أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في الخطبة والزواج.. ميخائيل سعد

عروس في ساحة تقسيم باسطنبول - زمان الوصل

في يوم من الأيام اقترحت علي خالتي أم عبدو، مدّ الله في عمرها، أن أرافقها لرؤية فتاة صالحة للزواج، طبعا كنت عازبا وقتها، (وهذا التوضيح لمن يظن أنني قد أسلمت والشرع يبيح لي أربع نساء)، في الطريق إلى بيت الفتاة قالت لي خالتي: يا ابني أنت بلغت الثلاثين ولم تتزوج بعد، صحيح أن الرجل مثل الجوهرة، اذا كان ميسور الحال، يستطيع الزواج متى شاء، وفي أي عمر كان، ولكن من الأفضل أن تتزوج في هذا العمر كي تستطيع الاهتمام بأولادك؛ فترافقهم في نموهم، وتلعب معهم، وتقاسمهم نشاطاتهم، أما إذا تأخرت أكثر فستتعب وتتعبهم معك، وسيبقون دون سند لهم في الشارع، وأنت تعرف كم هي صعبة شوارعنا.

وتابعت خالتي بكل الحب المعروف عنها: صحيح أن الفتاة ليست جميلة ولكنها ثرية وهذا يعوض الفرق، خاصة أن لا سلطة بين يديك تخيف الناس بها، والجمال على كل حال يتبخر بعد الأشهر الأولي للزواج، وربما بعد الطبخة الأولى للزوجة إذا فشلت في تحضيرها كما يجب.

لم أردّ على تساؤلات خالتي ولم أناقش حججها، فقد كنت مصرا في داخلي على الرفض، وعلى القول إن الفتاة لا تناسبني، ولكنني أعلنت من طرف واحد إضرابي عن الكلام، كي لا أزعج المرأة التي شغلت موقع أمي بجدارة منذ اليوم الأول لزواجها من أبي وحتى تاريخ الواقعة.

وصلنا إلى بيت العروس المقترحة، وأول ما لفت نظري الحي الذي يوجد فيه البيت، فهو من أحياء الأغنياء الحديثي النعمة، وقد سبق لي أن زرته بمناسبات مختلفة، منها التعرف على مهرب، أصبح مسؤولا كبيرا في إحدى جمعيات حقوق الإنسان، وقد حول بيته إلى مكان للاجتماعات.

وبمناسبة أخرى لزيارة سيدة "مثقفة" جدا، كنت شغوفا بالنظر إلى ركبتيها المدورتين بطريقة رائعة، وكان يُشاع عنها أنها على علاقة حميمة مع ضابط أمن كبير، ما فتح الأبواب الثقافية أمامها، ودفع النقاد لأعمال سهام نقدهم في إبراز محاسن صدرها الذي تكسرت عليه سهام الامبريالية العالمية ولم تستطع اختراقه، فبقي منيعا وقويا وعصيا على الأعداء فقط، أما الأصدقاء فقد كان مرحبا بهم، ينامون عليه عندما تنتابها حمى الرغبات المجنونة. أما غير ذلك، فقد كان يُقال إن أغلبية السكان في هذا الحي قد راكموا ثرواتهم عبر السمسرة والإتجار بالممنوعات تحت نظر عيون رجال الحكومة ورعايتهم.

كان في صدر الصالون الكبير صورة لحافظ الأسد، بثيابه العسكرية، موضوعة في إطار مذهب، وعيونه تمسح الصالون الكبير وكأنه يقود طائرته، وكانت سيدة البيت قد اختارت زاوية من الصالون فيها طقم من المفروشات الفاخرة، كي نجلس فيه، وفي زاويتين أخريين كان يوجد في كل منهما طقم بلون مختلف، بمعنى أن الصالون الكبير كان عبارة عن ثلاث غرف استقبال في آن واحد. بدأت عيون تكتشف المكان، وبشكل غير إرادي كان عقلي يقوم بتخمين قيمة ما يراه في الصالون، سمحت لنفسي بالعوم في أحلام اليقظة بانتظار دخول الصبية، التي كانت على ما يبدو، منهمكة في زينتها قبل الظهور أمام عريس المستقبل، فالأمهات قد تكلمتا في الأمر عندما اجتمعتا قبل أسبوعين في عيد "السيدة" في إحدى قرى وادي النصارى، وبالإضافة إلى المناسبة الدينية، كان هناك خيط من قرابة الدم يجمع خالتي مع أم الفتاة، التي كانت "منتوفة" قبل عقدين من الزمن، قبل أن يحصل زوجها على خاتم "شبيك لبيك" ويصبح موظفا في الجمارك.

أخيرا دخلت العروس المرتقبة، كان شعرها مكللا بـ"مسامير" ذهبية وفضية، والعنق قد أحاط به عقد من معدن ثمين، أجهل نوعه حتى الآن، وفستان يبدو أنه يليق بالمناسبة، سلمت علينا وجلست مبتسمة. كان جمالها أقل من المتوسطة، ولم أكن أدقق في ذلك، فهذا الجانب من مهمة خالتي أم عبدو، أما أنا فكنت بانتظار كلامها كي أعرف "الله وين حطني". بعد انتهاء المجاملات اصطحبت السيدة، أم الفتاة، خالتي لتريها البيت ونِعم الله والسيد الرئيس عليهم، وتضع "نقطة على عينها"، ولكي يتاح لي وللفتاة الكلام والتعارف. قالت الفتاة لي إن أهلها سيفرشون لها بيتا يليق بها، وقد يشترون لاحقا لنا شقة بالقرب من شقتهم. وقالت لي إن والدها "الجمركجي" مثقف، وهو يعرف أنني كنت قبل سنوات في السجن لأسباب سياسية، وإنني قد سُرحت من وظيفتي، إلا أنني قد "عقلت" بعدها، ولم أعد أصغي للمغرضين والناقمين على الخط المقارم الذي ينتهجه السيد الرئيس، وأنه قال لها: "رغم فقري إلا أنني ذكي والمستقبل أمامي". ووالدي يحب العصاميين الذين يبدؤون حياتهم من الصفر مثله تماما، لذا لا يجب القلق من هذه الناحية. ثم انتقلت العروس لتفاصيل الفرش الذي تريده لبيتها، مؤكدة أثناء الحديث أن لا أقلق من ناحية المال فكل شيء موجود، حتى أن والدها فكر بشراء لوحة كبيرة لسيادة الرئيس لوضعها في صالوننا. كانت روحي قد قاربت على الخروج عندما عادت خالتي مبتسمة ومستبشرة فشربنا القهوة وغادرنا البيت معززين مكرمين.

أثناء طريق العودة، كانت خالتي تستفيض في وصف الغنى الذي رأته في البيت وغرف النوم، بل وحتى في الحمام، وكيف أن الجماعة سينتشلونني من الفقر الذي سأقبره إلى أبد الآبدين. سألتُ خالتي سؤالا وحيدا: هل عندنا عرق مثلث في البيت؟ فقالت مستغربة، نعم يا ابني، عادة أنت لا تشرب، هل أنت سعيد إلى هذا الدرجة بالفتاة، نستطيع اليوم ان نرد لهم خبر رغبتك في خطبة الفتاة؟

عندما وصلت إلى البيت طلبت من أختي بعض الثلج وكأسا من الماء، وشربت بسرعة كأسين من العرق، ثم بدأت في الثالث، وقبل أن أنهيه شعرت بحرية عظيمة تجتاح عقلي وبقوة خارقة تفك عقدة لساني، فخرجت إلى أرض الدار، حاملا قدح العرق، ووقفت في منتصف الباحة، تحت السماء، وصرخت بصوت عال: لا أريد الزواج ويسقط حافظ الأسد ولصوصه من الرجال والنساء.

من كتاب "زمان الوصل"
(144)    هل أعجبتك المقالة (146)

سوري

2014-11-28

يا عيني عليك، ويعيش الفقر الذي يفيض بالكرامة.


nidal nassan

2014-11-28

رائع لكن بدون كاسة عرق.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي