مؤشرات أحداث مؤلمة منها إقدام عناصر ما يسمى "اللجان الشعبية" من أبناء السويداء بمهاجمة الثوار في درعا وكذلك مقتل نحو ثلاثين عنصراً وكلّهم من الدروز بعد أن تركهم النظام عرضة للموت في ريف القنيطرة.

ما يجري على الأرض يشير إلى أن مشايخ الطائفة الدرزية لم يستطيعوا الحفاظ على موقف إمساك العصى من المنتصف، والدلائل في سجلات القتلى، وفي الانزياحات التي تسببها عمليات التجييش والاستقطاب، وهي عمليات يقودها أشخاص من أبناء الطائفة في سوريا ولبنان انخرطوا فعليّاً في صفّ النظام.

المسوّغات التي يقدمها البعض حول موقف "الدروز" تحمل في مضمونها معنى التعارض وضعف الرؤية، إذ يتحدّث هؤلاء عن ظروف اقتصادية وجغرافية ودينية وتاريخيّة خاصة منها ارتهان معظم أبناء السويداء للرواتب التي يتقاضونها من النظام بسبب الفقر والحالة الاقتصادية السيئة، والخوف من ثورة قد تخلق بيئة معادية في المحيط بسبب سطوة الجماعات الإسلامية، وفي كلتا النقطتين يظهر أن الأسباب الحقيقية هي غير ما يقال في العلن، فالوضع الاقتصادي والتفقير ليست الثورة مسؤولة عنه بالمطلق، ومن الشواهد حادثة "سطل السمنة" على تمثال حافظ الأسد قرب بلدة "عتيل" قبل سنوات، وفيما يخصّ اتهام الثورة بالأسلمة فهو اتهام ناجز، وكان بالإمكان فهمه لو أنّ الحراك الدرزي أثبت تحمّله الحصّة الحقيقية خلال الأشهر الأولى في أحداث درعا.

أما عن الظروف التاريخية، وهنا بيت الوجع، فيبدو أن الدروز أكلوا من كتاب التاريخ، فالنظام الحاليّ ضرب رموزهم التاريخية وعلى رأسها سلطان الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، واستبدل وجاهاتهم الاجتماعية الحقيقية بهياكل تابعةً ممارساً أقصى درجات "الإخصاء" عبر تعويم شخصيّات مستزلمة لتطول ألاعيبه مرجعيتهم الدينية، وهي التشكيل الأكثر خطورة وتأثيراً في بنية المجتمع.

العلاقة بين "الدروز" وجيرانهم في حوران تحتاج شيئاً من الإفصاح لفهم خطورة ما جرى ويجري في سوريا عموماً، ونصيب الجنوب فيه خاصّة، وهنا يمكن القول إن النظام يدفعهم لقراءة كتاب التاريخ بالمقلوب.

عمليات الحقن الطائفي ومحاولة فتح جبهة ضد الثورة في درعا من حدودها الشرقيّة، هي جزء من القراءة بالمقلوب، فتاريخ أبناء حوران في السهل والجبل خلال القرن الماضي لم يدوّن بشكل حقيقي لما فيه من خطورة على النظام بنيته الطائفية.

شهدت بدايات القرن الماضي أحداثاً مهمّة تمثّلت في الثورتين العربية الكبرى والسوريّة الكبرى، وفي كلا الثورتين مفاصل مهمّة تشير إلى بداية تشكّل وعي وطني خارج حدود الطائفة والعشيرة.

عندما اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 طلب الفرنسيون من أهل حوران مؤازرة الجيش الفرنسي للقضاء على الثورة، وحاولوا إقناع بعض مشايخ حوران بان ثورة جبل العرب إذا نجحت ستكون تهديدا لأمن حوران.. أهل حوران رفضوا إيمانا منهم بأن الثورة العربية في جبل العرب كانت بدافع الوطنية للتخلص من المستعمر وأنه لا فرق بين أهل السهل وأهل الجبل.

حوران كانت تؤازر جبل العرب ولما استعصى على الفرنسيين إقناع شيوخ حوران بمناصرة جيشهم ضد الدروز عمدوا إلى الضغط على شيوخها ووجهائها وأنذرهم الجنرال "أندريا" قائد حملة جبل العرب خلال مدة ثلاثة أيام بالسير أمام القوات الفرنسية لمحاربة الثوار، وفي حال عدم الاستجابة فسيكون مصيرهم الإعدام.

فضّل شيوخ حوران ترك أرضهم إلى الأردن ومهاجمة الاحتلال عبر الحدود على أن يشاركوا بقتل أشقائهم.

وكان قد سبق تلك الأحداث رفض حوران الانصياع لحكم الفرنسيين الذين أعدموا عدداً من كبار وجاهاتها عام 1920، وليس بعيداً عن ذلك التاريخ أحداث خربة غزالة، ومقتل رئيس الوزراء في عهد الانتداب علاء الدين الدروبي مع وفد جاء بمهمة من الجنرال "غورو" ممثل الاحتلال لإخضاع حوران.

هذه الأحداث وما تبعها من أحداث الجبل وانتصار الثورة السورية ودخول سلطان الأطرش دمشق شكّلت نقطة فارقة في تاريخ جنوب سوريا، وشكلت وعياً جديداً بعد غزوات وحروب طاحنة شنّها الدروز في كل الاتجاهات بشراكة مع البدو لمدّ النفوذ في العهد العثماني.

لا شكّ أن ما يجري في سوريا اليوم يزيد في أهميته عن كل ما حصل خلال فترة القرون الثلاثة الماضية، وهي الفترة التي امتدّ فيها تواجد الدروز في محيط جبل العرب، ولعلّ أي قراءة خاطئة في أهمية وعمق ما يجري يعتبر الخطأ القاتل.

في أكتوبر الماضي دعا وليد جنبلاط إلى عودة الدروز إلى أصول الدين الإسلامي، وهي دعوة لشخصيّة بارزة تقرأ متحولات السياسة في زمن الحرب الأشرس في تاريخ المنطقة، ومعنى أن تخرج مثل هذه الدعوة من غير رجال الدّين الدروز تعني بالضرورة أمرين اثنين، الأول وجود مخاوف حقيقية بمؤشرات عملية على أن الصراع المذهبي تقوده أجهزة استخبارات إلى مساحات جغرافية جديدة قد تكون من بينها لبنان في المحيط والسويداء في الداخل، الأمر الثاني هو أن الزعامات الروحية لا تقرأ سياسياً واستراتيجياً وليس معترفاً بها نتيجة ضعفها أو ارتهانها أو أسرها.

وهنا يمكن الدخول أكثر في عمق هذا التصريح إذا صحّت الروايات عن تمركز طليعةٍ من تنظيم "الدولة" في منطقة الصريخي على مسافة 80 كم شمال السويداء، وسيطرتها على مناطق وبلدات منها شنوان، القصر، الأصفر، الساقية، ورجم الدولة.

قد تكون هناك عوامل موضوعية لتوجه "الدولة" جنوباً منها أن التنظيم يريد الهروب من مسألة التضييق بعد ضربات التحالف الجويّة، ولعل الهدف ليس المنطقة الجنوبية بذاتها بقدر ما يخصّ طبيعة تلك المنطقة، فالحديث عن تواجد مجموعات للتنظيم في منطقة الصريخي جنوب شرق دمشق لا يعني بالضرورة أن الهدف هو السويداء، بدلالة حدوث مواجهات بينه بين تشكيلات "جيش الإسلام" في تلك المنطقة، فالتنظيم سيحاول حتماً استطلاع وضع تلك المنطقة الممتدة بين ريف دمشق والسويداء، وهي منطقة رخوة تبعاً لطبيعتها الديموغرافية والجغرافية، وأعتقد أن الهدف التالي إن استطاعت تثبيت وجودها هناك سيكون منطقة اللجاة بين درعا والسويداء على مساحة 24 كيلو مترا مربعا.

قد يكون مفيداً للنظام تمدد التنظيم جنوبا لخلط الأوراق وإدخال عنصر إضافي للعبة "الرقص في العرسين" وفي جميع الأحوال ستكون هناك مستجدات قد تدفع قوى شعبية نافذة في محافظة السويداء لعقد اتفاق مع ثوار حوران بما يضمن دفع التنظيم المتشدد ومنع تمدده بين المحافظتين، أو الانخراط الكامل مع النظام وهو أمرٌ له محاذيره على المدى غير المنظور.

دخول "الدولة" إلى المنطقة الجنوبية سيكون هدفه استنساخ تجربة القاعدة في "تورا بورا" بأفغانستان، في محاولة للاستفادة من البيئة الصعبة لوعورة اللجاة ووعورة الصفا المليئة بالكهوف والمغاوير، والتي خسر فيها العثمانيون ومن بعدهم الفرنسيون ومن بعدهم قوات نظام الأسد.
في حوران يبدو أن التركيبة الاجتماعية لا تسمح بتغلغل تنظيم "الدولة"، وتجربة "جبهة النصرة" خير دليل، إذ لم يكن من الممكن قبول الأخيرة إلا بعد أن أعلنت صراحة انعزالها عن الشأن الاجتماعي، والاكتفاء بهدف خوض المعركة ضدّ النظام.

قبل عام مضى نقلت عن قادة الجيش الحرّ في حوران وسمعت منهم عبارة "داعش لن تمرّ من هنا"، وكان التعبير قاطعاً، أما اليوم فيبدو همّاً أن يتمكن التنظيم من دخول السويداء أو محيطها، إذ كيف يمكن التعامل مع قضية الانكفاء من قبل الدروز لمدّة أربع سنوات وإعادة بناء اتفاق سيكون غير متوازن إذا لم يحقق معادلة "النظام وداعش" في سلّة واحدة.

سياسياً حجم المعارضين الدروز في مؤسسات وهيئات المعارضة أكبر من انخراط أبناء طائفتهم في الثورة، وهي من دلالات تمنّع الطائفة، وضعف تأثير نخبها في الشارع.

"الدروز" ودون مواربة غير قادرين على اجتراح حلٍّ لحرب محتملة داخل منطقتهم، وعليهم أن يتوقفوا عن أكل كتب التاريخ، عبر إعادة ترميم الصفحة، أما كيف يكون ذلك، فهي ضريبة أن تقف على "التلّ" في وقت تستطيع فيه البندقية أن تقتل من بعيد.

من مآسي التاريخ أنه لا يستجيب لتكنولوجيا المستقبل عندما ننام مطمئنين إلى أمجاده، فهل يدفع "الدروز" ثمن الوقوف على "التلّ" وأكل التاريخ

كاتب جديد ينضم لــ"زمان الوصل"
(196)    هل أعجبتك المقالة (175)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي