تماثيل بيت الأسد.. خطيب بدلة

في مقالته المعنونة "جيش من التماثيل"، المنشورة في العربي الجديد بتاريخ 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، يذهبُ الشاعر أمجد ناصر إلى أن بدايات الثورة السورية كانت موجهةً ضد تماثيل حافظ الأسد و(أولاده)، باعتبار كسرها، تحطيمها، كسراً وتحطيماً للاستبداد الذي تمثلُه العائلة السورية المالكة.
هذا الكلام، حقيقةً، صحيح، عدا معلومة صغيرة تضمنتها كلمة (أولاده). ذلك أن المدن السورية، والطرقات، والساحات العامة، والمَفَارِق، كانت تكتظ بتماثيل حافظ الأسد، وحده، دون أولاده؛... وثمة تماثيل قليلة جداً نُصبت لابنه الباسل بعد مقتله بحادث سيارة على طريق مطار دمشق الدولي، أواخر سنة 1994، واعتبره المسؤولون السوريون، آنذاك، شهيداً!
ومن تماثيل باسل الأسد الشهيرة، واحدٌ في مدينة حلب، يقع وسط دوار كبير على الطريق الواصل بين الكرة الأرضية وحي "حلب الجديدة"، ويتجسد فيه الباسل، الذي عُرف باسم "الفارس الذهبي"، ممتطياً صهوةَ حصانه. وهذا الدَوَّار يُسمى بين الأهالي، في العلن "دوار الباسل"، وفي السر: "دوار الكديش"!..
وأما بشار الأسد، فلم يُصنع له أيُّ تمثال حتى الآن، وتفسير ذلك، برأيي، هو أن الطغمة العسكرية الأمنية الحاكمة في سورية أرادت أن تحصر التماثيل بالأب حافظ الأسد بغية تحويله إلى رمز للجمهورية الوراثية، وأطلقت عليه لقب "القائد الخالد"! ولسان حالها يقول لذريته: تَنَعَّمُوا بهذه الخيرات، وكفاكم الله شر التماثيل المعرضة للتحطيم في أية لحظة.
نعم.. إن ما ذكره الأستاذ أمجد ناصر حول تماثيل الأسد صحيح. فمع بداية الثورة، بدأت المظاهرات السلمية تنجذب، ودون اتفاق مسبق بين المتظاهرين، نحو التماثيل، وما إن تصلها حتى تبدأ عملية التكسير والتطبيش، تليها عملية التعجيق بالأرجل فوق القطع المحطمة المتناثرة على الأرض!.. وقد لجأت القيادة السورية الحكيمة (هي، بالفعل، حكيمة!)، في الشهر الثالث من بدء الثورة، إلى إجراء احترازي ظريف، يتلخص في اقتلاع بعض التماثيل غير المحمية من أماكنها، وتخبئتها في مكان آمن، إلى حين يتمكن جيشُنا العربي السوري الباسل، وقواتُ حفظ النظام، بمؤازرة الأخ قاسم سليماني، وعصائب أهل الحق، وكتائب أبي الفضل العباس، وحزب الله، من القضاء على المؤامرة الاستعمارية، الرجعية، البندرية، العرعورية.. وتلقين المتآمرين الذين أوهموا الشعب السوري بأن من حقه الحصول على الحرية درساً لا يُنسى، ووقتها تعاد تمثال القائد الخالد إلى أماكنها معززة، مكرمة!
حصلت معنا، في مدينة إدلب، بهذا الخصوص، حادثتان مهمتان يعود تاريخهما إلى بداية الثورة.
فحينما سقط الفتى محمد سيد عيسى شهيداً، وهو الأول، غضبت مدينةُ إدلب غضباً شديداً، وارتفع عدد المتظاهرين، فجأة، من ألف وخمسمئة متظاهر بالمعدل الوسطي، إلى ثلاثين ألف إنسان دفعة واحدة! وقد هاج جمعُهم، وماج، ونزلوا من شارع البيطرة، حتى وصلوا الطرف الجنوبي من شارع الجلاء، قرب بيت المحافظ القديم، وخلال أقل من ربع ساعة كان التمثال قد تحول إلى شظايا ناعمة.
وكان تحطيم هذا التمثال، في الحقيقة، إيذاناً بما عُرف باسم (المربع الأمني)، فقد أعلنت السلطاتُ، من دون أي لبس، أن أية مظاهرة تمر من شارع القصور، أو طريق أريحا- فرع الأمن العسكري- الأمن الجوي- الأمن السياسي، سوف يُقتل.
أذكر الآن، ما حصل بعد ذلك، وكأن المشهد يحصل أمامي. كان ثمة شهيدان جديدان، انطلقت جنازتهما من الحارة الشمالية، وكان عدد المتظاهرين خمسين ألفاً على وجه التقريب. وصلت المظاهرة إلى دوار الكرة، أمام دكان الياس خال. وكان المفروض بطلائعهم أن ينحرفوا بهم يساراً باتجاه البازار. ولكن بعضهم كان يضغط باتجاه المتابعة نحو القصر العدلي، ومن ثم الوصول إلى تمثال حافظ الأسد النصفي الموجود بين مبنيي المحافظة ومجلس المدينة وتحطيمه.
قلت لصديقنا فراس: أيش القصة؟
قال لي: طالع في بال الشباب تكسير "هُبَل"!
قلت: هذا تهور. ستحصل مذبحة.
قال: نحاول ثنيهم عن هذا العمل. ولكنهم يركبون رؤوسهم.
قلت له: أنا سيارتي مركونة هنا أمام مبنى الشؤون الاجتماعية والعمل. إذا ذهبوا نحو المربع الأمني فأنا سأنسحب.
قال لي: وأنا سأنسحب. مو ناقصنا شهداء كمان.
في ذلك اليوم المشؤوم استشهد أربعةُ شبان جدد.. ولم ينجح الآخرون في الوصول إلى التمثال، لأن الرصاص انهمر على أجسادهم بطريقة (الزخّ)، على حد تعبير سميح شقير.
أخيراً: في سورية الآن ما يزال ثمة تماثيل لحافظ الأسد موجودة في أماكن سيطرة النظام. ولكن الحقيقة أن الحالة الرمزية لتماثيل الأسد قد أهينت منذ زمن طويل.. وسيأتي يوم ليس بالبعيد يزول فيه هذا المنظر الكئيب.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية