قررت اليوم أن أترك نفسي تضيع في حارات اسطنبول القديمة، فقد توجهت صباحا إلى التلة التي اختارها السطان بايزيد الثاني (1481-1512) كي تكون مكانا لجامعه ومقرا لقبره، وبقربه يوجد البازار الكبير. ذهبت حيث أشار لي أحد الأتراك بعد أن سألته: أين هو البازار الكبير؟ فأشار بيده إلى شارع يقع على الجانب اليميني من مبنى الجامع، فذهبت حيث أشار الرجل، وجدت بابا مكتوبا عليه اسم البازار الكبير وتاريخ بنائه، وكما في قصة "أليس في بلاد العجائب"، التي سقطت في حفرة للأرانب لتخرج منها وقد وجدت نفسها في عالم كل ما فيه عريب وجميل ومدهش، دخلت من هذا الباب لأجد نفسي في بلاد "التاريخ"، فتاريخ البناء يعود إلى 1481، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، ذهب السلطان الذي بناه وبقي السوق والجامع والخانات.
على مدى ثلاث ساعات من الدهشة، التي استحوذت علي، كنت أسير غير مصدق ما أراه، أكان بسبب روعة وجماليات البناء وعقوده التي لا تنتهي، أو من حيث تنوع البضائع المعروضة والتي تلبي أذواق جميع الزبائن من أتراك أو سواح. كنت أسير على غير هدى، فما إن أرى شيئا يلمع حتى أسير باتجاهه ليقودني بدوره إلى شيء آخر يلمع في نهاية الزقاق، وما أكاد أصل حتى ينفتح أمامي شارع أو زقاق جديد يغريك منذ اللحظة الأولى ويدعوك لولوج عالم ألف ليلة وليلة. عشرات الأبواب الصغيرة موزعة في الأزقة تشير إلى أنها خانات، دخلت أكثر من واحد من هذه الأبواب لأجل نفسي في فناء واسع مكون من طابقين أو ثلاثة طوابق، في الأول محلات، ربما كانت لبضائع التجار أو المسافرين من قارات العالم القديم، قاصدين التجارة أو السياحة أو السياسة، في عاصمة العالم آنذاك "القسطنطينية" أو كما أصبح اسمها الجديد "اسطنبول" بعد أن فتحها السلطان محمد الفاتح قبل 28 سنة، منهيا امبراطورية كبرى ليشيد مكانها امبراطورية جديدة ستستمر أكثر من 600 عام، حيث يأتي دورها في الموت، تاركة الكثير من الآثار العظيمة، من بينها هذا السوق الذي أقيم في جوار الجامع مع الحمامات الشعبية والخانات الأكبر وسبل المياة.
كانت الخانات الصغيرة المنتشرة في السوق الكبير عبارة عن فنادق ذلك العصر، ففيها مكان لدواب الحمل او الركوب، وفيها غرف للنوم في الطوابق العليا، وأمكنة لتخزين البضائع وعرضها على التجار أو المشترين، أما الآن فقد تحولت كلها إلى محلات تجارية أو مقار لشركات.
بعد مرور أكثر من ساعتين اكتشف أنني ضائع، فقد فقدت القدرة على تخمين الاتجاهات، ولم أعثر على ما يشير إلى مكان الخروج. لم أكن مزعوجا أو خائفا من ضياعي، ولكنني تعبت من السير، وعرفت أن زيارة واحدة للسوق لن تستطيع السماح لي إلا برؤية جانب صغير منه، وقد أحتاج إلى زيارات متعددة، وهذا ما حصل فيما بعد، ولكن كان لا بد من التفكير بطريقة للخروج دون سؤال الناس بالإشارات، تابعت السير مطرقا، ومتأملا الشوارع المرصوفة بالحجارة الجميلة، لألاحظ أن على طرفي الشارع أو إذا شئتم، الزقاق، مكانا منخفضا مخصصا لمياه الأمطار أو المياه المخصصة للتنظيف، وكل تسير باتجاه واحد فتذكرت أن البازار، كما كل اسطنبول، مبني على تلة، وأن الماء يسير باتجاه البحر فقررت أن أتبع مسيل المياه، ولا بد أنني واصل إلى البحر.
وأنا أسير، كنت أحاول أن أسترجع ما في ذاكرتي من صور عن الأسواق السورية التي تشبه هذا السوق. كان سوق الحميدية الدمشقي لا يُذكر أمام هذا السوق، ولم يتح لي الوقت لمعرفة سوق حلب الأثري، التي هدمها ابن الأسد، كنت قد زرت جانبا منها في السبعين ولكن لا أذكر أنني رأيت فيها ما كان يدهشني كما في البازار الكبير في اسطنبول.
بعد حين، وكان قد مضى على تجولي العشوائي في السوق ثلاث ساعات وصلت، كما في قصة "أليس في بلاد العجائب"، إلى باب يدل أن نهاية السوق هنا فخرجت لأرى السماء فوق رأسي، والبحر ليس بعيدا عني، وتيقنت أن التاريخ الذي كان يحتضني لم يبتلعني، رغم اندهاشي به، وإنما أعطاني العزيمة لكي أتابع ما بدأته من بحث عن جوانبه المشرقة، التي هي جزء لا يتجزأ من ثقافة المسلم، هو بحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى، كي يقاوم هذا الهجوم المدمر على المسلمين والإسلام، يساهم في جزء منه، للأسف بعض المسلمين، بقتلهم للحاضر أثناء محاولتهم الخرافية، استعادة الماضي، والسير عكس مجرى التاريخ.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية