أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

غيومٌ طالَ انتظارها.. هيثم أبو طالب

ربما تحجُّرتْ طبلتا الأذنين خاصةَ أفراد هذا العالم، بالرغم من كلِّ أصواتِ الصراخ المفزعةِ الآتيةِ من مخيم اليرموك، حيث إنَّ جميعنا يرى الصورة بوضوح تامّ مفضّلين استخدامَ حاسة البصر عن النطق والسمع، غيرَ مبالينَ بحصار خانق يصلحُ لكتابةِ أجملِ روايات الأدب عنه تصويراً لمعاناة أهله، ربما تلك الروايات لن تحصدَ جائزةَ "نوبل للأدب"، أو جائزة "بوكر الأدبية" لكنها حتماً ستحصدُ أكثرَ جوائز الأخلاق قيماً، إذا ما وصلتْ لأصحاب الآذان المسدودة رغما عنهم، لتجعلهم مأسورين في ظلِّ أحداث تلك الروايات، علَّهم يحرّكوا ساكناً لهؤلاء المحاصرين. 

في غمرةِ صمتِ العالم عنْ تلكَ البقعة الجغرافية المنسيةِ المحاصرة الواقعةِ جنوبَ العاصمة السورية "دمشق"، تتفاقمُ معاناة المحاصَرين في كل دقةِ عقربِ ساعةٍ تمرُّ وسطَ أحاول معيشية لا توصف بالأسوأ فقط، وإنَّما بالكارثية، جرَّاء هذا الحصار الذي لمْ يُشهد له مثيلٌ في القرن الحادي والعشرين، والذي كان قد بدأ منذ يوم "17 -12 -2012"، على شكل حصار جزئيٍّ ليتبعه بعد ذلك حصارٌ كليٌّ بدأ يوم "17 -7 -2013" ليشتدّ على أهالي المخيم بعد انتهاءِ المواد الغذائيةِ الموجودة داخله، فتوقفت الأفران عن العمل وأصبح رغيفُ الخبز حلماً لأبناء المخيم من المستحيل تحقيقه وكذلك أغلقت جميع المحلات أبوابها، في ظلّ منع تام لإدخال المواد الغذائية، وبدأ الحصارُ يطرح نتائجه على مرأى ومسمع العالم أجمع دون تحرّك فعليّ لرفع هذا الحصار الجائر بحق أبنائه، مما أودى بحياة أكثر من "170 شخصاً "ارتَقوا جائعينَ إلى السماء في فترة زمنية لا تتجاوز "ثلاثة أشهرٍ فقط"، ولم يكنْ المخيم أثناء الحصار بمنأى عن التجارب العسكرية، حيث جُربت به جميع أنواع الأسلحة الصاروخية والمدفعية وأنواع الذخائر والقصف الجوي من طائرات الميغ إلى الهليوكبتر مما أسفرَ عن تغيّر بعض من جغرافية المخيم من خلال اتّبعاع سياسة تدمير واغتيال ممنهجة لمعالم المخيم والتي تشهد على نكبة اللاجئين الفلسطينيين من سكانه، ولم يقتصر الحصار على هذا فحسب، بل شمل أيضاً منعاً تاماً لإدخال المواد الطبية اللازمة وقصف للمشافي والمراكز الطبية مما زاد من المعاناة في معالجة الجرحى والمصابين جرّاء القصف مما أدى إلى ارتفاع عدد الشهداء في المخيم. 

واستمر الحال على هذا المنوال للأشهر السبعة الأولى من الحصار، وبعد صراخ طويل لأهالي المخيم استطاعت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطنيين "الأونروا" أن تسمع الأصوات المناجية لها، وقامت بإدخال أولى قوافل المساعدات الغذائية في "24-2-2014" والتي كانت عبارة عن شاحنتين محملتين بالمواد الغذائية الأساسية، في محاولة خجولة منها لإبقاء ما بقي من سكان المخيم على قيد الحياة بعد أنّ أنّهكم الجوع و باتوا "كالأشباح" على حدّ تعبير مدير الوكالة "فيليبو غراندي"، ليتبعه بعد ذلك توزيع غير منتظم للمواد الغذائية من قبل عدة جهات منها حملة "الوفاء الأوروبية" و"منظمة التحرير الفلسطينيية"، حيث بلغ عدد الكراتين الغذائية الموَزعة منذُ بداية الحصار نحو 40 ألف كرتونة، وهو عدد ضئيلٌ جداً لا يتناسب مع حجم الكارثة الواقعة، وقد تحولت حياة المحاصرين منذ تلك الفترة إلى اصطفافِ طوابير طويلةٍ تكاد لا تنتهي ليحصلوا على كرتونة مساعداتٍ إنْ حالفهم الحظ، ثمَّ يعودون أدراجهم نحو شوارعهم الخاوية، ليبقى هذا الحصار قابضاً على رقاب الفلسطينيين لا على كرامتهم. 

تبدو السماء فوق المخيم ومنذ أول أيام دخوله في الحصار وكأنها خاوية، إلا من بعض غيوم الأمل التي ينظرُ المحاصرين فيها خيراً دام على انقطاعه أشهر طويلة فما إن يُسمع في الخفاء أصوات تعلو بشأن هدنةٍ إنسانيةٍ جديدةٍ حتى يخرج الجميع إلى الملأ يهتفون ويوزعون الحلويات ويعبِّرون عن فرحتهم التي سريعاً ما تتلاشى كملاك عابر ضل طريقه، وفي كلِّ مرةٍ توضَع أسبابٌ ليست بمبرر لاستمرارِ هذا الحصار، منّها عدمُ التزام الأطراف العسكرية بتنفيذ البنود التي يتم الاتفاق عليها من فتح الطريق لإدخال المساعدات العاجلة إلى عودة الأهالي إلى إطلاق سراح المعتقلين مروراً بتشكيل لجنة عسكرية لحماية حدود المخيم و العديد من النقاط الأخرى التي من شأنها أن تعيد وجه الحياة للمخيم، حتى باتَ الأملُ بفك الحصار ضئيلاً جداً في ظلّ نسف جميع هذه الهُدن، ورغم ذلك لم يتوقف الأهالي والناشطون في المخيم عن إطلاق المبادرات والحملات الإعلامية لإعادة النظر إلى ملف المخيم الذي أصبحَ بمرور الأيام منسياً وغائباً تماماً عن أولويات أصحاب القرار بالتعامل مع ملف المخيم على أنه كرتونة مساعدات لا أكثر، وهذا ما يرفضه سكان المخيم الذين صمدوا في منازلهم رغم انعدام الحياة الإنسانية الكريمة، فماذا يفعل المحاصرون غير الحملات و الصراخ إذا ابتلى الله هذه الأمة بقادة ليس لهم إلا الانحناء والانهزام ؟!! 

وقد كانت أخر تلك الحملات حملة "بدنا نعيش" لإعادة لفت الأنظار للأوضاع المأساوية داخل المخيم، ولإيجاد حل لهذه الأزمة ساعين إلى محاولة غرس زهرةِ بنفسج جديدة وسط حقول من الأشواك، علَّها تغيّرُ من هذا الواقع المرير شيئاً، متربصين بالنظر إلى السماء خوفاً من صاروخٍ قادمٍ، ومنتظرينَ غيوم الفرج أنْ تمطرَ لتنمو تلك الزهرة الصغيرة رغم حجم اليأس ومرارة الحصار.

مشاركة لــ"زمان الوصل"
(148)    هل أعجبتك المقالة (149)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي