أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

وكيف ننساكَ يا حجي قطنا ..؟ .. ناصر زين

(في ذكرى استشهاد القائد البطل أحمد سعيد القادري ، أبو مصعب)
في ذكرى ولادة الشهيد اكتب ...

نعم ولادة الشهيد ، وليس مقتله ، ولادته الأولى ، انطلاقته نحو الحياة ، نحو الخلود.

هنا بدء أبو مصعب رحلته ، وهنا دخل القلوب وأقفل عليها الباب بإحكامٍ شديد ، من مدينة قطنا المحتلة عروس " وادي العجم " بدأ مشواره ، مشوار الحرية و الانعتاق من العبودية ، نحو طريق متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ، أراد أن يذكّر مع أصحابه كل الناس بهذا الدستور الإنساني العمري ، بهذه القيم الفريدة .

كانت تلك المقولة محركهُ الذي لا أحصنة محددة لصهوتها ، حتى قبل انطلاق الثورة وقف في مساجد قطنا وأخبرنا عنها ، لكننا لم نعطي لها بالاً ، اعتقلوه ولامه الناس كيف تلقي بيدك إلى التهلكة ؟ ولم ندري أن التهلكة هي لمن لا يعي ، ولمن لا يثور، وأن البطولة ، لمن لا  يسكت ، ولمن لا يخنع ، ولمن لا يستكين ... 

عذبوه حتى الموت ، لكنه لم يمت ، يومها قرر ألا يموت ، وإن قدر الله ومات فقد قال : لا لهم قبل أن يرحل ، فعلها ، لم يستطع ألا يضع الجزار في مكانه ، فشتمه بصوت مدوي سمعه أهل القبور ، ونحن سمعناه لكننا غضضنا الطرف عنه ، هو في الحقيقة لم يشتمه بل ذكرنا بمن هو فقط !! 

ومرت السنين وخرج البطل المسكوت عنه ، وعاد إلى عمله ، عاد بروحٍ عجيبة ، بقلبٍ ضحكوك ، وثغر باسم ، لم يكن الخوف قد أكل قلبه ، فقد طلق الخوف طلاقاً بائناً بينونةً كبرى قبل ذلك لا رجعة فيه وصرخ بوجههم ، وتزوج من كلمة الحق إلى الأبد ...

خرجت درعا بأطفالها بشيبها وشبابها ، بحرائرها وعجائزها ، لم ينتظر قطنا المحاطة بأسلاك الطائفية والعسكر ، فحمل روحه واتجه نحو مساجد دمشق مع ثلة من ثوار قطنا ، وكان أول من يظهر على شاشة الجزيرة من أمام مكتبها في حي المزة ((في جمعة العزة 25/3/2011 ))، لقد حملوهُ على الأكتاف هذه المرة ، حملوه ليكون الصوتُ مدوياً أكثر ، ليرن في أرجاء الأرض ، يومها خرجت درعا ، دوما ، معضمية الشام ، اللاذقية ، الجامع الأموي ، حمص كلهم فزعوا للدم ، وجهتهم عناية الله برفض الظلم ..
كان المنشد أحمد من كتف إلى كتف وصوته الرخيم الممزوج بصدق التعابير يهتف ، (( الله أكبر عليهم - ظلّام الله يمحيهم ، الله أكبر حرية ، أكلوا البيضة والتقشيرة وخلونا على الحصيرة ... )) والجموع تهتف حوله .

لم يهدأ أحمد ومن معه حتى جعلوا الثورة تزحف إلى قطنا ، فخرجت المدينة من صرخة شهيد آخر ، ( الشهيد أبو عبد الله كنجو) ، الذي هز جامع الغلاييني من صدقه في أول تكبيرة للحرية ..

خرجت قطنا كلها وكثرت الجموع ، وبدأت المظاهرات السلمية ، حديث الساعة ، وارتدت المدينة ثوب الحرية ، ولمع اسم الشهيد أحمد القادري ، والذي بدأ يقود المظاهرات ، فلم تكن مظاهرة إلا وأحمد على رأسها ، يهتف فيها ، صوته الرنان لا ينساه أحد ، كلماته البسيطة في حروفها ، من صميم الألم والمعاناة خرجت ، عن الواقع المرير تحدثت (( يا قطنا تحيا رجالك ، الله يلعن خوانك – الموت ولا المذلة – يا درعا حنّا معاكِ للموت  - صار الظلم عندون عادة وفكروا فيها عبادة )) .

أحمد كان ثائراً من نوع خاص ، له كاريزما مميزة ، صوت أجش ، أحلام كبيرة لم تتوقف ، كان يتقرب من الشباب يسمع لهم حتى تكون المظاهرات على درجة عالية من التنظيم ، وكان يجالس الكبار و يتناصح معهم ، محبوباً يحمل في رأسه قضية يريد إيصالها، ويقول (( لا داعي للشتيمة ؛ خرجنا وحملنا أرواحنا على أكفنا ، لدينا رسالة يجب أن نوصلها )) .

بعد أسابيع من مظاهرات الحرية ، بدأت المخابرات ، تعرض على المطلوبين كتابة تعهد بعدم التظاهر مجدداً  ، أُجبر الحجي أحمد ممن حوله على كتابة التعهد يوم الخميس ، وخرج في اليوم التالي على رأس المتظاهرين يهتف (( وهتفنا معه .. عاشت سورية ويسقط بشار الأسد ، سورية لينا وما هي لبيت الأسد)) كان رجلاً حقيقياً .

وفي جمعة حماة الديار ، قام الحماة أنفسهم بقتل أهل الديار ، فأطلقوا الرصاص على المتظاهرين فسقط أول  ثلاثة شهداء في المدينة ، فخرج أبو مصعب متحدثاً على قناة الجزيرة ، باسمه الحقيقي " أحمد القادري" .

كان الحجي أحمد من أوائل من حمل السلاح في قطنا ، بعد خمسين جريح متسلحين بأصواتهم والحجارة ، وحريقٌ طال محال المدينة على أيدي الشبيحة والمليشيات الطائفية .. لقد كانت قطنا المدينة الثائرة الأكثر تنظيماً بسبب الحجي أحمد وأمثاله ، لم تحرق بلدية أو مخفر ، ولم يهجم على ثكنة عسكرية ، ولا مقر حزب ، ولا مساكن ضباط ، لقد كانت المدينة سلمية لأبعد الحدود ، إلى يوم بدأت المليشيات تحرق وتسرق وتقتل وتطلق الرصاص العشوائي على المتظاهرين ..

بعد ثلاثة أيام ظهر السلاح الخفيف مع عدة أشخاص على رأسهم أحمد ، وقاتلوا لساعات ثم دخل الجيش المدينة ، ونُصب أحمد أميراً على إمارة قطنا الإسلامية ، دون أنْ نعلم وأنْ يعلم ، أول إمارة إسلامية في سورية ، قالوا أنّ المشانق علقت ، وستطبق الشريعة وتقطع الرؤوس ، ورفعت الراية السوداء ، كل ذلك بعد أربعة أشهر من الثورة فقط !! ، حيث لم يكن موضوع الأيديولوجيا الإسلامية مطروحاً بعد ولم يرفع أي علم سوى علم الثورة السورية  ..

لقد كان حمل السلاح شعبياً وليس مخططاً ، اشتري من أموال هؤلاء الشبان الخاصة ، باعوا حلي زوجاتهم من ذهب ليشتروا قطعة سلاح ، وآخرين باعوا أبقارهم واشتروا بها ...

غاب أحمد وأصحابه عن المشهد ، وبعد أشهر عادت المظاهرات بعد استشهاد الشاب إبراهيم عودة ، وظهر الحجي أحمد فجأة من قلبها ، لقد أذهلنا برخامة صوته منادياً " يا قطنا تحيا رجالك والله يلعن خوانك ، خلي النار تولع والله لناخد بالتار " ، لا يمكن وصف المشهد من صدقه وإخلاصه ، لا تُنسى الكوفية الحمراء على رأسه ، لا تُنسى لحيته الخفيفة ولا وجهه المدور ، وأطلق الرصاص ، فتوشحوا سلاحهم ، وقابلوا شبيحة النظام ومخابراته بالنار ، وقتلوا منهم ، كانوا يريدون سرقة جثمان الشهيد فمنعوهم ، واستشهد الشاب الصغير مالك بدر الدين ..

بقي الثوار بقيادة الحجي أحمد في حي الحلالة حيث بساتين قطنا وغوطتها  ، فقد كان قائد المعارك وأميرها ، ومسانداً للعمل المدني بكل أشكاله وأصنافه ، من مظاهرات ومنشورات ، من إغاثة المنكوبين وعمل طبي لمداواة الجرحى  ، إلى دعم التوعية الثورية عبر مجلات وجرائد ..

لم تكن شهرة حجي قطنا ، في قطنا فقط ! ، بل في كل الريف وأنحاءِ من سورية ، تظاهرنا معه وهو يهتف في عرطوز وجديدة عرطوز و معضمية الشام و الكسوة والقدم ، حتى الغوطة الشرقية كلها كانت تسألني عن حجي قطنا ، وادي بردى بكل بلداته كان يسألني عنه ...

*****************

لم يستطع أبو مصعب أن يبقى في قطنا ، فانطلق نحو القنيطرة ، ومعه كتيبة أسامة بن زيد التي شكل نواتها في مدينته قطنا وكان ممن أسس مع أصحابه وأصدقائه "ألوية وكتائب الصحابة " في دمشق وريفها فكان من قياداتها ..

وبدأ اسم حجي قطنا ينتشر في كل مكان ، هتف من القنيطرة لقطنا ، حُملَ على الأكتاف في جباثا الخشب ،  طرنجة ، أوفاني ، وهم يحررون ويتجهزون ، كانت سمعته رنانة في كل مكان ذهبنا إليه ، حتى أنهم كانوا يتناقلون عن إقدامه وشجاعته حين استشهد أخوه أمجد ، وكيف عاد بجثمانه المسروق بعد أن حرر الحاجز مع خمسة من أصحابه فقط !! .

وأُسِسَ "تجمع أنصار الإسلام" فكان من قياداته ، فإنك لا تمر من قرية محررة في ريف دمشق إلا وحجي قطنا يمر معك ، بيت جن ، مزرعة بيت جن ، بيتيما ، بيت سابر ، كفر حور ، خان الشيح ، دروشا ، حتى معضمية الشام وداريا والكسوة و البيضا إلى القدم وجنوب دمشق .
وبالبندقية الخفيفة حرروا قطع الجيش الأسدي و ثكناته ، وامتلكوا الدبابات والأسلحة الثقيلة ، حتى أصبحت كتيبة أسامة بن زيد لواءاً ، وتمددت وأصبح حجي قطنا قائد  " كتائب وألوية الصحابة "  في الغوطة الغربية والقنيطرة  ، ثم تكاثفت الجهود بين الألوية والفصائل المسلحة في المنطقة ليؤسسوا " تحالف الراية الواحدة" وكان أحد أهم قياداته ..

يشهد الكل أنّ أبو مصعب كان دوماً في مقدمة المقاتلين ، مقداماً ، شجاعاً ، يتوشحُ سلاحه وينغمس في قلب المعركة ، كان دائماً أولاً في كل المعارك ، وأصيب في بطنه أول مرة ، ونقل إلى المشفى الميداني ، وهو تحت تأثير المخدر يتحدث عقله الباطن " اللهم ارضَ عني وعني المجاهدين ، اللهم لا رياء " ..
وفي المعركة الأخيرة بعد قرابة ثلاثة سنوات من الثورة السورية ، ومن قمة جبل الشيخ يؤازر أبو مصعب ، عدة فصائل قد هاجمت تل حربون (قرب عرنة)  في أعلى قمة جبل الشيخ حيث المرصد السوري المقابل لمرصد العدو الإسرائيلي ، رغم أنّه قادمٌ من سفر ومتعب قبل عدة ساعات فقط ! ، ولكنه رفض إلا أن يشارك في المعركة ، وأثنائها أصيب أخوه الأصغر " مصطفى" وظنّ أنه قتل ، فودعه ، وقال للشباب خذوه تقبله الله ، وعاد للمعركة وقاتل حتى قتل وهو 17 آخرين في أعلى جبل الشيخ ، بعد مؤزرات كبيرة من قبل شبيحة عرنة والقلعة والمناطق المجاورة .

لقد كان رحيل الحجي أحمد موجعاً ، بنفس الأيام التي رحل فيها حجي مارع القائد عبد القادر الصالح . حجي مارع والذي تغنت به كل سورية ، لروعته ونزاهته وطيبته وبساطته 
لقد كان حجي قطنا أيضاً تاجراً قبل الثورة ، ملتزماً ، خلوقاً ، محبوباً ، لم يخرج ليجمع المال ، ولا لينفذ أجندةً هنا ، أو أيديولوجيا هناك ، يحب الإسلام وقتل لأجله ، حتى أنه سأل بمقابلة له عن رؤيته  لبناء الدولة بقوة السلاح أم بطريقة مدنية بعد إسقاط النظام فقال : "  سلفنا الصالح فتحوا القلوب قبل الحصون ، والأصل في عملنا هو الدعوة والنصح والتسامح ، أما سلاحنا بعد إسقاط النظام فسيكون بيد الدولة العادلة والتي بدورها ستقوم بمحاسبة المخطئ ... "

لقد كان أبو مصعب ليس عالماً أو شيخاً ولكنه تكلم بفقه واقع ، لم يلبس أفغانياً ، ولم يطل لحيته ، بقي كما عرفناه قبل الثورة ، يمزح مع الكل ، لا تفارقه الابتسامة أبداً ، لم يتغرب عن أهله وأصدقاءه ، لم يغير اسمه ، لم يكن شبحاً لا يُرى .

كل الأفعال الماضية تمارس عبر جملها حكايات وحكايات عن رحيله لتذكرنا به ، مع أننا لم ننساه ، لم ننسى هتافاته ، لم ننسى صوته ، بحته ، أناشيده ، كلماته ، حركات يديه ، أسلوب قتاله ، إيجابياته ، أخطاءه ، إنسانيته ، معروفه ، عرض منكبيه ، لحيته ، لعبه معنا كطفل صغير ، تدريبنا الصباحي ، أهازيجه ، نكاته ، غضبه ، فزعته ، فخاره ، سرعة بديهته ، إيقاظه لنا في صلاة الفجر ، تقديمه لمن هو أحقُ منه بالصلاة ، قراءة القرآن ، شرب الشاي قرب مدفأة الحطب ، مع خبز القمح والشعير البلدي ، أو عسلٌ أتى له هدية ، هي تفاصيلٌ لا تنسى 

أحب تفاصيل التفاصيل مع أبو مصعب ..

لا تُنسى أمهُ من فقدت أول شهيد أمجد ولحق به أحمد بعد عامٍ ونيف ، أحمد لم يكن باراً عادياً بأمه ، لقد كان براً ممزوجاً بالقيم ، يقبل قدميها ، يسامرها ، وهي تضحك مستبشرة ، هي من أرسلته للجهاد ، هي من دفعته أكثر ، هي خنساءٌ سوريةٌ لا مثيل لها ، لابد للبطل أن تكون أمهُ بطلة ، بل منشأ أبطال ، أم محمود ليست أي امراءة ، وجهٌ كالبدر الصافي ، عزيمةٌ صلبة ، وقلب لا أطيب ولا أحن ..
يوم سمعت خبر استشهاد أحمد وبين يديها أخوه الجريح ، بكينا نحن أمامها ، لم نستطع أن نمسك دموعنا ، لم نستطع ألا نبكي ، وهي لا تبكي ، بل تُهدِأُ من صدمتنا ، وتزغرد ، لكي يرى العالم كله أمّ الشهيد ، أم الشهداء ، إحدى أسطورات سورية وثورتها ، تزغرد للأبطال .. أبوه أيضاً كقاسيون لم يصدق أنّ أحمداً يمكنه الرحيل دون أن يعانق أباهُ ألف عام وعام .. 

حجي أحمد لم يرحل من الذاكرة على مدار عام ، كل يوم يمرُ من أمامي ، كل يوم يتجول في قطنا ، في بيت جن ، في القنيطرة ، خان الشيح ، جبل الشيخ ، في المزة ، في الحلالة . أبو مصعب شهيد يصعبُ نسيانه ، يصعبُ عليك أن تنام دون أن تراه في منامك مسجى في روضة من ياسمين شامي ، وزنبق وريحان ، حوله النور واللؤلؤ ..

حقاً أحمد لم يمت إنما ذهب إلى الله ، وسنراه كل يوم ، وستذكره الثورة السورية بأنبل أيامها وأروعها  .. صدقاً لن ولم لا ينسى أحمد ...

مساهمة
(177)    هل أعجبتك المقالة (209)

أحمد الشامي

2014-11-07

رحم الله شهيدنا وكل شهداء سورية.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي