1-
بعد أن أنهيت زيارتي "لحصن روملي"، مشيت على شاطىء البحر إلى أن تعبت، فلم يعد عد الساعات يهمني ما دمت مستمتعا بوقتي. وصلت إلى موقف باص، وكدت أتجاوزه متابعا مشواري البحري لولا ابتسامة صادرة عن شفتي فتاة جميلة يشبه وجهها وجه "الجوكندا"، فقررت أن أقرأ الابتسامة بأنها لي، وهكذا تغير هدفي من السير على الأقدام إلى الغوص في لغة العيون التركية.
كان المكان على المقعد وكأنه مخصص لي، ففي الزاوية البمنى من المقعد كانت سيدة ستينية مثلي تحتله، أما الزاوية اليسرى فكانت الجوكندا التركية متربعة عليه وقد تُرك الوسط فارغا فشغلته بسماجتي وبدانتي دون إذن. جاء أول باص فصعدت إليه العجوز وبقينا وحيدين، أخرجت من كيس الظهر "الآيباد" متظاهرا بالقراءة، وقائلا دون كلام للصبية: شوفي أنا مثقف !!
نجحت الحيلة فقد اقتربت الفتاة قليلا محاولة قراءة الصفحة التي كنت أتظاهر بقراءتها، التفت فجأة إليها وسألتها هل تقرأين؟ قالت بهدوء وثقة: لا، لا أعرف هذه اللغة. قلت لها: ألا تعرفين الحروف العربية؟ قالت: لا، أليست هي الحروف العثمانية ذاتها؟ قلت نعم، إن العثمانيين والإيرانيين قد استعملوا الحروف العربية بعد دخولهم في الإسلام وهناك شعوب أخرى أيضا استعملت الحرف العربي.
قالت الفتاة: لم أرَ الحروف العربية ولا حتى العثمانية إلا بالمصادفة، وعندما أمر من أمام أحد الآثار التي عليه كتابة، فأقدر أن هذه اللغة هي عثمانية قديمة.
عرفت وقتها أن المأساة، مأساة انقطاع أجيال كاملة عن تراثها كانت عربية بقدر ما هي تركية، وربما هذا ما يفسر قرار الحكومة التركية بافتتاح 400 مدرسة لتعليم اللغة العثمانية، فهناك آلاف الكتب التاريخية والأدبية والدينية التي كتبت بتلك اللغة وأصبحت عصية على الأتراك نتيجة قرار أتاتورك باستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني.
جاء الباص الذي ننتظره وانقطعت أحلام اليقظة فأسرعت بالصعود لأجد أن الأماكن مشغولة كلها، إلا أن أخلاق شاب تركي أبت أن أبقى واقفا فقدم لي مكانه لأتابع قراءة رواية أمين معلوف "القرن الأول بعد بياتريس"
2-
في حوار مع سيدة يونانية رائعة التقيتها في اسطنبول مع زوجها السوري، وكنت أسألها عن العداء التاريخي بين الأتراك واليونانين، وهل ما يزال في ذاكرة اليونان المعاصرين ذكريات عن الصليبيين الذي مروا في ديارهم، فاجأتني بالقول: لو خيرتَ اليوناييين بين الصليبين والعثمانيين فسيقولون لك: نختار العثمانيين وذلك لأسباب منها مثلا إن العثمانيين حافظوا على اللغة اليونانية وعلى مذهب الناس الأرثوذكسي، ولو أن المستعمر كان فرنسيا أو هولنديا بدلا عن العثماني مثلا لكانت اليونان الآن غير موجودة لغة ومذهبا.
نجن ندين للاستعمار العثماني بالمحافظة على هويتنا......
3-
سقطت القسطنطينية عمليا عام 1452، وهو عام وصول ٥٠ ألف مقاتل عثماني بقيادة محمد الفاتح إلى قرية "حصار" وليس كما سجله التاريخ عام 1453، القرية التي ستصبح لاحقا "حصن روملي"، وهي النقطة الأضيق في مضيق البوسفور، حيث قرر السلطان الشاب محمد الفاتح بناء قلعة مقابلة لقلعة "الأناضول" على الطرف الآسيوي من الخليج ليكونا معا كفكي كماشة على المضيق والسفن المارة فيه، وخاصة تلك التي كانت تنقل المؤن من محيط البحر الأسود إلى القسطنطنية، مما يديم في عمر صمودها.
يقال إن البناء تم إنجازه في أربعة أشهر وباشتراك عشرات الآلاف. وغالبا ما تتم الآن إضافة الأساطير المرافقة لعملية البناء، وهي، أي الاساطير، ترافق الانتصارات كما الهزائم مادحة عظمة الأولى ومبررة سبب الخسارة في الثانية.
4-
أوصلني الباص إلى قرب محطة المراكب البحرية في "أومينينو" فاستقليت أحدها إلى حديقة "المجسمات التركية" التي تقع في نهاية خليج "القرن الذهبي"، وتضم مجسمات لأشهر الآثار التركية؛ الإغريقية، والبيزنطية، والسلجوقية والعثمانية وبعض الإنجازات الحديثة كالمطار والمعاهد التعليمة الكبرى.
وصلنا في الساعة الثانية بعد الظهر، وقال لنا معاون القبطان إن المركب سيعود في الخامسة والنصف لنقلنا من جديد إلى مكان الانطلاق مجانا. خرجت من الحديقة في السادسة والنصف، بعد أن صورت كل المجسمات واستمعت إلى نبذة عن أغلبها بالعربية المسجلة للزوار كل بحسب لغته. ومن المفيد الإشارة إلى أن المجسم ثلاثي الأبعاد أفضل من الصورة، ولكنه لا يغني عن رؤية الأثر الحقيقي وما قد يتركه من تداعيات وتفاعل بين الشخص والأثر، ولكن الحديقة في المحصلة جهد كبير من بلدية اسطنبول ودائرة الآثار في خدمة الثقافة التركية والتاريخ التركي، وفي الوقت نفسه مصدر دخل وطني كبير.
لفت انتباهي، وأنا أتجول، ظاهرة لم أكن أعرف أنها موجودة في مجتمعاتنا بهذا الشكل، وخاصة أنها صدرت عن سواح عرب، ما يعني أنهم يملكون الحد الأدنى من المال للسياحة، والمعرفة، بدليل حضورهم إلى هذه الحديقة. فقد صدر عن ثلاثة "غروبات" عرب عزوف حقيقي عن النظر إلى الآثار الإغريقية والبيزنطية والمسيحية المعاصرة لمجرد أنه تدل على كنائس قديمة أو حديثة أو معابد إغريقية وثنية، مع إشارات تعجب عن سبب وجود هذه الكنيسة هنا أو هذا الأثر الوثني هناك وحركات شفاه وعيون تدل على الازدراء العميق لما شاهدوه.
بالتأكيد لكل إنسان الحق في رؤية ما يريد ورفض ما لا يحب، ولكن ما صدر عن هؤلاء الأشخاص، وهم قلة والحمد لله، يدل على تعصب أعمى وكره يرافقه جهل وانغلاق أفق لا يليق بمن يبحث عن المعرفة، وتيقنت أن داعش وغيره لم يأتوا من الفضاء، وإنما هم من قلب مجتمعاتنا التي تحوي أناسا تحصيلهم الثقافي هو الجهل والكره والتعصب والغضب.
5-
رغم اتهامي بالداعشية من قبل بعض الأصدقاء، ومحاولة انتسابي إلى الإخوان المسلمين في وقت سابق قبل أكثر من عامين، لزكزكة رجال الدين المسيحيين الذي وقفوا إلى جانب الأسد، ورغم الثقافة الإسلامية التي أعتز بانتسابي إليها، رغم كل ذلك، وجدت نفسي البارحة، أثناء زيارتي إلى متحف آيا صوفيا، الذي كان جامعا، وقبلة كنيسة أرثوذكسية، أنشدّ إلى تراث مسيحي أرثوذكسي لامس بعض جوانب روحي، لأنه يشبه مناخ كنيسة مار جرجس، أو "الخضر" في قريتنا "حزور" حيث كانت طفولتي الأولى، فوقفت أمام هذه اللوحات في الطابق الثاني من المتحف، وطلبت من حسناء أوروبية أن تلتقط لي صورة في المكان، فقالت بعد أن انتهت: وكأن هناك شبها بينك وبين هذه اللوحات.
قلت لها: نعم يا سيدتي، فقد كنت قديساً سورياً في زمن المسيحية الأول، عندما كان المسيحيون يناضلون ضد الرومان وأحبار اليهود، أما الآن فأنا أشبه سوريا معذبا وقع بين أيدي نظام القتل الأسدي في دمشق.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية