حدثان مهمان في تاريخ المنطقة الحديث يمكن توثيقهما على أنهما مفصليان غيّرا مسار الأحداث في منطقتنا، تمثل الحدث الأول في قيام التحالف الدولي بإسقاط نظام صدام حسين في العراق وبمساعدة كل من أكراد العراق ونظام إيران العدو اللدود للعرب عموما وللعراق ونظامه خصوصا وذلك من خلال الإيعاز لحلفائها الشيعة بعدم اعتراض قوات التحالف الغازية بل والتعاون معها وتسهيل دخولها إلى بغداد وهو ما كوفئت عليه لاحقا بإطلاق يدها في العراق والمنطقة، أما الحدث الثاني فتمثل بانطلاق الثورة السورية المباركة.
لقد مثل هذا الحدثان نقطة فاصلة ليس في تاريخ المنطقة وحسب، بل وحتى في تاريخ الكرد الحديث، فلأول مرة استطاع كرد العراق الحصول على منطقة حكم ذاتي أشبه ما تكون بدولة مستقلة ولكن غير معلنة مع احتفاظهم بنصيب كبير في حكومة العراق المركزية تمثل برئيس الدولة ووزير خارجيتها الكرديين عدا عن حصة برلمانية مريحة. أما في سورية فقد شعر الكرد أنهم ولأول مرة قريبون من تحقيق حلمهم الوردي بسيادة وحكم ذاتي ذي صلاحيات واسعة، فانخرطت شريحة واسعة من كرد سورية في الثورة رافعة العلم الكردي ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق المظاهرات في المناطق الكردية من شمال شرق إلى شمال سورية، وهو ما خلق جواً من الشك والريبة لدى الشعب السوري الثائر الذي اعتبر هذا التصرف أنانيا يكشف عن النوايا الحقيقية للكرد من المشاركة في الثورة السورية.
لقد مثلت المسألة الكردية صداعا مزمناً للدول التي يتواجد فيها الكرد فمن إيران إلى العراق فسورية وصولا إلى تركيا كان الحلم الكردي بدولة مستقلة مصدر قلق لهذه الدول التي خاضت حكوماتها، وبلا استثناء، حروبا تراوحت في شدتها وشموليتها من بلد إلى آخر، ولعل أشدها كانت حرب الاستنزاف الكردية التركية التي استمرت لعقود إلى أن عمل حزب العدالة والتنمية على وضع حد لها من خلال اتفاق تاريخي بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني البي كي كي.
تاريخيا لقد كان لانتشار الإسلام الواسع ودخول أمم كثيرة فيه إضافة إلى وجود دولة إسلامية مركزية قوية خلال العهود الراشدة والأموية وبدايات العباسية الأثر البالغ في صهر العديد من القوميات في بوتقة واحدة غير عرقية هي الأمة الإسلامية، دولة شعارها العدل والمساواة بين الناس، فالكل خلق الله وعبيده ولا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فانصهر الجميع في مجتمع واحد منهاجه القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فانتفت القوميات والإثنيات وذابت في وحدانية الربوبية والتساوي في العبودية لله الواحد الأحد، وذلك مصداقا لقوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}. صدق الله العظيم.
لاحقا وبعد إسقاط الخلافة العثمانية قام المستعمر الغربي بتقرير مستقبل هذه الدولة الإسلامية فزرع في جسدها مرضا خبيثا يسمى دولة إسرائيل، ثم أتبع ذلك وحماية لها بتفتيت دولة الخلافة الإسلامية إلى جمهوريات وممالك وإمارات وعلى أسس عرقية أو إثنية، مع العمل على ترك الكثير من المشاكل العالقة بين هذه الدول وبحيث تكون أسبابا لخلاف دائم وحروب لا تنتهي مع الحرص على أن تبقى هذه الدول ضعيفة وسوقا لتصريف المنتجات الغربية من خلال جعلها دولاً مستهلكة وتعتمد على الغرب المنتج في شتى نواحي الحياة وهو ما سيتيح له استنزاف ثروات هذه الدول والتدخل الدائم في شؤونها الداخلية كلما إحتاج الأمر الى تدخل.
من هنا كان لا بد للمستعمر أن يجعل من الكرد مشكلة عويصة متجذرة لهذه الدول ساعده في ذلك التوزع الجغرافي العشوائي للكرد فمن شمال غرب إيران إلى شمال وشمال غرب العراق مرورا بشمال شرق وشمال سورية وصولا إلى جنوب شرق وجنوب تركيا كان الكرد أمة ممزقة الأوصال توزعت على أربع دول تكتفي بمشاهدة الأمم حولها تنشئ وتبني دولها الخاصة بها بينما هي كأمة تشرذمت في المناطق الجبلية أو شبه الجبلية لهذه الدول الأربع.
لقد مثل سقوط نظام صدام حسين فرصة ذهبية لم يفَوِتها أكراد العراق الذين كانوا بالأساس يتمتعون بنوع من الحكم الذاتي، فسارعوا إلى تعزيز سلطاتهم في إقليم كردستان الغني بالنفط الذي تقاسمه حزبان كرديان (البرزاني والطالباني) وحدتهم الثروة النفطية الهائلة في الإقليم، فحولتهم من أعداء ألداء إلى أصدقاء ألداء يتقاسمان ما تجود به أرض الإقليم من ذهب أسود لم تسخر عائداته لصالح الشعب الكردي، فمثل ذلك سقوطا في فخ الديكتاتورية التي امتاز بها العالم الثالث فلم يشذا عن القاعدة ولم يستطع هذان الحزبان تقديم تجربة ناجحة تكون مثالا لشعب يرغب بالاستقلال وتحقيق حلمه بدولة تجمع شتات الأمة الكردية بل سيطرة على منطقة بعينها طمعا في خيراتها فإغراء المال والسلطة لا يقاوم. فكانت الاتفاقات مع كل من حكومات إيران والعراق وتركيا من أجل تثبيت سلطة إقليم كردستان العراق كدولة شبه مستقلة تدير شؤون وثروات الإقليم وساكنيه.
انطلقت الثورة السورية المباركة وانطلقت معها شريحة واسعة من الكرد السوريين رافعين الأعلام الكردية إلى جانب أعلام الثورة منادين بإسقاط النظام مطالبين بحكم ذاتي تارة وبانفصال كامل تارة أخرى، وهو ما مثل انتكاسة لمشاركة الكرد في الثورة السورية، حيث شكل هذا المطلب حجر عثرة في وجه اندماج الكرد في ثورة وطنية سورية تنادي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكافة السوريين، وبات هذا الهاجس مصدر قلق للجميع من عرب وكرد حيث تسبب في سجالات وجدل لا ينتهي بين كرد مطالبين بالاستقلال وآخرين بحكم ذاتي وبين رافض لهذا المشروع أو متفهم له وهو ما فتح الباب أمام التدخلات السلبية الهدامة من قبل كافة الأطراف الداخلية والإقليمية المهتمة بالشأن الكردي، فالنظام يجيد اللعب بالورقة الطائفية والإثنية، بينما الأحزاب الكردية المسلحة ذات النزعة القومية العنصرية الشوفينية تضغط باتجاه السيطرة على الحراك الكردي السوري والاستئثار بتمثيله، فكان تأثير التدخل الكردي بنكهة عراقية تركية سورية تمثلت بدخول سلطة كردستان العراق و"بيشمركتها" على الخط من جهة، ومن جهة أخرى حزب العمال الكردستاني التركي البي كي كي ونسخته السورية البي واي دي من جهة أخرى. فتشكلت فصائل عسكرية منها ما انضم إلى الجيش الحر، ومنها ما قاتل إلى جانب النظام، وأخرى انضوت تحت راية الجماعات الجهادية الإسلامية فكان الانقسام الكردي عسكريا قابله انقسام سياسي اجتماعي تمثل في الإدارات المحلية المستقلة من جهة ومشاركة بعض الأحزاب الكردية في كل من المجلس الوطني والائتلاف الوطني لاحقا.
لا يمكن لأي جهة كانت أن تصادر حق الأكراد في نوع من أنواع السلطة أو الحكم الذاتي للمناطق التي يشكلون فيها أغلبية سكانية ساحقة لكن وفي نفس الوقت لا يمكن القبول بالممارسات الشوفينية العنصرية التي تمارسها بعض الأحزاب الكردية المسلحة بحق العرب في المناطق ذات الغالبية الكردية من قتل وتهجير قسري يرقى إلى مستوى التطهير العرقي، فهكذا ممارسات تعني وببساطة أنك تنزع شرعيتك بيديك، إذ لايجوز أن تشتكي الظلم ثم تقوم بممارسة نفس نوع الظلم على الآخرين.
لقد كان لعدم تواجد الكرد في منطقة جغرافية واحدة وتوزعهم بدل ذلك على أربع دول كبيرة مختلفة المشارب والمصالح جعل من تحقيق حلم الدولة الكردية أمرا شبه مستحيل، إن لم يكن مستحيلا بالفعل، لم تستطع عشرات السنين من النضال السياسي والعسكري أن تحقق لهذا الشعب أي نوع من أنواع الاستقلال أو حتى الاستقرار التام في الدول التي يتواجدون فيها بل على العكس خلق جدارا صلبا من الشك والريبة وعدم الثقة بين الكرد وباقي مكونات الدول التي يتواجدون فيها وهو ما مكن جميع الأطراف الإقليمية والدولية من التأثير في المسألة الكردية، ولعل أبرز تجليات ذلك كانت من خلال دخول العدو الصهيوني على الخط، فإقليم كردستان العراق بات حديقة خلفية للدولة اليهودية ومرتعا لشركاتها المدنية والعسكرية والأمنية على حد سواء.
منطقتنا اليوم مضطربة تعيش على صفيح ساخن تتوالى فيها الأحداث سراعا وبشكل لم يعد بإمكان أي كان أن يتنبأ بمستقبل المنطقة حتى على المديين المتوسط والقصير، فثورات الشعوب العربية والثورات المضادة وما خلفه ذلك من حروب ونزاعات وانتشار كبير لكافة أنواع الأسلحة التي تملكها مئات الفصائل على الأرض جعل من منطقتنا منطقة رمال متحركة توشك أن تبتلع الجميع بلا استثناء.
إن مما لا شك فيه أن ما يجمع الكرد بمحيطهم العربي هو أكبر وأكثر بكثير مما يفرقهم، فكلا الشعبين يكمل الآخر خاصة في زمن العولمة والتكتلات الإقليمية والدولية في زمن يصارع فيه الجميع من أجل البقاء، زمن بات يعتمد شريعة الغاب قانوناً ونظرية البقاء للأقوى والأصلح والأقدر على الاعتماد على نفسه منهاجاً، فحتى الشركات والبنوك على اختلاف أشكالها وأنواعها باتت تندمج مشكلة كيانات أكبر وأقوى وقادرة على البقاء والمنافسة.
على الكرد اليوم أن يحسموا أمرهم وأن يكون رهانهم على محيطهم العربي لا على الأنظمة الديكتاتورية كما يفعل البي واي دي لأن رهانه خاسر طال الزمن أم قصر، فهذا الحزب الإرهابي وبسياسته العنصرية أخذ الكرد رهائن لديه ووضعهم مواجهة مع العرب السنة من خلال ممارساته الإجرامية التي سنحتاج جميعا إلى جهد وعمل كبيرين لتلافي آثارها السلبية التي تتراكم يوما بعد يوم فالإتجار بحلم الأكراد بوطن يلم شعث شتاتهم لا يكون من خلال ارتكاب المجازر بحق العرب المقيمين في المناطق ذات الغالبية الكردية ولا بالمقامرة بوجود الكرد ومستقبلهم من خلال الدخول في مواجهات مع الفصائل الثورية والإسلامية وصولا إلى المشاركة في التحالف الدولي، فهذه مقامرة غير محمودة العواقب بدأت بوادر نتائجها بالظهور من خلال تشريد الكرد ولجوئهم إلى تركيا هربا من المعارك الدائرة بين هذا الحزب وتنظيم "الدولة الإسلامية" في شمال سورية.
أما على الجانب الآخر فإنه يتوجب على النخب العربية ثورية وإسلامية أن تعمل على طمأنة الكرد لجهة حقهم في المواطنة الكريمة وعلى كافة الصعد إنسانيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا حتى وإن تطلب ذلك منحهم حكما ذاتيا في بعض المناطق، فغاية الإنسان وهدفه هو حياة كريمة يتمتع فيها بحرية دينية سياسية ثقافية يشعر من خلالها أنه إنسان، وفي الحالة الكردية فإن السبيل الأمثل لتحقيق هذا الهدف يكمن في الفهم الموضوعي العميق لطبيعة محيطهم والعمل بالتعاون معه حوارا وسلما، لا عنفا أو حربا لن تحقق للكرد إلا مزيدا من الشقاء وعدم الاستقرار بل والتشرد من دولة إلى أخرى خدمة لأهداف أحزاب همها الوحيد السلطة والمال.
*سياسي سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية