أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شارع الموسيقى .. ميخائيل سعد

من الأفلام التي لم تزل في الذاكرة رغم مرور ما يقارب الأربعين عاما على رؤيتها في سينما "حمص" فيلم "صوت الموسيقى" من تمثيل جولي اندروز، فكلما سمعت كلمة موسيقى أتذكر هذا الفيلم المدهش، حيث تختلط الموسيقى بالحب مبدعة حياة جديدة، وهذا ما حصل معي عندما كنت أرافق صديقا عتيقا في اسطنبول صباح أحد الأيام في شارع الاستقلال، وحين وصلنا إلى نهايته قال: سنمر من هنا، من شارع الموسيقى. كان الشارع هو تفريعة عن شارع الاستقلال في اسطنبول، وربما كان طوله لا يتجاوز ٢٠٠ متر، ولكنه يكتظ بالحوانيت الصغيرة المنتشرة على الجانبين، ككل شوارع المدينة العجيبة، وأغلبها مخصص لبيع الأدوات الموسيقية. كنت أسير متأملا واجهات المحلات التي تعرض كل أنواع الآلات الموسيقية، متذكرا فيلم صوت الموسيقى، وندوة الثلاثاء الموسيقية في عيادة الدكتور سمير ضاهر في حمص، وقصص الغناء والطرب في قصور بني أمية وبني العباس ثم عند السلاطين العثمانيين. 

كنت أرى كيف أن كل ذلك التاريخ قد استطاع تجاوز المحن التي مرت عليه ووصل إلى هنا رغم بعض محاولات تحريمه ومنعه، إلا أن حب الإنسان للموسيقى وقدرته على تطويع النصوص الدينية بما يخدم هذا الحب، قد جعل شارع الموسيقى حقيقة قائمة.

رغم أنني من هواة الدربكة والطبل والزمر والهوارة، إلا أنني لا أستطيع المرور مرور الكرام في شارع كل دكاكينه تبيع آلات موسيقية دون الوقوف متأملا عظمة العقل الإنساني الذي استطاع اختراع كل هذه الآلات و"تطويع" أذنيه على سماع جميع الألحان التي تصدر عنها. أن تنوع شعوب السلطنة العثمانية وتنوع موسيقاها قد ساهم مما لا شك فيه في غنى شارع الموسيقى، حيث نجد الآلة الأساسية للموسيقى التركية التي هي الطنبور. وبقية آلات العزف كالناي والكمنجة والعود والقانون والرباب والسنتور والكمان التي تعزف الألحان، وآلات الإيقاع مثل الدائرة والدف والقدوم والخليلة. بالإضافة إلى كل أنواع الآلات الموسيقية الغربية.

تمتاز اسطنبول، كمدن الشرق القديمة، بتعدد أسواقها وتخصصها؛ فهناك شوارع للخشبيات وأخرى للنحاسيات وثالثة للجلديات ورابعة للأقمشة، وخامسة للمواد الغذائية، إلى آخر النشاطات الإنسانية، وكان مثل هذا موجودا في مدن الغرب إلى وصلت إليها العولمة فاختفت، لتحل محلها المراكز التجارية الكبرى، التي جذبت الإنسان إليها لممارسة نشاطاته التجارية والإنسانية المتنوعة.

وإذا كانت المراكز التجارية الكبرى قد نشأت تلبية لظروف تلك البلدان المالية وسيادة الشركات الكبرى التي قضت على المحلات الصغيرة لأنها لم تعد قادرة على المنافسة، والبيئية من برد شديد وحرارة، فإنها في بلدان الشرق بدأت تنتشر كتقليد للغرب من جهة، واستجابة لشروط العولمة والإعلانات التجارية المغرية، وهكذا بدأت "المولات" تغزو المدن الشرقية، فارضة في الوقت نفسه ليس فقط نمط عمارتها وأسلوبها التجاري وثقافة الاستهلاك المرافقة لذلك، وإنما مغيرة ثقافة تجارية وعادات اجتماعية عمرها قرون، ونازعة عنها الأصالة والمعرفة الخاصة بكل سلعة من السلع.

وبالعودة إلى شارع الموسيقى، ماذا نلاحظ من فروق بين هذه المحلات الصغيرة ومعرفة أصحابها بالمنتجات التي يبيعونها وبين المحلات الكبرى المنتشرة في "المولات"، وسآخذ على سبيل المثال آلة العود، وما سأقوله عنها ينطبق على بقية الآلات، فالمحل المختص في بيع "آلة العود" ليس صاحبه مجرد بائع كما هو الأمر في محلات "المولات" وإنما هو صانع للعود، وعنده القدرة على تصليح ما يتعرض منها للكسر أو التخريب، كما أنه يعرف العزف على الآلة، وريما يكون عازفا ماهرا واستاذا في مجاله ويعرف كل جزء من هذه الآلة، والدور الذي يلعبه في إعطاء النغم المناسب، لذلك اختار أن يكون صاحب دكان لبيع هذه الآلة، فهو يعشق مهنته وينعكس هذا العشق في طريقة تعامله مع الزبون الجديد بيعا وشراء وتعليما، وغالبا ما تنشأ علاقات بين البائع والمشتري تستمر لسنوات، وقد تتوسع لتشمل جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية والثقافية، وهكذا كانت الحياة تغتني بتفاعل الناس فيما بينهم، أما في "المولات" الحديثة، فالبائع لا يمكن أن يكون هو الصانع لما في ذلك من تضارب مع الكميات الكبيرة المرغوب إنتاجها بسرعة، وتدني السعر، وكلفة الإيجارات، فيتم الاستغناء عن المهارات الشخصية لتحل محلها الآلات الكبرى، ولا يكون هناك وقت كي يتقن البائع الجديد العزف على الآلة او معرفة خصوصيات كل قطعة فيها، وإنما الاكتفاء بمعرفة البيانات الأساسية عن الآلة مع وجود ورقة أو أكثر تشرح طريقة الاستعمال، ومدة الكفالة، وليس أمام المشتري والبائع الوقت لبناء صداقات مبنية على هموم مشتركة، وغالبا ما تنتهي العلاقة بينهما بمجرد دفع النقود والخروج من المحل. وهكذا يتقدم المال على حساب العلاقات الإنسانية ويحدث الخلل الكبير في الروح. إن كلامي ليس دعوة للمحافظة على القديم، ولكنه دعوة لعقلنة هجوم العولمة على حياتنا ومنعه من تدمير الجميل فيها.

في فيلم "صوت الموسيقى"، يقول لنا المخرج والكاتب، أن القوانين العسكرية الصارمة التي يريد الأب تطبيقها على أولاده في المنزل دون حب هي قوانين لا تصنع إنسانا سليما، والحب كي يكون إنسانيا يجب أن ترافقه الموسيقى وهذا ما تحمله معها المربية الجديدة للأولاد، فهل نستطيع أن نجعل عشقنا لسوريا وثورتها ممزوجا بموسيقى الحب ليكون بديلا عن موسيقى الرصاص والقتل!!

(224)    هل أعجبتك المقالة (241)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي