من المبالغة القول إن خطاب زياد الرحباني الوداعيّ في مقابلة مع تلفزيون "الجديد"، ناتج عن "صحوة ضمير". اعتماد هذه العبارة في تعليقات محبّيه في "فايسبوك"، الذين أحرجوا به يوم أعلن معاداته للثورة السورية، ينطوي على أوهام. فالرحباني، لم ينتقد حزب الله، بل عاتبه. ولم يعترف بـ"الثورة السورية"، بل أشار إليها لتدعيم نظرته الى الإنتفاضة السورية، بوصفها المسبب الرئيس لـ"خراب". وبهذه النبرة، إختلق مادة جدلية لكسب تأييد من خسرهم خلال السنوات الماضية، طمعاً في دعم جديد لانطلاقة جديدة في قناة "روسيا اليوم"، ومحاكاة لعارفيه في موسكو الذين اهتزت علاقته بهم، بُعيد أفول الإتحاد السوفياتي.
ويحاول الرحباني تحفيز مشاعر "عقدة الذنب" في نفوس لبنانيين، يعتقد أنهم خسروه. على خطى عدد كبير من النجوم والسياسيين الذين تمتعوا بذروة الشهرة، يلقي خطابه الوداعيّ، تحفيزاً لبكائية عُرفت بها قيادات عربية في ذروة الأفول، أو قبلها بقليل. قال إنه سيتقاعد. تنطوي العبارة على ألم نفسي، يؤكد دخوله مرحلة خريف التجربة. وقاد نفسه الى هذا الأفول بجدل واسع، على ضوء تصريحات تنسجم مع خياراته السياسية حيناً، وتتعارض معها في أحيان أخرى.
إنها مرحلة الإنهيار. يخوض الرحباني معارك "دونكيشوتية" ضد أعداء مفترضين. قال إن إسرائيل تمنع ظهور صور ومقاطع فيديو لحفلة الناقورة في مواقع التواصل. وإن أعداء آخرين يتجسسون على مكالمة هاتفية له. وإنه لا يستطيع التحرك من دون مرافقين شخصيين. في ذلك إيحاء بأنه مستهدف، كأي مسؤول أمني أو سياسي أو قائد ميداني، ما يعزز الشعور بأنه وصل الى مستوى غير مسبوق من جنون العظمة، إستناداً الى غياب أي تقارير تؤكد مزاعمه، في حين، يصعب التأكيد بأن الحظر التقني لصور حفلته ممكناً، طالما أنه التقط بكاميرات هواتف.
انتقاد الرحباني لحزب الله، مرفقاً بثناء على أمينه العام، يضعه في خانة المتسلل في حصان طرواديّ لاستدراج الحزب الى الإتصال به، على سبيل المراضاة. وعلى طريقة اللبنانيين، يفصل بين الزعيم وحاشيته. بدهاء سياسي، إفتعل إشكالاً مع الحزب بعد صولات من امتداحه، لـ"شراء" لقاء كان أعلن في نيسان/أبريل 2013 أنه يحلم به، خلال لقاء مع رابعة الزيات في برنامج "بعدنا مع رابعة". ولا يستطيع الحزب رفضه، تجنباً لفتح ملفات قديمة، بينها مرحلة الحرب اللبنانية، واغتيال المفكر مهدي عامل، والتذكير بصراع اليسار مع "القوى الظلامية" (في إشارة الى حزب الله في مرحلة 1985).
والواضح أن زياد الرحباني، لم يستطع أن يكسب شيئاً من التأييد لحزب الله خلال الفترة الماضية. من الناحية الجماهيرية، خسر جزءاً كبيراً من محبيه نتيجة خياراته، ولم يربح في المقابل جمهوراً إضافياً من حزب الله، بسبب موانع دينية مرتبطة بالغناء والموسيقى. والموانع نفسها، حرمته من الظهور في وسائل إعلام الحزب، بينها "المنار". إقتصر ظهوره الإعلامي على "الميادين" و"الجديد" وجريدة "الأخبار"، فيما خسر طيفاً واسعاً من وسائل الإعلام غير الحليفة. خيار قاده الى الثورة مجدداً، بغطاء الناطق باسم الحزب الشيوعي، علماً أنه لا يمتلك تفويضاً بذلك. وقد حاول محاكاة جزء من جمهور الحزب (أو المقاومة)، بنقل انتقاداته لحزب الله بوصف أمينه العام لا يعترف بهم كحلفاء.
في ذلك، حق لزياد أراد به باطلاً.. تماماً كما في حق إبراز ما يعاني منه الجنوب من تعتيم ثقافي وفني، بما يخالف هوى ساكنيه. وصوله الى مرحلة الإشتباك المباشر مع الحزب، والإعتراف تلميحاً بالثورة السورية، ينطوي على انتهازية مكشوفة، تمهيداً لتبرير رحيله. كما أنه حاول محاكاة الأدبيات الروسية السياسية، من خلال الإبقاء على شعرة الإنتماء للحزب الشيوعي وللمحور الخصم للولايات المتحدة، بهدف كسب تأييد المحور الذي ينزح إليه.
مواقفه أمس، بدت ملتبسة. لا تغيير طارئاً في رؤيته، ولا ما يستحق الدهشة أو التشويق. حاول إستدرار دمعة، ملصقاً بنفسه لقب "عظيم سيخسره البلد". وقبل الرحيل، لا بدّ من قول ما لا يغير أي شيء في سكرات الموت السياسي. يأفل زياد، ويمهد لمرحلة أفول الأفول. ويقول ما تستوجبه المرحلة، بهدف الخروج من ضغط مادي لا استبعاد لفكرة أنه يعاني منه.
*عن "المدن"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية