أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بين يدي "الفاتح".. ميخائيل سعد

ميخائيل سعد في جامع الفاتح-اسطنبول

اكتشفت أنني ضائع في اسطنبول، وهذه مسألة تتكرر يوميا، ولم أحسم بعد مدى تواطئي مع ذاتي رغبتي الشخصية في الضياع، فقد كنت أريد زيارة "حصن روملي" لتصويره والكتابة عنه، ولكن قراءتي الخاطئة للباصات اوصلتني إلى حي "الفاتح" الإسلامي، فتذكرت اثنين: عدنان ع، الصحفي السوري المقيم في هذا الحي، وعبد القادر ع، الفنان السوري والمترجم الكبير وخريج كلية الفنون في اسطنبول، والأستاذ الجامعي الآن في أنقرة، وحديثة لي منذ فترة عن هذا الحي الذي كان مصدر خوف وقلق للعلمانيين واليساريين في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وخاصة للذين تضطرهم الظروف لعبور الحي.

كان "الفاتح" الحي الإسلامي الوحيد، في اسطنبول، الذي صمد متحديا "علمانية" أتاتورك، وبقي مغلقا دونها، ربما في نوع من أنواع إثبات الوجود والدفاع عن الهوية الإسلامية في بحر متلاطم الأمواج بالهويات "القاتلة"، وربما لأسباب أخرى لا أعرفها.

وجدت إذاً نفسي في الحي الإسلامي، الذي كنت أتمنى أن أكون أحد سكانه لو كنت أعرف التركية، فأخذت هاتفي واتصلت بعدنان ع. مدعيا اشتياقي لسماع أشعاره ورغبتي في تناول الشاي معه في مقهى "القرية" الذي كنا قد ارتدناه معا، ولم يتأخرالصديق، تركته يكمل كأس الشاي، ودخلت إلى متحف كان كنسية بيزنطينية رائعة، قبل أن يتحول إلى جامع ثم يعود ليكون متحفا للوحات الفسيفسائية البديعة، المنشرة على كافة الجدران والأسقف والتي تصور القديسيين المسيحيين والسيد المسيح ووالدته وبعض القصص الإنجيلية، وربما قصص الزعماء البيزنطينين المعاصرين لبناء الكنسية، كما في متحف "آيا صوفيا". ولم أخفِ شعوري بالفخر بوجود هذه الكنسية في هذا الحي؛ الفخر بوجود جانبي المسيحي المتأصل والمستمر، طوال عقود من الأزمنة، بعضها كان صعبا جدا، والفخر بجانبي الإسلامي المتسامح الذي حافظ على هذا البناء، على شكل كنيسة أو جامع أو متحف، رغم عدائية الجوار المسيحي الأوروبي دائما له. خرجت من المتحف منتشيا بمخزوني من الصور والمعارف لأجد صديقي، وقد جف ريقه من حرارة الطقس فاقترح أن نذهب إلى مطعم يقدم بيرة باردة، فسألته مستغربا: بيرة في حي الفاتح؟! قال ولمَ لا؟ كان المطعم نصف قبو، ولكنه واضح لمن يبحث، شربنا زجاجتين ثم افترقنا، فقد كان على صديقي إنجاز بعض الواجبات العائلية قبل حلول عيد الأضحى، وكان علي العودة إلى بيتي في تقسيم.

ماشيا بهدوء على الرصيف الصاعد باتجاه موقف الباص، تسللت إلى أنفي روائح اللحم المشوي التي لا أستطيع مقاومتها، فاقتربت من واجهة المطعم الزجاجية، متنشقا رائحة الشواء هذه المرة بعينيّ، فقد رأيت على المشوي الحديدي نوعا من الطيور لم أعرف ما هو، فهو أصغر من فروج وأكبر من حمامة، ولكن منظره مثيرة للشهية، دخلت وطلبت نصف هذا الشيء، الذي لم أحاول معرفة اسمه، فقد خفت، إن عرفت، أن تذهب شهيتي مع الريح، لذلك فضلت الصمت والأكل اعتمادا على الذوق العام الذي يطلب هذا الصنف من الطيور. مررت بعد ذلك أمام صواني الطعام فاخترت قطعتين فقط من محشي الملفوف، ليكونا مقبلات للصحن الأساسي. جلست على طاولة في آخر الحل الضيق، وقبل المباشرة بالطعام دخلت شابة ترتدي "ملاية سوداء" تسمح لوجهها ويدها بالظهور، حاملة صينية عليها أربعة أطباق مختلفة من الطعام، أول شيء خطر على بالي هو هل تستطيع هذه الشابة التي لم تبلغ الثلاثين من العمر والنحيلة القوام أن تأكل هذه الصحون؟ تم تداعت إلى ساحة ذاكرتي صور النساء اللواتي كن يرتدين "الملاية" في حماه، المدينة التي سكنتها صغيرا، ثم كيف تطورت الملاية إلى حجاب ومانطو طويل، وكيف أنني لا أذكر أبدا أنني رأيت محجبة تدخل بكل هذا الثقة وحيدة إلى مطعم شعبي، وكيف تتحرك بسرعة ورشاقة ودون إحساس بالحرج، كانت الصبية تخدم نفسها مثل أي شاب في المطعم، تأملتها بكامل عيني، فقد كانت على الطاولة التي تسبق طاولتي، وشعرت، ربما، كم هو حجم الحرية التي منحتها الملاية للفتاة، في حركتها وفي قعودها، في نهوضها وجلوسها، فهي ليست مضطرة للانتباه على تنورتها؛ هل تراجعت أم تقدمت، وهل كندرتها على الموضة أم لا، وهل فستانها أو بنطلونها يبرز مفاتنها وترضي العيون الشرهة أم لا، وهل تسريحة شعرها هي آخر صرعة أو أنها كلاسيكية؟ أسئلة كثيرة تواردت إلى ذهني وأنا أراقب الفتاة، ولكن شعرت بالسعادة فعلا لكمية الحرية التي تنطق بها حركات الفتاة، وثمنت عاليا معنى الديمقراطية التي تجعل الإنسان يختار أسلوب تدينه ومضمون إيمانه، وقد يكون هذا أهم إنجاز لحكومة حزب العدالة والتنمية، التي جعلت المسلم التركي متصالحا مع ذاته ومع عصره ومع تاريخه، والتي جعلت من حي "الفاتح" حيا إسلاميا منفتحا على تركيا كلها.

خرجت من المطعم سعيدا بنوعية الطعام الذي لم أعرف نوع لحمه ولكنه طيب جدا، ومن نموذج المسلمة القوية والحرة التي رأيتها في الفتاة المحجبة، وما كدت أخطو عدة أمتار حتى شاهدت نموذجا آخر من النساء، فقد كانت امرأة سافرة تجلس قرب بسطة أحذية في الشارع، تبيعها لمن يرغب، اقتربت وسألتها بالإشارات عن ثمن أحد الأحذية، فردت بأصابعها أن الثمن ثلاثون ليرة، سألتها إذا كان بالإمكان أن التقط لها صورة مع البسطة، فابتسمت والتفتت إلى الخلف مشيرة إلى رجل، سرعان ما جاء سائلا ماذا أريد، فققلت له صورة، فأشار إلى أن لا.

أخيرا، أحببت أن أقدم للقراء هذه النماذج الحقيقية المتنوعة من قلب حي تركي كان مشهورا "بتعصبه" الإسلامي، عندما كانت تمارسه عليه الضغوط للتخلي عن هويته الإسلامية التي كانت فخره، وكيف أنه قبل، بعد انزياح غيوم التعصب ضده، أن يقبل لعبة التعددية والديمقراطية، وإن لم تكن بالشكل الذي يرضي الجميع. المهم أن هذا المجتمع يسير ويتأقلم مع العصر بجرأة دون أن يشعر أن هويته مهددة بالزوال.

من كتاب "زمان الوصل"
(162)    هل أعجبتك المقالة (140)

حمصي في اسطنبول

2014-10-07

مقال جميل و أسلوب رائع.... تحياتي لك استاذ ميخائيل.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي