بسقوط حمّاد المسكي من فوق سطح بيته، وارتمائه في الفراش بلا نطقٍ أو إحساس صار واضحاً أنّ ابنته شهيرة هي آخر سلالة عائلة المسكي. كان قد تحمّل لسنواتٍ مرضَ زوجه مريمة، ثم صبرَ شهراً كاملاً بعد وفاتها ليقرّرَ أن يأتي بامرأة جديدة تسقي عوده قبل أن يذبلَ، وتبذرُ له البنين والبنات. خطبَ حاكمة الأرملة الشابة، لكنّ البعضَ حذره من طالعها النحس إذ ماتَ عنها زوجان، فلم يصغِ إليهم وقالَ ساخراً: الميت مّن رأى نهديها العامرين ولم ينعم بهما. لمّا جاءت حاكمة مع أمها تستطلعان أوضاعَ البيت الذي ستعيش فيه راعتها حركة الفئران في السقف، فضربت راحتها على صدرها المكتنز وهي تولولُ: فأر! أتريدني أن أصحوَ يوماً على فأرٍ يقرضُ حلمتيَّ؟! هكذا اندفعَ حمادُ إلى السطح ليحميَ فردوسه الموعودَ، وأخذ يرفعُ بهمة وسرعة الأخشابَ المهترئة، ويضعَ ألواحاً جديدة، فزلّت قدمه وهوى في قاع البيت مشلولاً تسوطه أطيافٌ من خياله الجامح.
أمّا عن شهيرة فقد همست لها بعض النسوة بأنّها محظوظة كونها تخلصت من مكائد زوجة الأب، بينما تمتمتِ المسنّاتُ: ولن يكونَ لها شريكٌ في حطام أبيها. صمّمتْ شهيرة أن تتابع دراستها الثانوية رغم مايحتاجه حطامُ أبيها من عناية ورغم حطام البيت الذي شجع متسولي المتعة على التلصص أولاً ثم التسلل. وجدت نفسها بلا معيلٍ أو ناصح ففتحت أبوابها لأشكال متنوعة من الرجال جاؤوها محمّلين بالأطعمة ليسدوا رمقها ورمق والدها، وليجوسوا بأصابعهم الثخينة تضاريسَ جسدها الفتيّ. لسببٍ لم تعرفه أبداً استعصى جسدها على التكيف مع أهواء فاعلي الخير أولئك، وحتى الأجنة التي خلّفوها في أحشائها لفظها رحمها بقسوة، وظلَّ جوعٌ غامضٌ يعضُّ روحها وجسدها، ولم يكن لديها أدنى معرفة بكيفية إسكاته أو إشباعه.
لاتعرف شهيرة كيف وجدتْ نفسها عاهرة، فما كان لديها أية ميولٍ فطرية للعهر ومانطقت يوماً بحديثٍ داعرٍ. بل إنّ نشأتها مع أم مريضة أورثتها مزاجاً أقربَ إلى الحزن والسوداوية وطبيعة متأثرة بالغيبيات والروحانيات. لم تخترعْ طقوساً خاصة بعبادتها لكنّ النسّاكَ انجذبوا إلى جسدها المتعالي وأقاموا أمام محرابه خاشعين متذللين، وماكان لعابدٍ منهم أن يملأ روحَها أو أن يفطنَ إلى الخواء الذي يفترسها. تمرّغ الكثيرون في جسدها، لكنه ظلَّ شرساً ومتملّصاً كريحٍ عاصفة تغيّر اتجاه الأشياء ولايقبضُ عليها أحد. لم يصفها أحدهم بالبرود، بل رأوا في عصيان جسدها وتنائيه تكبّراً مثيراً.
هل كانت شهيرة المسكي ذاتَ جمالٍ خارقٍ كما يردّدُ عاشقوها؟ هل تكوّرَ نهداها من موادٍ أكثرَ حرارة واشتعالاً مما لدى بقية النساء؟ أو هل قُدَّ خصرها وساقاها على نموذج في الفتنة لم تمتلكه النساء؟ أم كونها وحيدة بلا حارسٍ ومباحة كعنقود عنبٍ تدلّى في راحة القاطف جعلها مشتهاة؟ يتحدّثُ البعضُ عن لغةٍ مبهمة تتدفقُ من كلِّ عضوٍ فيها. إن مشتْ غدا لاهتزاز صدرها سطوة الريح، ولانبعاجِ إليتيها وهما تتهادان صعوداً وهبوطاً ثورة البرق والرعدِ، فإذا بالناظرين يحللون مفرداتها هذه ويركبونها، ثم يحللونها ويركبونها إلى أن يسقطوا من الضعف والوهن والاشتياق. أما هي فلم تفكّرْ كثيراً بجسدها، وعدّت جغرافيته حدثاً طبيعياً لايمكنها التدخل في تغييره أو التأثير على نوازعه، فحتى الأنهارُ القوية تتلوّث أحياناً بالقاذورات أو تتشوّه بالسدود أوتفقد حريتها عند كعوب التجار، ثم لاتلبثُ أن تفيضَ وتعودَ نظيفة وجميلة.
لمّا ذهبتْ شهيرة إلى الجامعة لم تسعَ لتطوير أدواتها، ولعلّها لم تشعرْ بالحاجة لهذا، فبالإضافة إلى اللغة المتدفقة من جسدها كان لها عينان واسعتان مفتوحتان على المدى في حيرة وذهول، ماإن ينظرِ الرجلُ فيهما حتى يسلّمَ كيانه لإغوائهما المبارك. هكذا اتسعتْ جمهورية شهيرة المسكي لتضمَّ مواطنين من مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية. منهم طلابٌ وأساتذة جامعيين وشبابٌ لم تتحْ لهم الفرصُ التخلّصَ من عذريتهم، وكان زياد من هؤلاء. اعتادَ أن يجلسَ إلى جانبها في مدرّج الجامعة خجلاً يسترُ هزاله المرضي بملابسَ رخيصة. ناولها مرة دفتره لتنقلَ منه إحدى المحاضرات كالعادة. لفتتْ انتباهها أبياتٌ من الشعر سوّدها في آخر المحاضرة دون ترتيب. قرأت فيها:
أيُّ شيءٍ في عينيك يجذبني إليكِ؟
وماذا في وردة الفمِ يغريني؟
جرارُ عسلٍ
أم دنُّ نبيذٍ أريق على شفتيك؟!
سألته شهيرة التي لم تلتفت إليه قبل اليوم: زياد. أهذا الشعرُ من كتابتك؟ ارتبك واحمرّتْ وجنتاه وأذناه وتمتم: إنّها محاولاتٌ بائسة لأؤجل فنائي ليس إلا.
- هي أجمل من كتاباتي على كل حالٍ.
- لم أعرف أنك تكتبين الشعرَ!
- ليس شعراً. خواطر قد تقتربُ من الشعر.
- كل موهبة بحاجة إلى تمرين وإرادة.
علّقت شهيرة باسمة: لاأظنُّ أني أملكُ أحدهما. هي الأوراق البيضاء تشدّني أحياناً بسكونيتها فأرسلُ قلمي فوقها علّه يبعثُ فيها بعضَ النبضِ والحياة.
إن كان ثمة شيءٍ تعلّمته شهيرة في الجامعة للإعلان عن مهنتها ومواهبها فهو الإخراجُ الجيدُ لصورتها. ماكان ممكناً أن تستمرَّ في العلن كعاهرة، كما لم يقبلْ أهلُ ضيعتها أن يمرّغ الغرباءُ شرفهم. وضعتْ لافتة على باب بيتها (خياطة رجالية) فتدافعَ الرجالُ كأسراب النحل دون حرجٍ هذه المرة، واستطاعت بدورها أن تتحسّسَ مافي جيوبهم من نقود. لاحظتِ الرقة في طبع زياد ولمساته وجيوبه، فراحتْ تخبئ نقودها في ثيابه ثم تنساها. بالمقابلِ روّى زيادٌ روحها وتوّجها أميرة لقصائده. قال لها وقد أدمنَ الشوقَ إلى واحاتها الخصبة:
البهجة الساذجة في عينيك
والضحكة الطروب والبسمة اللعوب
تشرّع نوافذ الحنين إليك
فأطوف حول حدائقك
قمراً عاشقاً كلّ مساء أذوب.
قبلة زياد أيقظتِ الجميلة النائمة في أعماقها، فنهضَ جسدها متثائباً كما في تفتحه وانطلاقته الأولى. غمرته الحرية فمشى جنباً إلى جنب مع عقلها وقلبها. فاضتْ به النعمة وثملَ، فسرى العشقُ إلى فم القلم المدبّب في يدها، وكتبت لمن تهوى:
أنت في قرارة قلبي
محارة شهية وغامضة
في عينيك عذوبة أمٍّ
ودفءُ أمٍّ
وضلالُ عاشق
في عينيك صيفٌ أثقله الثمر
طفتُ فيه
فأسدلتَ أهدابك عليَّ
كأمسية ناعمة وبهية.
مع الخصوبة الشعرية التي رافقت حبهما تفجرت خصوبة أخرى في حناياهما المريضة. لمّا طوقهما الحبُّ وارتعشت روحاهما أحسّت شهيرة لأول مرّة أنّ عشبة عطريّة تنبتُ في رحمها. أخبرته فرحة، لكنه فاجأها: أنا مريضٌ. لاأستطيعُ الزواج منك، ولاأرغب بأن أترك طفلاً يتيماً بعدي. تمسّكت بأمومتها. ظهرَ زيادٌ آخرُ مزّقَ جوفها بقسوة تراجيدية. انتزعَ بذرته المتخلقة بشراً، ومضى بجيوبه الملأى إلى الحانة لينسى. وكان كبده أضعفَ من احتمال الشراب. عرجَ الموتُ من دماء شهيرة، وصعدَ يقطف نشوة المنتشي. عاجلَ زياداً بضمة أبدية ورماه تحت التراب.
نهضتْ شهيرة من بركة دمها المسفوحِ تودّعُ ابنها الوحيد. ابنها الذي يأتي مرة في العمر. جذبتها حمّى الحزن والعشق والمرض إلى المقبرة. ارتمت فوق قبر الحبيب. كم هي محظوظة! جثته صارت لها. لها وحدها، كحطام أبيها! بكتْ وناحتْ. ناحت وبكت ثم غفتْ متكئة على شاهدة القبر. رأتْ الأمواتَ ينهضون من قبورهم. يتقيئون جمراً وحجارة، ثم راحت أصابعهم تتحولُ إلى عروق آسٍ وريحان. دثروا شهيرة بالشذى، وراحتِ الأصابعُ الخضراء الطرية تتهادى حولها وتعزفُ بينما الشفاهُ المتطهرة بالنار تغني لأزمنة قادمة. آهٍ ماأشدّ إخلاص الرجال الميتين! صحَتْ شهيرة من غفوتها تبحثُ عنهم. نظرتْ حولها فهالها الصمتُ الثقيل. كيف انتهى إلى الوحدة مَن عبرَ بوّابتها بضجيجٍ؟! أخذتْ تدورُ بين القبور لتدوسَ الأفكار المتفسخة. هنا يرقدُ شركاؤها في الحبِّ والإثم والرياء. مَن سرقوا نضارتها وهووا إلى لحودهم بائسين عراة. جميعهم صاروا الآن لها. هي أرملة الرجال الخفافيش. كتبتْ بإصبعها فوق تراب قبر زياد:
رأيتُ قلبك في الحلمِ
مشلوحاً على الأرصفة
وبه ارتجافُ الحنين الأخير
وخيطٌ رفيعٌ من الدمِ
وآثارُ قبلاتٍ زائفة
ونشيجُ فمٍ يبكي من الندمِ.
منذ ذاك اليوم بدأت شهيرة تتردّدُ على المقبرة بانتظامٍ لتنعمَ بالسكينة والراحة. هناك تتمدّدُ فوق قبر زياد. تستشعرُ الجوهرَ المفقودَ يرفرفُ حول ردائه الفاني. تعانقُ حبّاً لم تلوّثه الأفكارُ، وتسعدُ مع الفانين المتحررين في تراب الأرض. وحده باطنُ الأرض الرحيمة يلفّ أجسادَ الجميع، ويغري توقها المزمنَ بالصعود إلى الغايات القصوى للحب والإمساك بلحظة الخلود.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية