قريبا من خيمتهم و حول النار أشعلوها إستلقى على اﻷرض متعبا و أول ما أمسك هاتفه المحمول ليرى الرسائل المحتشدة حتى يتم إتصال الشبكة و كالعادة رسائل زوجته تكون في المقدمة مهما كان ترتيبها
يفتحها ليقرأها بلهفة و غصة
:السلام عليكم أبي أنا سلسبيل أمي إشترت لي ثياب المدرسة و حقيبة و أقلام و دفاتر إنظر لصورتي هل أبدو فيها جميلة
و رغم اﻷخطاء اﻹملائية إلا أنه إستطاع أن يقرأها و يقرأها بكل حب و شوق
نظر لصورتها بتلهف و حسرة إحتبس الدمع في عينيه لم يشأ أن يبكي أمام رفاقه و هم يرون به البطل الجسور الصبور فأدار ظهره بينما كانوا هم يقهقون عاليا من موقف طريف حدث ﻷحدهم على الجبهات و ما لبث أن نهض إلى الخيمة ليترك خلفه أصدقائه يتسائلون ما به ماذا جرى له و يلومون بعضهم لعلى بعض ما قيل أزعجه و هو في عالم آخر غير واع على كلامهم و لا على ما يتصرفه
أراد أحدهم أن يلحق به إلا أن كبيرهم أشار له بالجلوس فهو كان يدرك تماما إشتياق الزوج و اﻷب الذي مضى له ما يقارب الثلاث سنوات و هو بعيد عن عائلته الصغيرة
في زاوية الخيمة جلس يتمعن في صورة إبنته الملاك
يكبرها يدقق في ملامحها كم كبرتي يا حبيبتي كنت ماتزالين ترضعين الحليب و اﻵن تخبرني والدتك أنك تساعديها في ترتيب المنزل و اﻹعتناء بأخوك سلام
قبل الصورة عشرات المرات و هو يبكي و يكفكف دمعه بيديه الخشنتين المسمرتين
وضع يده في جيبه و أخرج "ميدالية" أهدته إياها في آخر لقاء ضغط عليها كالضاغط على الوعد و بكى بحرقة
لم ضعف في هذه المرة لم يدري
أهي عيون إبنته الحزينة أم كلمات زوجته التي سبقت كلام إبنته بقولها
:محمد لم يتوفر لنا حصة من اﻹغاثة حيث كانوا يوزعون المستلزمات المدرسية فبعض النساء أخذت أكثر من حاجتها لتبيعها و حتى هناك من لم يكن لديها أولاد في المدارس
حسبي الله أنا إستدنت مبلغ من جارتنا الحاجة أعطتني إياها كصدقة و أنا أصريت كدين فرضخت لطلبي حتى آخذه منها ﻷجل الله لا تغضب ..لكن سلسبيل بكت كثيرا بعد إنتظارنا سبع ساعات و لم نتمكن بعدها من تحصيل أغراض لها فالعدد نفد
إدعوا لها أن يحميها الله
ضرب على جبينه و أجهش باكيا و عاد شريط الذكريات يعرض أمام ناظريه ما كانوا عليه كن حال و ما آل إليه المآل و ما لبث أن نهض خجلا من رجولته و هو يقول بصوت مسموع:لا أنا قوي ...أنا قوي فهتف به صوت داخلي:ماذا لو قصفت المدرسة و ماتت الفرحة و ماتت سلسبيل. ....؟!!!!!
:لا لن يحصل ذلك
:و لم لا؟!
:سيكون ذلك بعد أن أستشهد على أعتاب مطار لم يحرر....
و أنهار أرضا مغمضا عينيه و غاب في عالم من التمني
هاهي زوجته تمشط لإبنته شعرها و هو يلبسها الجورب اﻷبيض القصير و يوضب لها الدفاتر و اﻷقلام في الحقيبة الصغيرة
سلام يتمسك بأخته باكيا يريد مثلها ثوبا و حقيبة و أن تصحبه معها تأخذه أمه و تخرج به إلى الحديقة بينما هو يحمل طفلته الجميلة يقبلها و يدور بها فرحا و من ثم يمسك بيدها ينظر لها و هو ممتلئ قلبه سعادة و ما يلبث أن يفتح الحقيبة و يفرغها من الدفاتر و من ثم يبقي على قلم واحد و دفتر
تنزعج سلسبيل و هي ما تعرفه عن تصرفه أنه يخرب عليها بهجتها فيهدأها قائلا لها و هو يمسح على خديها:يا غاليتي الطريق طويل و أخشى عليك من التعب لا عليك أعطيني الحقيبة ﻷحملها عنك
تضرب بقدميها على اﻷرض معلنة رفضها فيلبيها بالسمع و الطاعة و يهم بحملها فترفض
قدمها الصغرتان كيف ستتحملان مشقة مشي الألف متر
:دعيني أحملك يا بابا
هات عنك الحقيبة
:لا أريد هيا يا أبتي إستعجل أخاف أن أتأخر فيغلقوا باب المدرسة
فيمسك بيدها و هي تقوده على عجلة و كلاهما يضحكان و يضحكان ......يطيران...يحلمان....
:ستغدين طبيبة يا حلوتي
:لا سأغدو صحفية أصور في الحروب و آتي إليك على الجبهات أجري معك مقابلة
و لا يرى نفسه إلا و هو يحملها مسرعاً لا فرحا بل خوفاً و ذعرا
المدرسة تقصف.. الأطفال منهم الجرحى و منهم الشهداء
تقع حقيبتها على اﻷرض
تتناثر اﻷقلام و الأوراق مع مهب الريح
يشعر بدفء يجري على جسده ينظر لسلبيل و الجديلتين المغمستان بالدم يصرخ يمددها على حافة الرصيف يفتح مطرتها الملطخة بالدم يبلل بها وجهها يحاول أن يشربها لتصحو
:سلسبيل إنهضي يا حبيبتي ألم تعديني بأن تكوني صحفية سلسبيل كلميني هل الحرب ستدوم حتى تكبرين؟!!
لم كلمتميني هذا و سكتي
سلسبيل لا تحرقي قلب أبيك يا حبيبتي
ينظر إلى الدنيا من حوله و كأنه يوم القيامة بكاء و صراخ و عويل سيارات من هنا و هناك تقل الجرحى و عناصر الدفاع المدني تنبش الركام بحثا عن أحياء تلملم أشلاء مبعثرة
يلوح لسيارة بأن تقف يحملها و يركض بها هائما
لكن كل مشغول بمصابه
يحملها ﻵخر الطريق
يجلس على الرصيف آخرى يمسح على شعرها يمسك بيده الكبيرتين يديها الصغرتين الناعمتين بإحتواء
تفتح سلسبيل عينيها تبتسم له
تعتريه حالة من الهسترية من حضيض الحزن إلى فرح عارم يكاد يصاب بالجنون من هول الصدمة
تريد أن تنطق لكنه عسير عليها
يشربها بضع قطرات من الماء يمسح به وجهها
قول لي يا غاليتي الحمدلله أنك بخير
:أبي هل في الجنة مدرسة
و تغمض عينيها على الحلم...على الحلم الصغير
يصرخ والدها صرخات يهدم على إثرها جدار كبير أعزل كان يحجبهم عن مرآى العالم....
هنا يستيقظ من حلمه رعبا و ينهض مسرعا يتفقد السيارات و اﻷسلحة
يجهز العدة
يأتي إليهم يرحبون به
و هم يحاولون قراءة تعابير وجهه لعلهم يعرون ما الحكاية
:إجتمعوا جميعكم...أجري إتصالا بالقادة كلهم
قل لهم ليجتمعوا ..في هذه الليلة ...سنجري مباحاث في كيفية الهجوم على المطار الحربي فجراً سنتحرك لتنفيذ
:ما اﻷمر...
:ما الذي دهاك
و يقول أحدهم محاولا تكذيب الأمر مازحا في ما قاله:إجلس هل رأيت مناما هل أنت جادا في كلامك
إجلسوا يا رجال إنه يمزح
و الكل مندهش و متعجب و في سره يطرح ألف سؤال
:هيا يا أبا الضيم تفقد الأرتال و قم بتجهيزها
سليم ما الذي يقعدك عن تنفيذ ما قلته لك إلى اﻵن
كل دقيقة تهدر سنحاسب عليه لم يعد هناك من وقت
:قل لنا فقط ما اﻷمر
غداً أول يوم في العام الدراسي لا أريد لإبنتي و لا ﻷي طفل أن تقتل فرحته بقصف مدرسته أو أن يقتلوا حلم أمه بقصفه على مقاعد المدرسة
هنا كلهم تحمسوا...كلهم...تجمدوا...الكل تذكر أطفاله...و بعضهم أحفاده..
و في الصباح الباكر كانوا قد حرروا حاجزين و وصلوا على أعتاب المطار..
و هو في مقدمتهم
و في المقدمة سقط أول شهيد في العملية الكبيرة
كبروا رفاقه و بكوا...و كان منهم ما رأه في محاولة إنقاذ سلسبيل
الهاتف يرن و هي اﻷم تجهز إبنتها لذهاب للمدرسة ﻷول مرة يضيق صدر الزوجة رغم أن الرقم المتصل زوجها
و بدون شعور تتمهل في الرد تأخذ من يدها سلسبيل الهاتف :لا بد والدي يريد أن يطمئن علي و يهنئني بالمدرسة
ألو
:السلام عليكم يا عمو
ترتجف اﻷم ما أن تسمع صوتا مغايرا لصوت زوجها
تقرب بسمعها من الهاتف
تضطرب سلسبيل:من أنت ألست بابا
:مبرووك المدرسة يا عمو ألم تذهبي بعد
:أين البابا من أنت
تأخذ الهاتف منها والدتها و هي ترتجف و تقول بتلعثم:خير يا أخي محمد ..طمئني عن محمد.. هل.. هل ..محمد به من أذى..هل محمد إستشهد ...
:مبروك محمد إستشهد مبروك شهادته ..فلتطمئني...و لا تقلقي بعد اليوم ..من الطيران....ستصفو لهم السماء و لأناشيدهم و لن يخيفهم بعد اليوم غول الحربية و لا المروحية...قولي لسلسبيل أن شهادة أبيها هي أغلى شهادة ستعز بها مهما علت بها المراتب
سلسبيل تخرج للمرة اﻷولى على اللوح تمسك بقلم الطباشير بلون اﻷحمر تخط تاريخا لا ينسى و تعنون بالخط العريض و كبير ملئ اللوح بابا شهيد
و نزلت على الخد المرهف دمعة صامتة بعد أن إستدارت لطلاب و المدرسة
ستلوم سلسبيل والدها و تعتب عليه كما يعرف عنها دائما
لكن حينما تكبر ستفخر به و تلوم تقصيرها ستبكي ستآتي إلى روضته لتزرع دمعة و تقطف وردة و ياسمينة تزين بها صدرها
سترسم على رمال قبره حروفا
ستكتب بصخور الجبال ..ستملئ الدنيا
بابا شهيد..في أول يوم..في المدرسة
في أول يوم في المدرسة

ايمان عبد الحكيم
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية