تونس الخضراء , حقاً انك تستحقين الفخر والثناء ,تستحقين أن نشكرك من كل قلوبنا ,لأنك أثبتي إننا كنا على حق ومازلنا ,وإن ما كنا نحلم به وكنا نتوقعه لم يكن وهماً وإنما حقيقة، الكثيرون حاولوا تثبيط هممنا، حاولوا ثنينا عن المحاولة، وأقنعوا بعضنا إن الثمن باهظ وكبير في سبيل شيء ربما لن يتحقق أبداً، وقد تنقلب أحلامنا الحلوة كوابيس، نشكرك تونس لأنك أثبتي للمشككين والمترددين والمتاجرين ,أن التغيير ممكن وأن العالم العربي والإسلامي يمكن أن يتقبل الديمقراطية، نعم حينما أشعلها البوعزيزي ناراً تهدي الحالمين بالحرية، حاول المتربصون والإنتهازيون والقابعون في كهوف الظلام والغيبيون وأصحاب الرؤى الضيقة أن يثبتوا إن هذه الشعلة ستحرق الأخضر واليابس وفعلاً وعبر أدوات قذرة زرعوا الحرائق في كل مكان وأرهبوا بسلاح الخوف والقتل كل المشتاقين للحرية والكرامة، لكنك تونس اليوم وبعد نجاح الإنتخابات وإعتراف الغنوشي بالهزيمة ومباركته لرئيس حزب نداء تونس بالإنتصار والفوز، تقنعين الجميع إن التوق الى التحرر من الديكتاتوريات في منطقة الشرق حلم قابل للتحقق وبداية لمشوار طويل سوف يلاقي الكثير من الصعاب والعراقيل ولكن مثل كل بقاع الأرض سوف تتطور التجربة وتترسخ ويصبح الحوار والتنافس الشريف بديلاً عن لغة التقاتل والتحارب وسفك دم الأخوة.
تجربة تونس الراهنة تجعل الكثير منا يتسائل لماذا نجحت الثورة هناك؟ ولم تنجح في دول مثل سورية وليبيا واليمن وتقهقرت في مصر..
ربما تحتاج الإجابة الى دراسة معمقة لواقع كل دولة على حدة ومقدار الترابط والتلاحم الشعبي الذي أنتجته الأنظمة الحاكمة في كل دولة، لكن من المعلوم إن التاريخ أثبت إنه لم تجلب معظم الثورات التي حدثت في العالم قيم الحرية والنظام الديمقراطي فثورة 1979 في ايران جلبت الإستبداد الديني وثورة البلاشفة في روسيا القيصرية جلبت الإستبداد الستاليني والثورة المصرية في عام 1952 جلبت الإستبداد الثوري وهذا الأخير بالذات هوما استقر كمفهوم ونظام حكم في الدول التي فشلت فيها ثورات الربيع العربي مؤخراً,فمعظم تلك الدول تشترك في عوامل ومزايا ساهمت في إجهاض حلم التحرر والديمقراطية، ففي حين أعتبرت تجربة تونس في الثورة أصلية وأصيلة ,ظهرت المحاولات الأخرى في الدول العربية كتقليد لتلك التجربة، ويمكن أن يكمن سبب الفشل هنا بالضبط حيث لم تكن الأرضية مهيئة بعد لذاك النهوض الثوري أو لربما كان قادة الحراك الجماهيري غير مستعدين فكرياً وتنظيمياً لقيادة ثورات تطيح بأنظمة رسخت جذورها في الأعماق ونشرت الفساد والعفن في كل مكان , كما إن الثورة نفسها لم تنتج قادة ميدانيين قادرين على تحريك دفة السفينة نحو اتجاه أكثر قابلية للصمود وأكثر مرونة في المناورة وكسب التأييد الشعبي والعالمي ,كما يبدو أن الدول التي فشلت فيها الثورة أو اتخذت بعداً عسكرياً تشترك في ميزة كونها تحكم من قبل أنظمة ثورية قوموية شعاراتية لم تتبنى مفاهيم المؤسساتية وفصل السلطات في ادارة البلاد فرفعت الشعارات القومية ومحاربة العدو الصهيوني وتحرير الأراضي المحتلة للتعتيم على الفساد والقمع والتسلط وهدر الثروات , كما عمدت الى تحويل الجيش والفروع الأمنية الى ملحقات تابعة لرأس الهرم السلطوي فأتخذت بعضها الجيش كحارس للطائفة وحامي كيانها مما أدى الى حرق كل الطائفة بأتون الحفاظ على الكرسي كما في سورية مثلاً ,أو اتخذت بعض الدول الأخرى الجيش الذي كان من المفترض أن يكون حامياً للجميع , كدرع قبلي هدفه حماية القبيلة والعائلة الحاكمة كما في اليمن وليبيا أما شعارات الوحدة والتضامن فقد ظلت حبراً على ورق ولم تتمكن تلك الأنظمة سوى من تكريس الفروق بين الطوائف والأقليات وبث نار التناحر والحسد ضمن تلك المجتمعات داخل حدود خارجية مصطنعة حبست لعقود الآمال والطموحات العريضة للبائسين والفقراء والمثقفين الطامعين بتحقيق المساواة .
سأل مرة أحد نواب مجلس الشعب السوري ورئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان عن سبب عدم منح الجماهير المزيد من الديمقراطية فأجاب النائب وبكل ثقة : (هل تعطي أطفالك الصغار سكيناً لتقشير البرتقال، طبعاً لن تعطيهم لإنهم سيؤذون أنفسهم أو أخوانهم ) كان هذا الحديث لذاك المسؤول قبل قيام الثورة بثلاث أو أربع سنين، ربما كان المسؤول على دراية تامة لما صنعه قائده ونظامه بهذا الشعب بحيث جعل منهم دمى وبقايا بشر أو حتى جراثيم متعطشة لشرب دماء أقرب المقربين من أجل ضمان البقاء على قيد الحياة.
مسؤول آخر كان وزيراً سابقاً ومعارضاً حالياً ذكر في لقاء تلفزيوني إنه إنتقد وبشدة عبارة طائفية كانت مكتوبة على جدران إحدى الحسينيات في طهران أثناء زيارته لها ضمن وفد حكومي , لكن الوزير السابق لم يذكر إنه اعترض أمام رئيسه على تحويل الجيش الى تابع طائفي وتحويل البلاد الى مزرعة تتحكم في مقدراتها شلة من الأقرباء والأصحاب والمنحدرين من عظام الرقبة .
طبعاً بهكذا مسؤولين وهكذا رجال تحولوا فجأة من أقصى اليسار الى أقصى اليمين أو العكس , ما كانت الثورات العربية أن تنجح وخاصة في دول مثل اليمن وسورية وليبيا تملك إما ثروات نفطية هائلة أو موقع استراتيجي هام جعلها ساحة للتصارع الدولي ومنطقة لتوزيع النفوذ من جديد بين الدول الكبرى .
إن ما يجري فوق أراضي هذه الدول حالياً هي حروب بالوكالة لن تنتهي الا إذا كفت الدول الكبرى والإقليمية من تدخلها في شؤون هذه الشعوب , وقد أثبتت التجربة التونسية إن التغيير الديمقراطي ينبع من الداخل وهو ممكن وقابل للتحقق وإن التضحيات المقدمة في سبيل ذلك ستكشف للجميع ذات يوم إن الناس تتشابه في كل مكان , في الغرب والشرق , في الشمال والجنوب والكل يتوق الى الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص ونيل الكرامة والحقوق الإنسانية الأساسية، لذا وحتى ذلك الوقت أقول : شكراً من جديد لتونس الثورة، تونس التغيير على المحاولة.

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية