أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

رقصة الطائر المهاجر .. أمل عريضة

حين انتهت عائدة من نقل علامات الطلاب إلى دفترها، جمعت الأوراق في مغلف شفاف، وذهبت تسلمه إلى رئيستها وشريكتها في تدريس مادة النقد الأدبي سيلفيا لاويل.   وجدتها تتحدث على الهاتف، فوضعت المغلف أمامها وحيتها مغادرة، لكن سيلفيا نادتها :  آيدا!  لمَ أنتِ مستعجلة ؟ 
- إني مدعوة إلى الحفلة الموسيقية التي تقيمها الجامعة الليلة ، وعليّ أن أحضّر نفسي.
أنهت الأستاذة الفضولية مكالمتها بسرعة لتسألَ عائدة:  هل هناك أحد إذاً؟
فهمت عائدة ماترمي إليه فابتسمت قائلة:  لا.  لكن إحدى طالباتي، إريكا، تأخذ دروساً في الرقص وقد دعتني لمشاهدتها.
-    لو كنت في عمرك لما فوّت فرصة للهو والمرح .
-    سيدة لاويل... لو كنتِ كما تقولين ماحصلتِ على درجة الشرف في الدكتوراه 
-    وماذا استفدتُ؟  تزوجت رجلاً وقوراً توقف منذ زمن طويل عن المشاركة في المسرات.   
-    تعالي معي الليلة.
-    اذهبي يا عزيزتي، فلم أعد فراشة خفيفة الحركة.  وإن أعجبك أحد الشبان فلا تترددي في اصطياده.
رأت عائدة حركة استعداد ونشاط غير عادية عند استراحة الجامعة، وماكادت تسرع في خطاها حتى اصطدمت بشخص يحمل غيتاراً.
- أنتَ هنا أيضاً؟!
أحنى رأسه مع ابتسامة كبيرة ودخل الاستراحة.  كان جارها أليكسي ماركوفيتش.  وانقبض قلبها إذ تذكرت المرات العديدة التي حرمت فيها النوم والدراسة بسبب صخب الموسيقا الآتية  من شقته.  ذهبت إليه مرة شاكية متذمرة، فاعتذر موضحاً بأنه وزميله في السكن طالبان في قسم الموسيقا، وأعضاء في فرقة، ولابد أن يتدربوا.  ردّت:  تدربوا في بيت آخر.  لماذا دائماً عندك؟
تابع بلطف:  بالفعل إننا كل يوم نتدرب عند واحد، ولذلك لانزعجك إلا مرة واحدة في الأسبوع. ألا تلاحظين؟
-  بلا.  أشكركم كثيراً!
لما رجعت عائدة مساء ظنت الجامعة انبثقت عن صالة سهر غير الاستراحة التي جلست فيها عشرات المرات، فالأضواء الملونة والموسيقا التي تملأ أرجاءها أعطتها شعوراً باختلاف المكان وجدّته.  أحسّتْ بالتعب، وإذ رأت إريكا مشغولة بمحاولة إغواء صديقها إد، جلستْ تلتهم قطعة حلوى محشوة بالمكسرات ومحلاة بالكراميل.  مدّت ساقيها فوق كرسي شاغر، واسترخت في مقعدها تراقب الراقصين، وتبتسم لأصحابها وبعض طلابها.  وظنت للحظة أن السهرة ستمضي على هذا النحو، إلا أن تقدّمَ الليل هدّأ من جنون الموسيقا، وأخذها إلى عوالمَ ناعمة وحالمة.  كان العزف جميلاً إلى درجة أنساها انزعاجها من جارها أليكسي، حتى إنها راحت ترقبه، وهو يتمايل متهاديا مع غيتاره على أنغام أغنية ريفية رومانسية.   كيف لم تلحظ وسامته قبل الآن ولا انتبهت لامتداد قامته ونحفه الرشيق ؟!
حركاته الطروبُ طرقت قلبها برقة وإلحاح ، فقامت إلى الحلقة الواسعة تدق الأرض بحذائها الذهبيّ في خطوات قصيرة رتيبة تطوي ذراعيها وتفردهما في تناسقٍ جميل أجبرَ الراقصين أن يتراجعوا مفسحين لها المكان.  رحلتْ إلى بيارات البرتقال في موطنها البعيد.  تموّجَ جسدها.  تسلقت أشجارها الورافة واحدة واحدة، واعتصرت رحيق الثمار الشهية.  ومن قلب متعتها صعدَ حنينها.   سرى في أطرافها، خضها، فأسرعت تمسك بتلابيبه، وصارا كحبات رمالٍ تجمّعت في روح إعصار.  أرهفها نداءُ الأشواق فاستلتْ وتراً من صدرها، وضربت به ذروة الإحساس.  ألقتْ العازفين على ضفاف النهر الصاخب واهنين.  أما هي فقد عبّأت قلبها بالحياة، فشهقَ نهداها الملفوفان بالموسلين الأخضر الشفاف وأخذت الحلمتان السمراوان ترمقان الحاضرين من وراء خمارهما الرقيق بكبرياء وجرأة وتحدّ صامت.  رفعت عائدة رأسها إلى الخلف فتراجع الليلُ عن جبينها وعنقها الطويل.  فردت ذراعيها والتفت مسرعة بخطىً كبيرة.  وثبتْ في الهواء وهبطت على سفوح جبالها تدرجُ كسنونوة ردّها الشوقُ إلى موطنها ذات أصيل، ثم عادت تدق الأرض بكعبيها وتتهيأ للسفر.  حلّقتْ مراتٍ وحلّت في عيون المتفرجين الذين أدهشهم هذا الطائر الجميل... يرحلُ... يتلوى جسده ألماً وعشقاً... يطيرُ في الأفاق، ويرتدُّ لينزفَ آخر دمه في حضن الأرض.  لم يعرفو أنّ الروحَ تثملُ وتنتشي إلى حدّ تفجير الجسد حتى رأوا هذه النخلة  يعصفُ بها جنونٌ لاحتلال  الفضاء.  ترقصُ باشتهاءٍ كليّ.  تشحذها أشواقٌ غامضة إلى حلمٍ لا يأتي .  تضيءُ.  تتمزّقُ، وتنداح في المدى كأنفاس وردةٍ مثقلةٍ بالعبير والجراح.  أغمضتْ عينيها وغفتْ لحظة.  زمناً كافياً لتصحوَ يانعة مشرقة.  رأتْ عشراتِ العيون ترنو إليها.  تلتهمها ، فمضتْ عنهم مختالة، لكنّ أليكسي ماركوفيتش كان أسرعَ إليها من درب العودة.  ألقى غيتاره على الأرض وحملها بين ذراعيه.  رفعها من خصرها ودارَ بها إلى أن بدأ يترنح.  تمسكتْ بشعره خشية أن يوقعها.  همس في أذنها وهو ينزلها : علّميني التحليق.  عبستْ في وجهه، وأدارتْ له ظهرها، فجذبها من ذراعها، وصرخَ بصوتٍ مرتفع: علّميني رقصة الطائرِ المهاجر تلك.  هتف آخرون: علّمينا الطيران.  صرختْ في وجوههم:  أعطوني مكاناً.  لكنهم أحاطوها من كل جانب، وبدؤوا يدقون الأرضَ بأقدامهم مقلّدين درجَ خطواتها، فاستجابتْ ضاحكة.
لما انتهتِ الحفلة كانتْ عائدة خائرة القوى تماما.  حملها أليكسي ووضعها في سيارة إريكا التي أوصلتهم، ثم حملها ثانية إلى باب شقتها.  قبّلته على خدّه ممتنة، وولجتْ بابها بسرعة.  ظلَّ أليكسي واقفاً أمام بابها الموصد متأثراً، وقد سرى في روحه وبدنه إكسيرٌ جديد.  أحسَّ بأشواقٍ هائلة تضجُّ في جسده.  قضى ماتبقى من الليل عائماً فوق بحيرةٍ من الأحلام اللذيذة، وحين تكسّرتْ قشرة الظلام، وانفضّ الليلُ عن جمرة الفجر البهية، واستغرق العاشقُ في نومه، توقفتْ فينوس عن هدهدته.  طوتْ أرجوحة الهوى ومضتْ من النافذة تبحثُ عن هائمٍ آخرَ لاينام.
ظلّ بناءُ الطلاب الذي تقطنُ فيه عائدة صامتاً طوال عطلة الصيف، فمعظمُ المستأجرين عادوا إلى عائلاتهم أو ذهبوا لقضاء الإجازة في أماكنَ أخرى.  أمّا هي فقد فضلتِ البقاءَ في ميشغن راجية أن تنجزَ بعضاً من أطروحتها، لكنّ الأيامَ تماهتْ في وحشتها وصار كلُّ شيء مملاً، وفقدتِ الرغبة تدريجياً بالعمل أو بزيارة دور السينما والمسارح.  حتى أليكسي لم يعُدْ يقيم الحفلات في شقته.  ليتها ماأخبرته عن انزعاجها من الضجيج.  بل ليتها سافرت إلى ذويها في دمشقَ أو الأردن أو ألمانيا، فهناك دائماً متسعٌ من الوقت لرؤية عشرات الأصدقاء والثرثرة معهم.
في أحد الأيام صحت من قيلولة بعد الظهر على أصوات صخب.  عاد أليكسي إلى حفلاته إذاً.  وجدت نفسها ترتدي بنطالاً من الجينز وبلوزة خفيفة وتصعد إليه.   صاحت في وجهه:  ألا تخفضون أصوات آلاتكم قليلاً؟  لقد كنت نائمة.
- بالتأكيد.  أعتذر لإزعاجك.
والتفتَ إلى الداخل مشيراً لأصدقائه أن يتوقفوا.  مدّت رأسها بفضول، فصاحوا حين رأوها:  آيدا! تعالي.  تعالي ارقصي لنا أيتها المعشوقة الجميلة!
بدا أليكسي محرجاً من تصرفهم، لكنها سألته:  هل أستطيع الانضمام إليكم حقاً؟  ارتبك ولم يعرف بما يجيب، ثم أفسحَ لها الطريقَ إلى الداخل.  طلبَ منها جوني:  ارقصي لنا الباليه الإسباني ذاك. 
- ولِمَ ظننتَ أنه باليه إسباني؟
- أليست إسبانية إذاً من تملك شعراً غجرياً وجسداً كأجساد الجنيات؟ 
- لا.  أنا عربية، ورقصتي تلك عرفتها الجدات في أريافنا.  كادت تندثرُ الآن، وقليلاتٌ يعرفن كيف يؤدينها.
علّق جوني بطريقة شعرية كوميدية:  
من ألف ليلة وليلة
جاءت أميرة شرقية
شعرها عباءة 
وعيناها أوسع من خيال الحكاية.
ضحكت وراحت ترقص حوله، فجذبها من خصرها وقبّلها.  أحسّت بطعم الشراب في شفتيه ورائحة أنفاسه المثقلة بالكحول، وحين استطاعت انتزاعَ روحها منه قالت بحدة:  ماكان يجب أن تفعل هذا.  حاولت التملّصَ، لكنه جذبها بقوة أكبر وراح يقبلها بنهم على عنقها.  صرخت به أن يتركها، ولم تنتبه إلا وأليكسي يشدّه عنها بعنف، ويصفعه صارخاً:  أيها الحقير! اخرج من هنا!
فاجأها تصاعد الموقف ولم تدرِ ماتفعل.  كان أليكسي منفعلاً جداً.  شفتاه ترتجفان وعيناه جمرتان ملتهبتان.  انسحبت راكضة فلحقها.  أمسكها من ذراعها هاتفاً:  أرجوك!  تأملته وقد لاحت في عينيه سحابة من الألم العميق.  امتدت يدها إلى وجنته.  لمستها برقة وهمست:  لاعليك.  سنلتقي مرة أخرى.  ونزلت الدرج راكضة، بينما تسمّر هو لحظاتٍ... لايقوى على الحراك، وقد وهنت ساقاه من الانفعال، وأصابته حمّى العشق ثانية، فاتّكأ على الباب قبل أن يسقط في لجة أشواقه.
كلما تذكرت عائدة تعابيرَ وجهه في تيك اللحظتين أدركت قوة الحب وشدة الغيرة اللذين عصفا بروحه وجعلاه على حافة الجنون والانهيار، وأحست بلذة في داخلها.  احتاجت أياماً وجهداً لتخرجَ من حالة الافتتان تلك.  لماذا يسحرها هذا الغريبُ الذي يصغرها بسنوات؟!  وكيف يمكنها مقاومة حبه وانجذابها إليه؟!  حمدت الله أنّ أوقات خروجه ودخوله لاتتوافق مع أوقاتها، وأنه لايملك الجرأة ليقبلَ عليها.
انشغلت ثانية بالتدريس وإعداد أطروحتها.  لاحظت سيلفيا لاويل انطفاءً في لمعة عينيها واختناقا مبكراً لحيويتها، فحذرتها:  آيدا... لقد تغيرتِ كثيراً هذا العام.  تجلدين نفسك بشدة، وكأنك تهربين من شيء ما.  أعيدي حساباتك يابنتي قبل أن تقتلي العصفورَ المغرّد في صدرك.  هذه الكلمات ولّدت عندها قلقاً وتوجساً.  مازال أمامها سنة أخرى لنيل الدكتوراه، فهل ستتحمل مزيداً من العبوس والكلوح؟  حين تتخرج تكون انقضت أجملُ أيام الشباب، ولعلها لاتصادف ثانية من يوقظ  مشاعرها وأحاسيسها.  قلّما شعرت عائدة بميلٍ لرجل، وإن أحست بانجذاب إلى أحدهم، وحاول مغازلتها سرعان مايخبو ذاك الإحساس بالحاجة إليه.   ظنّت أنّ بها اضطراباً نفسياً، وفكرت في مراجعة طبيب، ثم تباطأت ونسيت.  ولعلّ السبب أنها حين تتخلص من حالة الشوق للآخر تفقدُ الدافعَ لمعالجة نفورها، وتظلّ هكذا إلى أن يتسلّقَ الخواءُ كاملَ روحها ويبدأ يقتات من جسدها.  أيّ شيء إذاً في ذاك الفتى الروسيّ مسَّ قلبها، وفجّرَ البروقَ والرعودَ فيه؟!  لمّا لمستْ وجنته براحتها رأت عينيه تغيبان في سحابة مشبعة بالمطر.  وقبل ذلك وهو صاعدٌ بها الدرجَ إلى شقتها استغل ضعفها وتراخيها وضمها إليه بقوة.  لم تحاول إيقافه ومنعه، فضرباتُ قلبه سرت إلى صدرها وخدّرتها.
كانت هذه الخواطرُ والأفكار تمرّ ببالها أحياناً قبل النوم ثم تنساها في النهار إلى يوم رأته فيه في الجامعة بصحبة فتاة.  كانا يلهوان في الحديقة، وقد جلسا أمام نافورة دافقة، وأخذت الفتاة تقبله قبلات صغيرة خاطفة كأنما عصفورٌ ينقرُ عنقودَ عنب نقرات متتالية.  أحسّت عائدة باضطرام النار في صدرها.  كادت تذهب إليه وتصفعه، لولا أنّ انهمارَ الدمع فوق خديها نبّهها.   لماذا افترضتْ أنه سيصومُ عن النساء لأجلها وهما لايتلاقيان؟  ولماذا ادّعت آلاف المرات أنها تستطيعُ مواصلة حياتها من دونه، وهاهي تنهارُ لمرآه يعانق أخرى؟  عادت إلى البيت.  رفعت صوتَ مسجلها إلى أقصاه، وراحت ترقص.  لم تدر كم مرّ من الوقت حين طرق الباب.  ماكانت لتسمعه لولا أنه تواصلَ وعلا.  خفضتِ الصوتَ وفتحت الباب.  كان هو... أليكسي ماركوفيتش... واقفاً أمامها دون أن ينطقَ بكلمة.
- ماذا؟  هل هناك شيء؟
- لا.  لكني سمعتُ ضجة صادرة من عندكِ، ولم أعتد على ذلك، فقلقتُ عليكِ.
- مِمَّ؟
- لاأعرف.  أعتذر. 
وغادر بسرعة، وظلت أمام الباب المشرع تتخبط في يأسها ودوّاماتها الداخلية.  مضت إلى الحمّام.  وقفت تحت ماء الدش بكامل ثيابها.  انسكابُ الماء البارد فوق جسدها بعثَ هدوءاً لطيفاً في القلب.  القلب!  ماأرقَّ بساتينه الساعة وماأنضره.  نزعت عنها ملابسها التي التصقت بها.  ملأت الحوض ماءً دافئاً وتمددت فيه ساعة تروي عريّها.  غرقت في حديث وجداني مع جسدها، وراحة يدها تتنقل بعشق نرجسي فوق تضاريسه اللدنة.  أحست أنّ كل عضو فيها -من القلب حتى نهايات الجلد والأظافر- صار نهراً يتدفق فيه لحنٌ واحد هو الاشتياق.  جففتْ شعرها، ودهنت أطرافها بمرهم حليبي فغدت مرنة طيّعة عابقة بالشذى.  ارتدت فستاناً أسودَ مكشوفَ الظهر انسدلَ على جسدها بنعومة حتى غطى كاحليها، وكستْ وجهها بزينة خفيفة، وصعدت إليه.  انشده أمام مرآها.  تلعثم.  همس بصوت مبحوح:  تفضلي. 
راح يثرثرُ في أشياء تافهة عن زملائه في الفرقة وعن بعض الجيران.  ابتسمت.  عرفت أنّ هذه الأشياء لم تعنِه في تلك اللحظة.  قالت:  حدّثني عن نفسك.  أجاب:  دعيني أولاً أقدّم لك كأساً من الشراب.  سبقته إلى المطبخ الصغير.  فتحت خزانة وسألته:  هل تمانع؟
- بالطبع لا.  اعتبري نفسك في بيتك.
ولم تكن بحاجة لهذه الدعوة، فقد منحها التشابه الكبير بين شقتيهما شعوراً بالألفة والارتياح.  أفرغت محتويات علبة بسكويت في طبق ووضعته مع علبة مكسرات على صينية.  أحست به يقف وراءها.  سمعت أنفاسه أقرب إليها من نفسها، فمالت إليه برأسها مع ابتسامة واسعة.  التفتْ ذراعاه حولها.  استدارت لتنظر في عينيه، فوقعت سلسلة من عنقها على الأرض.  انحنت لترفعها وانحنى أليكسي في نفس اللحظة.  أمسك بيده تعليقة ذهبية بدت غريبة لأول وهلة.  تأملها مذهولاً.  قالت مبتسمة:  إنها خارطة وطني.  انتزعته إسرائيل منا منذ أكثر من ستين عاماً.  صار حلماً نخبئه في قلوبنا.  ناولها إياها ومضى إلى الصالة. شربَ كأسه مرة واحدة وقال:  آيدا... تذكرت أنّ عندي موعداً لاأستطيعُ التأخرَ عنه.  يمكنك أن تشربي كأسك وتغادري أو لتبقِ.  كما تشائين.  أحاطت وجهه الشاحب براحتي يديها محتجة:  أحقاً لديكَ موعدٌ أم أنك تخشى النساءَ المشردات؟  أيها الأمير الصغير... أتظن أني لاأرى الحرائقَ في عينيك؟  أغمضهما إغماضة طويلة وعانقها بحرارة باكياً.  لما بدأت سحابة الأسى تنقشع من فوق وجهه استرخى جانبها على الكنبة.  راحت أصابعها تعبث بأزرار قميصه،  ولم تلبث أن فتحتها كلها.  هناك على الكتف اليمنى نام وشمٌ صغير... أزرق مخضوضر.  مسّته أصبعها، وأخذت تنزلق على مهل فوق حوافه مذهولة غير مصدقة.  كان نسخة عن تعليقتها الذهبية!  ضغطت على ذراعيه وهي تضحك بشدة:  أنت أيضاً فلسطيني؟!  ياإلهي كيف لم أعرفك!  ولكن لا.  اسمك روسيّ وملامحك... كيف هذا؟!  ظلّ أليكسي صامتاً كحجر!  حدّقت ثانية في الوشم لتتأكد من شكله.  بزغت أمامها فجاءة نجمة صغيرة جانبه... نجمة سداسية.  تسمّرت عائدة مصدومة واختنق صوتها.  مات نبضها لثوان.  غطى وجهه بيديه وبكى.  أراد أن يقول لها أشياء كثيرة مثل:  لنبق هنا.  أمريكا وطن للجميع، لكنه سمعَ نحيبَ أعماقها:  تستطيعُ أن ترتدَّ إلى وطنك... وطني في أي وقت تشاء، أما أنا فقد نُذرت للرحيل حتى أستعيدَ وطني.  نهضت عائدة مخدرة مسلوبة، وغادرته عاجزة عن البكاء.  عاجزة حتى عن التنفس.                              
 


(173)    هل أعجبتك المقالة (165)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي