ما العمل ؟ التحدي والإستجابة
في هذه الحلقة الأخيرة من حلقات "دعوات إلى التفكير والحوار" نحاول التبصر في طريقة مواجهة هذا الوضع المعقد الذي باتت تترنح فيه سوريا: سوريا الشعب، والوطن، والمستقبل. والذي باتت فيه جميع هذه المكونات وقد لفها ضباب المجهول، فلم يعد الواحد منا يتبين الرابط الوطني الذي يجمع السوريين جميعا، أو الذي يعطي الحرمة والقداسة لأرض الوطن، أو يكشف عن أفق ممكن لمستقبل الشعب والأرض، لمستقبل الوطن ومواطنيه.
ومحاولة التبصر هذه صعبة للغاية لأن أي مواجهة لا تحتاج فقط إلى صحة الرؤيا، وإنما إلى توفر الإمكانية، أي توفر أدوات إنفاذ هذه الرؤيا، وهي أدوات ضاعت وضاقت ملامحها ومكوناتها بعدما وُضِعت الكثير من قوى الحراك الثورة، ومنذ وقت مبكر، بين خيار مد اليد إلى الخارج طلبا لدعم تظن أنها تستطيع من خلاله مواجه طغيان هذا النظام ودمويته، وبين خيار مد اليد إلى القوى الأكثر تطرفا التي رفعت شعار إسقاط النظام وصولا إلى نظامها هي، وأهدافها هي، بعيدا عما كان الحراك الثوري في سوريا يبتغيه.
ولأجل بسط هذا الأمر بأكبر قدر من الوضوح والدقة فإننا نقدم له بثلاث مقدمات تختزل الكثير مما أتينا عليه متفرقا، و تحدد الكثير مما عرضناه في الحلقات السابقة، ثم تسمح بالدخول إلى رسم طريق المستقبل بقدر أكبر من التماسك والفاعلية.
المقدمة الأولى: مواجهة مشبعة بالتساؤلات والشكوك
هذه المواجهة العالمية الجارية مع "تنظيم / دولة الخلافة الإسلامية" ملفتة ومثيرة بآن، وإذا كان ما يصدر من تصريحات ومواقف من قادة هذه المواجهة يوحي إلينا بجديتها، فإن النظرة الموضوعية لطرفي الصراع يجعلنا نشكك في صدق وجدية هذه المواجهة، أو في أنها مواجهة يستهدف كل طرف فيها الانتصار النهائي على الطرف الآخر.
إن التدقيق في مجريات الصراع حتى الآن يرجح وجود رغبة عند دول التحالف ليس بحسم الصراع بسرعة، وإنما بمد أجله لسنوات طويلة، وبجعله أكثر تكلفة مادية وبشرية، وبدفعه لتوليد حقائق على أرض الصراع تمنع ـ على نحو أشد تأثيرا ـ من عودة الأوضاع في هذا البلد إلى ما كانت عليه، أي أن من شأن هذه الحقائق المولَدة أن تسقط القوة الجيوسياسية التي تمتعت بها سوريا على مدى تاريخها، وتسقط كذلك وحدتها الجغرافية.
ولو دققنا النظر في زاويتين من زوايا الصراع حداهما المعركة حول عين العرب، والثانية الحديث عن تملك هذه "الدولة / التنظيم" لسلاح طيران، ووجود طيارين عراقيين يدربون مقاتلين منها على التحليق بهذه الطائرات، فلن يغيب عن بصيرتنا أن بعض أوجه معركة عين العرب يستهدف تعزيز ارتباط الأكراد بهذه المدينة التي هي جزءا من الوطن السوري، وجعلها رمزا يلتقي عليه أكراد سوريا وتركيا والعراق، وترويج الإسم الكردي الجديد لها "كوباني"، وهو اسم لا وجود له في تاريخ جغرافية المنطقة، ولا معنى لغوي أصيل له. ولن يغيب عن بصيرتنا أن الحديث عن الطائرات إنما يعكس رغبة في تضخيم قدرة هذه الدولة / التنظيم، واصطناع إجابات للتساؤلات الخاصة بمكامن ومصادر القوة فيها، وهي من أولى التساؤلات التي طرحت بشكل جدي مع ظهور هذه "الدولة / التنظيم" وما حققته من انتصارات.
لقد دمر النظام السوري على مدى سنوات الصراع الماضية الكثير من مظاهر الحضارة والبنيان في سوريا، وشرد ثلث شعبها في داخل سوريا وخارجها، وحول السوريين إلى لاجئين، وليكون لهم صدارة العدد بين مختلف أعداد اللاجئين في العالم، وقتل ربع مليون سوري، وزرع في هذا المجتمع روحا طائفية مدمرة، سقاها وغذاها بما استقدمه من قوى طائفية من إيران والعراق ولبنان وغير هذه من البلدان.
ويبدو أن المرحلة الجديدة من الصراع على الأرض السورية بين "دولة/ تنظيم الخلافة الإسلامية" والتحالف المقابل تستهدف القضاء على ما تبقى من سوريا.
تدمير المزيد من مظاهر الحضارة والبنيان، تشريد المزيد من السوريين، زيادة عدد القتلى والمصابين والمعاقين، تعميق الضغينة بين مكونات الشعب السوري، ومن ثم تنمية مظاهر الفرقة والإنقسام بحيث تصبح العودة إلى سوريا الموحدة حديثا من خيال، وفي خلال ذلك كله تشويه وتخريب روح الجهاد التي ظهرت بين أبناء هذا الشعب دفاعا عن كرامته وحقه في الحياة الكريمة، وذلك من خلال هذه الصورة المكروهة التي تقدمها "دولة /تنظيم الخلافة الإسلامية" للدين الإسلامي القائمة على التكفير والقتل والسبي والإكراه.
** والحقيقة التي لا تحتاج إلى إثبات، أن الحراك الثوري في سوريا الذي انطلق منتصف مارس 2011 لا يمت بصلة إلى ما آل إليه الوضع في هذا البلد، ولا يمت بصلة إلى ما أعلنت عنه واستهدفته "دولة / تنظيم الخلافة الإسلامية"، وأن هذا الحراك الثوري قد سرق وأخذ إلى غير أرضه، ومبتغاه.
** والحقيقة الأخرى التي لا تحتاج إلى دليل أن الدول العربية والعالمية التي أعلنت وقوفها الى جانب هذا الحراك الثوري لم تكن صادقة فيما أعلنت، بل إنها عملت بوعي وبفعالية أيضا على حرف هذا الحراك عن مساره الأصيل فقدمت بذلك خدمة لا تقدر بثمن للنظام السوري، إذ ساعدته على تصعيد الصراع عسكريا، وعلى إظهاره وكأنه صراع مع الخارج يستخدم أدوات داخلية، دون أن تُمكن أي قوة في الداخل من حسم الأمر عسكريا، ثم تدريجيا أعطت منطقه المعلن ـ منذ اللحظة الأولى ـ بأنه يحارب إرهابا قادما من الخارج نوعا من المصداقية لا يستأهلها، ولقد جاءت أفعال "دولة / تنظيم الخلافة" لتعطي هذا المنطق مزيدا من الدعم، وليكون ذلك كله سبيلا له ليخفي سلوكه الإجرامي القاتل تجاه السوريين عموما وحياتهم ووجودهم وتماسكهم الاجتماعي.
المقدمة الثانية: خلافة على غير حقيقتها
لاشك أن "دولة / تنظيم الخلافة المعلنة" تختزن في داخلها الكثير من عناصر القوة، لكن صلتها بمفهوم الخلافة في التاريخ الإسلامي واهية، وهي وإن كانت تتغذى من رؤى متخلفة لهذا المفهوم، فإنها تتغذى أكثر من أجواء الظلم والقتل والطائفية التي أثارها النظام السوري، ومن العدوانية الفاحشة وغير المسبوقة التي أظهرها النظام العالمي تجاه دول إسلامية في مقدمتها العراق وأفغانستان وفلسطين المحتلة، كما تتغذى من الضعف والتبعية والخذلان التي بات عليها النظام العربي والإسلامي بأشكاله المختلفة، والذي حاول أن يغطي عورة هذا بالإسلام تارة وبفلسطين تارة أخرى، فكان في الأمرين مستهترا ومستغلا بأبشع صورة لقضايا لها قدسيتها ومكانتها في الضمير العربي والإسلامي.
إن مفهوم "دولة الخلافة" القائم على وجود حاكم فرد يجمع بين يده مختلف السلطات التي تحكم حركة المجتمع وتفاعلاته، كمثل ما كان الأمر في أنظمة الخلافة التي مرت على هذه الأمة، ليس شرعا، وليس شيئا من دين الله، ولا من عقيدته، وإنما كانت جزءا من حقائق الحياة السياسة المحلية والدولية، وتجسيدا لمحصلة القوى الفاعلة في المجتمع، بعد أن أحيط ذلك كله ببعض قيم الإسلام، زادت ونقصت وفق كل مرحلة، ووفق طبيعة القوى المسيطرة.
كذلك فإن مفهوم "دولة الخلافة" القائم على وجود دولة واحدة للمسلمين جميعا ليست أمرا عقديا، ولا فرضا شرعيا، وإنما هي من باب المصالح، أي أن توفرها، والعمل على إيجادها، إنما يستند إلى تحقق مصلحة في إيجادها، ويدور وجود وعدم وجود وحدة الدولة على توفر المصلحة التي تقدرها الإرادة المشتركة الحرة للشعوب الإسلامية.
ومجتمع المسلمين ليس مجتمعا معزولا عن سنن الله في الاجتماع البشري، ولا يستطيع تجاوز هذه السنن، وقد أظهرت تجارب كل الشعوب دون استثناء أن أقوى وأكثر أشكال الاجتماع بات في هذا العصر يبنى على قاعدة الانتماء القومي، وهو الانتماء القائم على توفر مجموعة متسعة من عوامل الوحدة بين أبناء الأمة الواحدة وأقاليمها، وتوفرُ هذه العوامل يمكن الأمة من تحقيق مصالحها على أوسع نطاق وبأسرع ما يمكن، ويمكنها من التفاعل مع الآخرين بأعلى كفاءة متاحة.
وليس في هذا الأساس القومي ما يمنع من التطلع والعمل لأجل وحدة أعلى من الوحدة القومية، انطلاقا من تحقيق الوحدة القومية، شريطة أن يأتي هذا استنادا إلى توفر عامل المصلحة، وقيم الانسجام الاجتماعي، وأن يتجسد ذلك من خلال الإرادة الحرة لهذه الأمم والشعوب.
وليس في هذا الأساس القومي ما يدعو أو يسمح بنظرة مختلفة ومتخلفة للأقليات الدينية والقومية التي توجد في هذا المجتمع، فهذا الأساس القومي ليس تحديدا عنصريا وإنما تحديدا ثقافيا للإتجاه العام لحركة المجتمع ولهويته.
وإذا كنا نؤمن حقا بأن الإسلام دين اجتماعي، أي دين يدخل في عمق النسيج الاجتماعي ـ وهو كذلك حقا ـ فإنه بهذه الطبيعة يوفر قيمَ انسجام اجتماعي حقيقيةً، قائمة على وحدة القوانين الاجتماعية، ووحدة القيم الاجتماعية، ووحدة القيم الحضارية، وهذا ما يوفره التشريع الإسلامي، لذلك فإنه في حال توفر المصلحة المادية والأمنية، فإن الكثير من هذه الدول تتوفر عندها إمكانية الانتقال إلى العمل الموحد، بأي شكل ترضاه شعوبها، بأكثر مما توفر أو يتوفر للدول الأوربية التي بنت الاتحاد الأوربي، أو لدول أمريكا الوسطى التي تعمل على بناء شكل موحد للعمل فيما بينها.
ومنذ وقت مبكر، منذ بدأت الدولة العثمانية تصوغ قواعد الشريعة على شكل نصوص قانونية، تجاوز مجتمع المسلمين فيها مفهوم الجزية والذمة، وحولهما إلى مكون من مكونات مفهوم المواطنة، بحث أصبح جميع من ينتمي إلى هذا الوطن، وإلى هذه الأمة، أيا ما كان دينه، وأصله، هو جزء من مواطني هذا المجتمع، وأعتُبر اختلاف الدين والعرق من مزايا مجتمعنا التي تزيده غنى وقوة.
إن مفهوم "دولة الخلافة" التي أعلنها البغدادي، وممارساتها، والقيم التي بدأ يبثها مثل الاستعباد والإكراه بدعوى استعادة قيم إسلامية جرى إهمالها، لا أساس لها في أصول الإسلام وقواعده وعقائده وتشريعاته الخالدة، وبالتالي فإن ما تقوم به هذه الدولة يقدم نموذجا سيئا وسلبيا للإسلام ونظامه السياسي والاجتماعي، ويوقع أبلغ الضرر بالمسلمين ودعوتهم في كل مكان في العالم.
المقدمة الثالثة: مشاريع متصارعة
إننا الآن على ساحة الصراع في سوريا أمام طرفين يظهر أن لكل منهما مشروعه الخاص، وكلا منهما في مشروعه بديلا عن الآخر:
** مشروع "تنظيم / دولة الخلافة": وهو مشروع أوضحنا أنه لاصلة له بالحراك الشعبي في سوريا، ولا صلة له بتاريخ النضال الوطني السوري، هو مشروع خاص يستمد أركانه ـ في أحسن الفرضيات وأكثرها صفاء ـ من فكر ديني متخلف تكفيري لا يملك القدرة على تقديم أي بناء إيجابي في حياتنا.
** ومشروع التبعية للخارج: وتسليم زمام الأمة ومقدراتها للقوى الدولية المختلفة التي باتت على اختلافها تجتمع خلف شعار مكافحة الارهاب، ولا ترى من الإرهاب إلا ذلك الذي تريد أن تراه، لا ترى إرهاب النظام السوري، ولا ترى إرهاب النظام العراقي، ولا ترى إرهاب الكيان الصهيوني، ولا ترى إلا الظلم الواقع على الأكراد، أو الواقع على الإيزيديين، باعتبارهم أقليات، أما الظلم والقهر والقتل الواقع على السوريين بكونهم سوريين، أو على العراقيين بكونهم عراقيين فإنها لا تراه.
وما بين المشروعين قوى عديدة كانت لها صولة وجولة في الصراع ضد النظام السوري، لكن نتيجة السياسات المعتمدة من مختلف هذه النظم والقوى بدأت الأرض تسحب من تحتها، وبدأت تفقد الكثير من قوتها، وبدأت تُدفع دفعا لتكون جزءاً من هذا المشروع أو ذاك.
إن كل المعارضة الوطنية الداعية إلى الحل السياسي، وكل أطراف الجيش الحر الباحثة عن مثل هذا الحل، بدأت تنزوي تدريجيا، وبدأ صوتها يختنق، وبات واضحا أن المطلوب منها أن تذهب إلى هنا أو هناك، وهذه حالة خطرة تغير من طبيعة الصراع ومن آفاقه.
في ظل هذه المقدمات الثلاث، وفي ظل كل ما سبق أن طرحناه في حلقات دعواتنا إلى التفكير والحوار يأتي سؤال:
ما العمل؟. ما الذي يجب أن نفعل ؟ وماذا يمكن أن نفعل؟ كيف نواجه هذا التحدي ؟ وكيف نستجيب لدواعيه؟
ومثل هذا السؤال ليس جديدا أو مبتكرا، وإنما هو السؤال القديم المتجدد الذي واجه الشعوب وحركاتها في كل مرة وقفت فيها عند منعطف حاسم، وهو السؤال الذي عمل كثير من المفكرين والقادة في أصقاع العالم المختلفة وفي وطننا العربي على الإجابة عليه، كل وفق طبيعة بلده، وظرفه، وتطلعه، والتحديات التي تواجهه، وقبل هذا وبعده الفكر الذي يوجهه، ويلتزم به.
طبيعة جديدة للصراع في سوريا
لفترة طويلة ورغم دخول عوامل إقليمية عديدة على ساحة الصراع في سوريا بقيت المسألة السورية إلى حد ما في أيدي السوريين أنفسهم.
لكن الأمر تغير كثيرا، الصراع لم يعد الآن على تغيير أو إسقاط النظام السوري، وإنما بات صراعا على تغيير المنطقة، وإسقاط مكوناتها، وإعادة رسم خارطتها، على قواعد طائفية عرقية تشترك في ذلك ولأسباب مختلفة قوى الصراع الثلاثة: النظام وحلفاؤه الاقليميون والدوليون، والقوى الغربية وحلفاؤها الاقليميون، و"تنظيم / دولة الخلافة الإسلامية"، وتنزوي بشكل تدريجي وسريع قوى الحراك الثوري السوري والمقاومة السورية السلمية والمسلحة على السواء.
وفيما عدا ايران وتركيا تبدو معظم الدول الإقليمية المشاركة في هذا التغير لطبيعة الصراع غير مدركة لأثر ذلك على وجودها ومستقبلها، أوغير قادرة ولا راغبة في مواجهة حقيقة هذا التغير في طبيعة الصراع، وهي تساهم فيه من خلال موقع التبعية الذي ارتضته لنفسها.
ونستثني ايران وتركيا كل لأسبابه المختلفة:
** إيران التي تمضي في إطار مشروعها الخاص"مشروع ولاية الفقيه" بأبعاده الطائفية والقومية، وتجند لأجل ذلك قواها الطائفية في إطار ما يمكن أن ندعوه ب"المجال الحيوي" لها أي القوى الشيعية الطائفية في لبنان والعراق وباكستان .. الخ، ولنقل في العالم كله، وتمكنت من ضبط النظام السوري في إطار هذ المجال الحيوي بعد أن برزت كحامية حقيقية وفاعلة له في مواجهة ثورة الشعب السوري، وكمصدر دعم عسكري واقتصادي وأمني له في هذه المواجهة.
وإيران هذه تقف إلى جانب تغيير خارطة المنطقة، لصالحها ولصالح مشروعها، وما فعلته في العراق حين ورثت الاحتلال الأمريكي، وثبتت البنية الطائفية التي خلفها النظام الأساسي الذي وضعه بول برايمر عقب احتلال العراق، وراحت تدعم صراعا طائفيا داميا في هذا البلد منذ ذلك الحين، ثم راحت تدعم الطائفية في سوريا، وتطلق الفتاوى من مرجعها الأعلى داعية الشيعة في كل العالم للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، ودفعت بحزب الله اللبناني ليكون من أقوى أدواتها المقاتلة في سوريا، مدمرة بذلك تاريخه المشرف في قتال الكيان الصهيوني، كل ذلك في إطار منظورها لتغيير المنطقة، وما نشاهده الآن في اليمن ودور الحوثيين المتضخم يأتي في هذا الإطار تماما، تسليحا وتمويلا وتدريبا وتوجيها، ومظاهر هذا الفعل نجده ـ إذا دققنا النظر ـ في أقاليم عدة من دول الخليج العربية، ودول المغرب العربي، وصولا إلى أفغانستان وباكستان، وإلى أفريقيا واستراليا والأمريكيتين.
إيران تريد أن تكون القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة، وإذ تعلم أنها لا تستطيع ذلك بنفسها فقد حقق لها الطابع الطائفي الشيعي المتمثل بنظرية "ولاية الفقيه" إمكانية فعل ذلك.
إن توجيها يخرج من المرجعية الإيرانية يعتبر بالنسبة ل "الشيعة الآخذه بولاية الفقيه" بمثابة تكليف شرعي موحى به، وهو شكل من أعلى أشكال الالتزام، ومن أكثرها فاعلية، ومن أجل ذلك اعتبرنا في حلقة سابقة، أن "دولة الخلافة الإسلامية" هي المعادل الموضوعي لدولة ولاية الفقيه، لأن أسسهما في الارتباط والتبعية والتشريع والتكليف تكاد تكون واحدة.
** وتركيا هي أيضا تملك مشروعها الخاص القومي الإسلامي القائم على استعادة دورها في محيطها الإسلامي، والاقليمي، والدولي، وقد يظن البعض أن تركيا تحاول استعادة "المشروع العثماني"، وهو ما يروج له النظام السوري وتروج له ايران، للطعن بالموقف التركي، ولوضع حاجز بين تركيا وبين محيطها العربي الذي بدا أنه متفاعل مع النموذج التركي، لكن التدقيق في هذا الأمر يظهر بيسر تهافت هذا التصوير، إذ أن تركيا نظام ديموقراطي لا يملك رئيس أو حزب أن يخترع لشعبه أهدافا زائفة، أو أدوارا زائفة، وتركيا مجتمع غني بتركيبه العرقي والمذهبي، ولا يستطيع حزب أو زعيم أن يغامر بالصدام طائفيا مع هذه البنية الاجتماعية.
إن تركيا التي باتت الآن تعتز بتاريخها العثماني، إنما تفعل ذلك بحكم الضرورة التاريخية والاجتماعية، وليس بحكم التطلع المستقبلي، ذلك أن"الدولة العثمانية"هي تاريخ تركيا المعاصرة، وليس لتركيا تاريخ خارج هذه الدولة، من هنا فإن القفز فوق تاريخ هذه الدولة، كما فعل" أتاتورك"، وجسده بتغيير الحرف العثماني، إنما كان يعمل على قطع هذا الشعب عن تاريخه، وهو أمر لا يمكن أن يستمر.
وما يفعله رجب طيب أردوغان، وما يفعله حزب العدالة والتنمية في هذا الشأن لا يعدو أن يكون تجسيدا لتوجه"الشعب التركي تجاه تاريخه"، وما يفرضه ذلك من تفاعل مع محيطه، وليس تطلعا للشعب التركي تجاه مستقبل يريد من خلاله أن يستعيد تلك "الخلافة العثمانية"، لذلك يلقى هذا التوجه دعما من كل أطراف هذا الشعب، ولم يبرز لدى أحد من أطراف العمل السياسي التركي معارضة لهذا التوجه.
إن النظام التركي لا يستطيع أن يكون طائفيا ـ كما النظام الإيراني ـ ولا يستطيع أن يغامر بوحدة الوطن التركي، ولا وحدة الشعب التركي، ولا يستطيع أن يبني نظاما ديكتاتوريا، ولا يستطيع أن يتجاوز على أعمدة الحكم الديموقراطي من مثل البرلمان والقضاء أو الصحافة، إلا بقدر ما يتيح القانون نفسه، وإذا حدث ذلك في هذه المرحلة أو في أي مرحلة قادمة فإن الديموقراطية قادرة على مواجهة انحرافات كهذه.
من هنا فإن تفاعل تركيا مع الأزمة السورية ينطلق من هذه الحقائق، لا يتجاوزها، ولا يستطيع أن يغامر بمواقف تناقضها، إن حزب العدالة والتنمية سيدفع ثمن ذلك، وما من زعيم حزب ولا يوجد حزب يقبل أن يسقط في مثل هكذا امتحان.
وخارج إيران وتركيا فإن القوى الإقليمية الأخرى جميعها، لم تظهر أنها تملك خيارا مستقلا أو مشروعا تريد أن تحققه، ولا تعدو أن تكون ماضية في إطار ما يخطط الآخرون للمنطقة " .....حذو القذة بالقذة، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، ...." أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه الشيخان وأحمد بألفاظ متقاربة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ما العمل : الاستجابة المطلوبة لهذا التحدي
في ظل هذه التغيير لطبيعة الصراع وقواه لم يعد كافيا أن تكون أهدافنا في سوريا هي نفسها الأهداف التي انطلقت لأجلها ثورة السوريين، ولم يعد ذلك ممكنا بعد أن دخلت القوى الأخرى ومشروعاتها إلى الحدث والملف السوري.
إن أي تطلع إلى مواجهة هذا الصراع لابد أن يستوعب هذه التغيرات، أي لابد أن ينطلق من مشروع يقابل مشاريع تلك القوى، ويستطيع أن يجمع حوله قوى حقيقية قادرة على تحقيق النصر لهذا المشروع ولو بعد حين، ثم لا بد أن تكون لمشروع المواجهة الذي ندعو إليه مدخلا مرحليا يمكن المؤمنين به من الولوج إلى حيز التأثير والفعل.
وما يجب أن نتنبه إليه بداية حقيقة أن التغييرات الجارية في سوريا خطرة وعميقة، وليس من السهل اختراقها، وبالتالي فإن تصور استعادة سوريا دونه الكثير جدا من العوائق بل تبدو في أحيان كثيرة أن تلك الاستعادة مستحيلة.
كذلك فإن القوى التي يمكن للمشروع الذي نطرحه أن يستند إليها تبدو الآن غير فاعلة ومنقسمة على نفسها، وكأنها تدور في حلقة مفرغة من التراجع والاحباط.
لكن مع ذلك فإن إيمانا عميقا بأن هذه الأمة لن تموت، وأن واحدة من أهم مدخلات حياتها أن تستعيد سوريا وإقليمها عافيتها في إطار أمتها العربية، يجعلنا نرى أن المستقبل لمثل هذا المشروع، وأن الأمل الوحيد كامن فيه.
مشروع المواجهة:
يقوم مشروع المواجهة على محاور محددة لابد من إدراكها والعمل من خلالها.
1ـ إدراك طبيعة سوريا وتجسيد هذه الطبيعة : فسوريا ليست قبرص، وليست نيجيريا، ولا يتهافت علينا العالم نصرة لهذه الأقلية أو تلك، ولا رغبة بثرواتنا، وإنما لأن سوريا: التاريخ والجغرافيا والموقع، والمنتَج الحضاري، والتنوع الإنساني، يجعلها ممسكة بأقدار المنطقة. ممسكة بالاتجاه العروبي والحركة القومية كلها وخصوصا تجاه مصر، وممسكة بقضية المواجهة مع الغرب الاستعماري ممثلا بالكيان الصهيوني، وممسكة بالحراك الإسلامي والعلاقات مع الدول الإسلامية الرئيسية وهي هنا تركيا وايران.
وأول ما يجب أن يتوفر في مشروع المواجهة هو تجسيد هذه الحقيقية، حقيقة سوريا ودورها ومكانتها. إن هذا البلد لا يستطيع أن يعيش بنصف رئة، ولا بجزء من القلب، ولا أن يقوم على قدم واحدة، ولا يستطيع أن يتخلى عن ذاكرته، أو أن يفرط بمخزونه التاريخي.
إن كل تحرك، وكل شعار، وكل مواجهة، يجب أن تحتضن هذه الحقيقة وتجسدها، وتحتضن القوى المؤمنة بها، وكل شكل من أشكال التخلي عن هذه الحقيقة أو عن بعضها يعني تمكين المشروعات الأخرى من الانتصار في هذا الصراع.
وسوريا التي نعني ليست جغرافية الجمهورية العربية السورية ـ وإن كانت هذه الجغرافية نقطة ارتكاز لا بد من صيانتها ـ وإنما سوريا التي نعني تشمل ما يعرف ببلاد الشام جميعها بما فيها فلسطين المحتلة.
ودون تفصيلات ليس هنا مجالها فإن هذه الحقيقة"الجيوسياسية والعقدية والثقافية" لسوريا تجعل من أهم ما يجب على قوى هذا المشروع العمل من أجله هو: تجسيد العلاقة الحقيقية المصيرية بين العروبة والإسلام، وهذه ليست علاقة شعارات، وإنما علاقة جوهر يقوم عليه مشروع حياة ومشروع بناء، وتتحدد على أسسه مجمل العلاقات الإقليمية والدولية، أي أنها علاقة محددة للمشروع نفسه.
وهذا يعني بالتحديد أننا نطلع إلى بناء "دولة عروبة وإسلام"، في سوريا وقوميا، وذلك بما تقوم به من دور وفاعلية واحتضان لكل مكونات هذه الأمة بكل الأشكال المطلوبة والمفيدة. دولة يندمج فيها العرب جميعهم مسلمين غير مسلمين، ويندمج فيها المسلمون جمعهم عربا وغير عرب، دون أن يفقد مكون من هذه المكونات خصائصه ومميزاته، فيكون حينئذ هذا التنوع المتمايز والمتناغم هو القوة الحقيقية للنموذج السوري.
وبناء مثل هذه الدولة في سوريا يستدعي الخروج من حالة الإنقسام بين القوى القومية والقوى الإسلامية، وبناء حالة من التحالف والتعاون تعطي لهذا المشروع احتياجاته من القوة والتماسك والقدرة على المواجهة، وحين يتحقق ذلك تصبح الفروق بين هذه القوى هي فروق وظائف ومهام وليس فروق تصارع وانقسام.
** على القوميين جميعا مسلمين وغير مسلمين أن يلتزموا الإسلام في حياتهم، الإسلام العقيدة والشريعة، أو الإسلام الحضارة والقيم، كل بحسب مرجعيته الدينية، ودون هذا الالتزام يصبح الحديث عن الإسلام لدى القوميين حديث دعاية ليس إلا، إن قضية الإسلام هنا ليست قضية شريعة داخل المجتمع فحسب، وإنما قضية سلوك وسياسات على المستوى الدولي، قضية مسؤوليات ومهمات على المستوى الكلي لابد لهذه الأمة العربية أن تقوم بها، ولابد لقوى النهوض السورية أن تتمثلها.
ليست المسألة هنا مسابقات للقرآن الكريم تفتح ذراعيها للمسلمين من كل مكان، وليست بعثات للعلماء من الأزهر الشريف تذهب إلى مشارق الأرض ومغاربها، وليست مؤتمرات إسلامية تعقد هنا أو هناك، أو منظمات إقليمية تعمل تحت اسم الإسلام، وإنما هي مسؤولية نهوض بهذا العالم الذي تجمعنا به وحدة العقيدة، والتشريع، ونلتقي معه في كثير من أجزاء التاريخ، ونواجه في أحيان كثيرة المخاطر والتحديات نفسها.
** وعلى الإسلاميين جميعا عربا وغير عرب أن يجسدوا العروبة في برامج عملهم، ونشاطاتهم، ودون ذلك يكون حديثهم عن العلاقة بين العروبة والإسلام حديث خادع دعا إليه ظرف عابر، أو ضرورة مرحلية.
هذه قضية جوهرية لبناء أي رؤية للمستقبل، إن أي مسلم في أي مكان في العالم، وفي الوطن العربي خصوصا يجب أن يعي هذه العلاقة، وأن يتفهم ضرورتها، وأن يتفاعل معها، وأن يجعل مقتضياتها جزءا من برنامجه وبرنامج حزبه أو مجتمعه، ومن تجليات هذا الفهم ندعو لأن تكون اللغة العربية لغة رئيسة في كل مجتمع مسلم، يدعو لها ويعمل من أجلها كل مسلم وكل حزب في أي بلد إسلامي يعمل على بناء مجتمع حضاري فاعل، وعند هذه النقطة بالذات أدعو إخوتي في التيار الناصري والقومي أن يعودوا لقراءة المذكرة التوضيحية لقانون تطوير الأزهر الصادر في العام 1961 ليطلوا على مظهر من مظاهر رؤية مشروع جمال عبد الناصر لهذه العلاقة.
واستنادا إلى هذه القاعدة فإن هناك ضرورة حقيقية مرحلية واستراتيجية لبناء علاقة عمل وتحالف بين التيار القومي والتيار الإسلامي في سوريا، علاقة يكون جوهرها أن تستعيد سوريا دورها التاريخي، وأن يعاد وضعها على سكة بناء وحدة هذه الأمة.
هذا شرط لازم للقدرة على تغيير الواقع وبناء المستقبل، ودون تحقق هذا الشرط فإن الكثير من الجهود سوف تضيع ولن يتوفر لأحد في التيارين أن يحقق شيئا إيجابيا مهما تلاعبت به الخيالات، أو ذهبت به الأحلام.
إن كل دعوة لتقسيم سورية على أساس ديني أو طائفي أو مذهبي أوعرقي أيا ما كانت دوافع هذه الدعوة، هي دعوة تخدم أعداء هذا البلد، وتستهدف في جوهرها تدمير علاقة الإسلام بالعروبة، وبالتالي تدمير الجغرافيا السياسية والحضارية لهذا الإقليم، ولا يمكن أن تواجه مثل هذه الدعوات إلا بتجسيد معاني العلاقة بين العروبة بالاسلام، وإلا بترابط القوى القومية والقوى الإسلامية على أرضية من العمل المشترك، كل بما هو مهيأ له.
ومثل هذه الدعوة ليست سهلة التحقق، وقد يكون دون تحقيقها جبال من العوائق تزداد كل يوم، لكنها دعوة لابديل لها، تفرضها الحقائق الموضوعية بمثل ما تفرضها الحاجة المرحلية.
2ـ وبسبب هذه الطبيعة لسوريا فلا يمكن استعادتها في ظل حالة الاستقطاب الدولي والإقليمي المدمر الجاري فيها وعليها، إن أحد الشروط الضرورية لهذه الاستعادة أن تخرج سوريا من حالة الاستقطاب الراهنة.
نحن لا نريد سوريا المستقبل تابعة لروسيا وإيران ومنفذة لسياساتهما ومصالحهما، ولا نريد لسوريا المستقبل أن تكون رهينة مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ومرتبطة بسياساتها ورؤيتها، ولا نرى إمكانية لخروج سوريا من حالتها الراهنة إن لم يتم التمسك بقوة وبحسم بهذا الموقف، وبتجسيده على مختلف الصعد.
إن سوريا التي نريد هي سورية الموحدة لكل مواطنيها، سوريا الديموقراطية المجسدة لإرادة شعبها وقضايا أمتها، سوريا الحضارية المتمثلة لتراثها الروحي والعقدي والأخلاقي، سوريا الناهضة بالعدالة في بناء مستقبلها، سوريا العربية الحاضنة والملتزمة بكل مكوناتها العرقية والدينية.
وسوريا التي نريد تمد يدها إلى كل من يساهم في إعادة بنائها على هذا النحو، ورغم كل الجراح، بل ورغم كل شلالات الدم التي ساهم هذا الطرف أو ذاك في تفجرها ببلدنا، فإننا في نظرتنا إلى المستقبل يجب أن نعض على الجرح، ولا نكونَ أسرى ما كان.
يجب أن يتيقن المعسكر الذي تقف على رأسه روسيا وإيران أن سوريا لن تكون في الموقف المعارض وفي المعسكر المواجه للولايات المتحدة لأن مصالح هذا المعسكر تقتضي ذلك، ويجب أن يتيقن المعسكر الذي تقوده واشنطن أن سوريا لن تكون في هذا المعسكر وحسب ما تقتضيه مصالح هذا المعسكر ضد روسيا وايران .
إن سوريا المستقبل، وقيادة سوريا المستقبل، يجب أن يكون نظرها إلى المصلحة السورية العليا، المصلحة الوطنية والقومية، وما يعززها ويرسخها ويحميها.
3ـ لقد تم تدمير سوريا، ولا خلاف على أن إعادة بنائها ضرورة لأي حياة مستقبلية، وإعادة البناء ليست قضية تقنية، تحلها المخططات، والتمويل، ـ على أهمية ذلك ـ، وإنما قضية اجتماعية، قضية التزام بالقوى الشعبية التي دُمرت حياتها، وخُربت بيوتها، وفقدت أبناءها ومعيليها، قضية أجيال من أطفالنا وشبابنا فقدت حقها في التعليم وفي الحياة السوية، قضية بنية اقتصادية تم تدميرها وتدمير مصانعها وزراعاتها، وبنيتها التحتية.
وإعادة بناء كل ذلك لابد أن يكون ضمن الأولويات، وهنا تبرز العدالة صنو التنمية، إذ لن تكون في سوريا التي نتطلع إليها تنمية دون أولويات تُعطى للعدالة، بحيث تكون من استهدافات هذه التنمية إعادة التوازن لقوى المجتمع وطبقاته، ويأتي في مقدمة الأولويات إعادة المهجرين واللاجئين ببناء مساكن لهم، وإتاحة التعليم لهم، وتوفير فرص العمل لهم.
إن كثيرا من الدول والشركات الأجنبية تنظر إلى مرحلة إعادة بناء سوريا وتنتظرها باعتبارها فرصة لها لجني مليارات الدولارات أرباحا تزداد بها قوة وسيطرة، ويزداد الشعب السوري بديونها انسحاقا وتبعية.
هذا ما يجب التنبه إليه، ورفض الوقوع فيه، فإعادة بناء سوريا يجب أن يكون على قاعدتي العدل والتنمية المستقلة، ودون ذلك فسيكون إسهاما بمزيد من التدمير لدور سوريا ومكانتها، وقدرتها المستقبلية.
4ـ ولعل من أهم وأخطر ما يحتاجه إعادة بناء سوريا هو توفير الأمان تجاه المستقبل، إذ بمثل هذا الأمان تتراجع فرص ولادة نظام جديد قادر على أن يقوم بما قام به النظام الحالي من تدمير وتخريب للبنية المادية والاجتماعية في سوريا، وليس هناك من سبيل على الإطلاق لتوفير هذا الأمان إلا باعتماد قاعدة العدالة الانتقالية، محلية كانت أم دولية.
إنه لا يجوز تحت أي ظرف أو علة السماح للقاتل أن ينجو بجريمته، ولا للص أن يتمتع بنتائج فعلته، وإذا حدث ذلك فسيكون في الأمر تشريعا ودعوة لأي مستبدٍ أي يعيد الكرة، وأن يمارس الفعل نفسه، وأن يحلم بأن يكون الإمعان في ارتكاب مزيد من الجرائم سبيله إلى النجاة.
والعدالة الانتقالية لا تعني أبدا الاقتصاص من النظام القائم، ومحاكمة رموزه، فليس هذا معيار مثل هذه العدالة، وإنما تعني الاقتصاص من مرتكبي الجرائم التي تصنف في القانون الدولي والوطني باعتبارها جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم إباده، أو جرائم تعذيب لا يقرها القانون، أو جرائم انتهاك للقيم الانسانية أو الدينية ... الخ، أيا كان مرتكبها، ويتساوى أمام هذه العدالة جميع مرتكبي هذه الجرائم من النظام وقواه المسلحة أم من المعارضة، أم من "تنظيم / دولة الخلافة الإسلامية"، أم من أي جهة كانت، ويحاسب كل منهم وفق مسؤوليته وولايته الواقعية والقانونية.
والعدالة الانتقالية لا تبتغي الانتقام، والثأر، بل إنها السبيل الوحيد لتجاوز هاتين القيمتين الكفيلتين بتدمير كل وأي نسيج اجتماعي.
كذلك فإن من خصائص هذه العدالة أن يتكفل المجتمع الموحد، وبالأدوات التي يراها، بتحمل حقوق الأفراد المترتبة على تلك الانتهاكات والجرائم، وأن يضع منهجا لتجاوز الأحقاد والضغائن التي ترتبت على ارتكاب تلك الجرائم، وكذلك لإعادة التوازن لمؤسسات المجتمع وأجهزته، التي بلا شك تم حرفها على مدى خمسة عقود عن وظيفتها الأساسية، وإلا لقامت هي بالتصدي لمرتكبي هذه الجرائم، فلا تبقى هذه الحقوق والضغائن والمؤسسات رهن الأفعال وردود الأفعال التي يُخشى أن تتحكم بالمجتمع خصوصا في فترة الانتقال الأولى.
إن سنوات الصراع الدامي الماضية، وسنوات حكم هذا النظام لخمسين عاما، خلفت انقساما طائفيا وعرقيا في سوريا، واستنبتت في هذا المجتمع كل أشكال الانقسام الكفيلة بتدميره، وإذا كان هناك من فرصة لتجاوز هذا كله فإن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية من شأنه أن يساعد في فتح السبيل لذلك، وبقدر ما يكون التطبيق حقيقيا وجديا، بقدر ما تكون فرصة تجاوز هذا الانقسام حقيقية وجدية، فالمسالة هنا ليست شعارا، وليست ترفا، وليست قضية قابلة للتأجيل، إن القبول بهذا المبدأ يعتبر واحدا من المداخل الحقيقية اللازمة لجدية أي حل للوضع في سوريا.
5ـ ولا فرصة لامكانية بناء مستقبل لسوريا إلا بالاستناد إلى إرادة الشعب السوري، الإرادة الحرة المبرأة عن التزوير أو التهويم، وهذه المسألة عامة في كل بناء مستقبلي لأي بلد، لكنه في سوريا الممزقة أكثر الحاحا، وأكثر تميزا، لأنها تضم بين جنباتها عنوانين رئيسيين:
** عنوان أول: يتصل بالمرحلة الانتقالية التي لابد منها للعبور إلى المستقبل، وفي هذه المرحلة فإن المجتمع السوري في حاجة فعلية لسلطة حقيقية انتقالية قادرة على أن تقود البلد وتهيأه للعبور إلى المستقبل.
وسيكون على هذه المرحلة وضع أسس الاستقرار لسوريا المستقبل: وضع دستورها، اعتماد آليات للعدالة الانتقالية، واعتماد خطط إعادة البناء وألوياته، وذلك كله عقب وقف القتال وتحرير سجناء الرأي والحراك الشعبي والمقاومة، والغاء كل ما يتصل بالملاحقات السياسية والأمنية المتصلة بهذا الملف، وإتاحة الفرصة لجميع السوريين بالعودة الآمنة الى بلدهم.
وسيكون مطلوبا من قيادة هذه المرحلة أن تكون صارمة، وواضحة، وعادلة بآن، وهذا لن يتوفر لها إلا من خلال اتفاق عام تشارك فيه جميع القوى السورية دون استثناء، قاعدته العامة تقول:
إن هذا الصراع لا يجوز أن يستمر، وإن القوى التي دمرت البلد لا يجوز أن تكون ذات قرار فيه، وإن الانتقام ليس سبيلا للمستقبل، وإن إعادة بناء سوريا مصلحة لجميع مكونات الشعب السوري، وسيكون هناك سلاحا واحدا حاسما ومشهرا في وجه من يرفض هذه القاعدة، أو يتلاعب بها.
** وعنوان ثان أصيل يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية القادمة في سوريا، وهو أن سوريا المستقبل لن تبنى إلا على قاعدة الديموقراطية، الديموقراطية التي لا تستبعد أحدا، ولا يستأثر بالبلد من خلالها أحد، ديموقراطية قادرة على تجسيد إرادة الشعب السوري بمختلف مكوناته، وأن تحافظ من خلال آلياتها على وحدة هذا البلد، وأمنه واستقلاله، وقادرة على تقيم له علاقات في محيطه العربي والإسلامي تجسد بحق انتماءه للعروبة والإسلام، وأن تجعله حليف القوى والنظم الديموقراطية والشعبية في المنطقة والعالم.
والديموقراطية التي نتحدث عنها ليست موضوعة لحماية الأقليات، وإنما لبناء وطن قائم على المواطنة والحقوق المتساوية للمواطنين، وطن ليس فيه أقليات إلا بمقدار ما لخصائص بعض مكونات المجتمع السوري من تميز، وأن تعمل هذه الديموقراطية على تعزيز هذا التميز وصيانته ثقافة وقيما وعادات في إطار منظومة وحدة سوريا شعبا وأرضا، ومن المفروض أن يكون هذا الأمر واضحا وضوحا لا لبس فيه في سلوك قيادته الانتقالية، وفي دستوره المرتقب.
6ـ ومن المهم هنا أن ننظر في التشكيلات السياسية للمعارضة السورية سواء داخل سوريا أو خارجها، فإن تصورنا للمستقبل يجب أن لا يستبعد أحدا، لكن في الوقت نفسه فإن أيا من هذه التشكيلات لا يمثل بحق المعارضة السورية، أو الحراك الشعبي السوري، أو القوى العسكرية التي تتحرك على الأرض خارج إطار " تنظيم / دولة الخلافة" ونظرائه، وليس مما له أهمية التعلل بأن النظام الدولي يعترف بهذه المعارضة أو تلك، ذلك أن كل هذا النظام هو جزء من المنظومة التي خربت الحياة في سوريا، ولا يجوز اعتماد اعترافه وموقفه معيارا للحكم على الأشياء، يجب ونحن ننظر إلى المستقبل أن نبحث عن القوى الحقيقية الفاعلة على الأرض، وأن نضمن مشاركتها في صوغ المرحلة الانتقالية، وتحديد أفقها، فبدون ذلك ستكون هناك عقبات حقيقية أمام أي تحرك جاد لصنع المستقبل.
كذلك من المهم أن ننظر إلى المرجعيات الدولية المعتمدة في الحديث عن الحل السياسي، وأهم هذه المرجعيات إعلان جنيف، وما تحقق في اجتماعات جنيف الأولى، والثانية، وإذا كانت فاعلية مثل هذه المرجعيات شبه معدومة حتى الآن، فإن توفر إمكانية البناء عليها لا يجوز رفضه، بل قد يمثل في لحظة ما فرصة يجب اقتناصها دون أن تتحول هذه المرجعيات الى حجر عثرة أمام ولادة أي سبيل للوصول إلى المرحلة الانتقالية المطلوبة.
7ـ من المهم أن يوضع المجتمع الدولي والاقليمي أمام مسؤلياته في إعادة بناء سوريا، ذلك أن هذا المجتمع بكل مكوناته وبمختلف أشكال سلوكه، كان المسبب الرئيس في الدمار الذي أصاب البلد وهو دمار لا سابق ولا مثيل له.
إن ايران وروسيا بسياستهما في دعم نظام قاتل يتحملان مسؤولية مباشرة في هذا الوضع، فقد مكنت سياستهما هذا النظام من الاستمرار في سياسية القتل والتدمير وفي الإمعان فيها، ولولا هذا الدعم لسقط هذا النظام منذ زمن طويل، الدعم العسكري والتسليحي والدعم الاقتصادي والحماية الدولية، ثم المشاركة العسكرية المباشرة في المعارك والمواجهات الجارية.
ولقد استجرت هذه السياسية المتحالفة مع النظام المعارضةَ إلى التسلح بعدما كان استخدام السلاح نوعا من الدفاع عن النفس، وعملت الوعود والتصريحات وأشكال الدعم الأولي الذي قدمته دول عربية ودعمتها قوى دولية في مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي على رفع وتيرة الصراع بإحساس أن ساعة الحسم قريبة، وأن عمر النظام بات أياما أو أسابيع، وتحول سلاح المعارضة عند هذه اللحظة من سلاح الهدف منه الدفاع عن النفس إلى أداة لحسم الصراع، وكان هذا كله وهمٌ متعمد، ساهم مساهمة فاعلة في تدمير سوريا وأعطى غطاء لجرائم النظام، ولا بد لهذه النظم أن تساهم مساهمة حقيقية في إعادة بناء سوريا.
8ـ إن ما يجري الآن من بناء تحالف دولي مباشر وغير مباشر لمحاربة "تنظيم / دولة الخلافة الإسلامية"، تحت مسمى محاربة الإرهاب، وانتظام معظم الدول الإقليمية والدولية بما فيها إيران وروسيا في هذا الحلف لا يمثل في حقيقة الأمر أولوية للنضال الوطني السوري، وإن أهميته في هذا النضال تتأتى فقط من كونه يجري على الأرض السورية، ومن كونه يواجه قوى معارضة سورية، ويعمل على تعميق الإنقسام الطائفي والعرقي في هذا البلد، وهذا كله واحد من نتائج هذه الطريقة المعتمدة من الغرب في إدارة الصراع، إنهم لا يقاتلون هذا التنظيم، وإنما يقاتلون استقرار سيطرته وتقدمه على الأرض، أي إنهم يعملون على استمرار الصراع وليس حسمه، وهذا سلوك خطر ومتهم.
إن الشعب السوري بكل مكوناته وقواه خارج هذا الصراع لولا أنه يجري على أرضه، وأن ضحاياه من أبناء هذا الشعب، والشعب السوري لم يقرر دخول هذا الصراع، لم يقرر طريقة مواجهة "تنظيم / دولة الخلافة الإسلامية" رغم تأذيه الشديد من فكرها وسلوكها ومعاركها.
الشعب السوري لا وزن له عند النظام السوري وحلفائه، ولا وزن له عند التحالف الغربي ومنظومته، ولا وزن له عند "تنظيم / دولة الخلافة الاسلامية"، فجميع هؤلاء لم ينظروا أبدا إلى موقف هذا الشعب، لم يطلبوا ولم يهتموا بمعرفة رأيه، وهم أصلا ليس لديهم القناعة بقيمة هذا الرأي، ولا بأهمية أن يكون هذا الرأي هو الحكم وهو الأساس في أي موقف، لذلك ليست هذه معركة الشعب السوري، ولن تكون حتى يكون له رأي فيها وفي طريقة إدارتها.
ورغم خطورة ما يجري في عين العرب لأهلنا هناك، أهلنا العرب والأكراد على السواء، فهو ليس من قبيل التطهير العرقي، ولم يعد سراً أن بعض قادة كتائب "الدولة الاسلامية" الذين يقاتلون في عين العرب هم من الأكراد.
كما أنه ليس أكثر مما جرى لأهلنا في الرقة على يد "تنظيم / دولة الخلافة"، أو ما جرى لأهلنا في دير الزور وحلب وحمص ودرعا وغوطة دمشق وجوبر في مدينة دمشق على أيدي النظام السوري، ومع ذلك لم نر تحركا ذا قيمة عند هذه الدول، ولم يتحرك أحد باسم محاربة الإرهاب، ولا باسم مواجهة الإبادة والتهجير الذي واجه الناس قبل المقاتلين في هذه المدن والأحياء الشعبية.
يجب أن نعرف حقيقة ما يجري وما هو مستهدف حتى يكون موقفنا ذا قيمة، وذا أثر أيضا، ولا نستجر إلى مواقع ومواقف لا تخدم صلب القضية السورية.
والموقف من هذه المعركة الدائرة تحت شعار"محاربة الارهاب" يجب أن يكون موقفا معياريا للقيادة التي عليها تحمل مسؤولية المرحلة الانتقالية.
القيادة الانتقالية المعبرة عن الشعب السوري كله، والمنوط بها أن تلتزم مصالح هذا الشعب وإرادته، هي وحدها المخولة بتحديد أي المعارك تدخل، وأي الصراعات تقرب السوريين من أهدافهم، وأي التحالفات تخدم تطلعهم لبناء سوريا المستقبل، وهي حين تفعل ذلك تفعله وفق معايير واحدة تزن بها كل الأحداث وتحاكم على ضوئها كل الوقائع، فلا يظهر في سلوكها وقراراتها أي ازدواجية، إذ من شأن هذه الازدواجية أن تسقطها هي قبل غيرها، وتدمر فرصة قد تتاح لاستعادة سوريا من المجهول الذي تمضي إليه سريعا.
9ـ وفي النظر إلى الوضع الراهن فإن فرص الحل السياسي ما زالت عصية، ويبدو أنها لن تلوح في الأفق إلا حينما تقتنع الأطراف جميعها بأن استمرار تحمل نتائج هذا الوضع وانعكاساته على المنطقة بات غير محتمل، وإذا كان هذا التقدير صحيحا فإن مثل هذه القناعة لن تتوفر لدى الأطراف الرئيسية حتى يتصدع الوجود السوري كلية، ونحن ندرك أن للقوى الدولية الفاعلة، ولبعض الدول الإقليمية مصلحة في ذلك، لذلك فإن مسؤولية خاصة تقع على الداخل السوري في وقف هذا الانهيار، وتحديدا على الجيش وعلى القوى الناعمة الداعمة للنظام التي لم تتحرك قبل الآن للقيام بمسؤولياتها الوطنية والمصيرية، وهي مسؤوليات تأخرت عن القيام بها كثيرا جدا، لكن ما زالت هناك فرصة للتحرك حتى تتخلى عن نظام يقتل الوطن ويفتته، وتنحاز إلى نقيضه إلى الوطن الموحد، وهنا يبرز دور القوى القومية والإسلامية في تشجيع هؤلاء على القيام بواجبهم وإنهاء هذه الماساة قبل تنتهي سوريا نفسها، ولا يبقى من هذا الوطن إلا الطوائف وكياناتها المفتتة، إن تحركا مثل هذا سيكون حاسما في فتح الطريق لمرحلة انتقالية حقيقية وحاسمة، تملك بين يديها كل مقومات النجاح والعبور بهذا الوطن إلى بر السلام.
10ـ إن علاقة خاصة ومميزة يجب أن تبنى بين سوريا المستقبل وتركيا، وهي علاقة يجب التأسيس لها من الآن، علاقة لا تقوم على احتياجات مرحلية، ولا على مماحكات ظرفية، وإنما على رؤية استراتيجية تحقق المصلحة الوطنية والقومية للطرفين، وتتمثل العلاقات التاريخية والعقدية بينهما، وتبني أفقا راسخا للمستقبل.
سوريا موحدة مستقرة ومتقدمة تمثل مصلحة حقيقية لتركيا، وحل إقليمي عادل ومستقر للمسألة الكردية تصنعه دول المنطقة ذات العلاقة، يحول هذه القضية من أداة لتدخل وتلاعب دولي وإقليمي، إلى عنصر يشد دول وشعوب المنطقة إلى بعضها بعضا، ويحقق للأكراد ما يصبون إليه في إطار كل دولة من الدول الأربعة التي يتوزعون فيها، ويسرع في تحويلها إلى منطقة تكامل وتفاعل حضاري واقتصادي وأمني، دون أن ينتج عن ذلك انقسامات وصراعات لا جدوى منها، ولا تفيد إلا القوى المتربصة بشعوب المنطقة كلها، ولا نتيجة لها إلا مزيد من ضياع فرص التقدم والتعاون والأمن الجماعي.
هذه عشرة محاور في استراتيجية الإستجابة للتحدي المطروح، وفي رسم معالم مواجهة مشاريع القوى الأخرى المدمرة لفرص الحياة في سوريا، وهي محاور تطل على مكونات عديدة تستوعب ما هو استراتيجي وما هو مرحلي، ما نحتاجه اليوم وما يؤسس للمستقبل البعيد الذي نطمح للوصول إليه.
ودون أوهام فإن هذا كله لا يقوم إلا بتوفر الحامل الاجتماعي القادر على تحقيق هذه الرؤية، وقد افترضنا أن هذا الحامل يوفره تلاقي قوى العروبة والإسلام، وقيم العروبة والإسلام، كما افترضنا أن الإرادة الشعبية الحرة ستكون داعمة لمثل هذه القوى وهذه القيم. لكن هذا التلاقي مفتقد حتى الآن ودونه الكثير من العوائق، إنها مهمة تبحث عمن يقوم بها، وضرورة مصيرية تبحث عمن يتحمل مسؤوليتها.
الشارقة
22 / 10 / 2014
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية