يقع مكان سكني في اسطنبول قرب منطقة يُقام فيها كل يوم أحد "بازار الأحد" للأشياء المستعملة أو البالة.
وتشاء المصادفات أن أتعرف في عاصمة العثمانيين على رجل حلبي أشترك وإياه في الكثير من الهموم والأفكار والعادات، ورغم أنني كنت سجينا لفترة قصيرة على حساب البعث، وهو كان سجينا لفترة 13 سنة على حساب الإخوان المسلمين، إلا أن بعض عاداتنا كان متطابقة لدرجة مدهشة، ومن هذه العادات جبنا لزيارة "البالة"، وهكذا أصبحنا من الزيائن الدائمين لهذا البازار.
الأحد الماضي، كنت مع صديقي محمد برو من أوائل الواصلين إلى البازار نبحث عن شيء ما غير محدد، الشيء الوحيد الأكيد الذي كان بين أيدينا كان متعتنا في تقليب الأشياء المسعملة والنظر فيها، وأحيانا السؤال عن ثمنها. مع اقتراب الساعة من التاسعة صباحا كان الازدحام على أشده في السوق مما اضطرنا على الابتعاد عن بعضنا، ففي النهاية نحن كائنان بشريان، ولكل منا طموحاته الخاصة وطرقه في البحث عن "الكنز المفقود".
فجأة قرع جرس كنيسة ضخمة، كنت أظنها مهملة، فرفعت رأسي ناظرا إلى قبة الجرس، ومتأملا من جديد الكنيسة وبعد أجزائها المتداعية وتساءلت لماذا لا يتم ترميمها؟ هل تمنع الحكومة التركية المسيحيين من ترميم كنائسهم، كيف حدث أن هذه الكنيسة الضخمة والفخمة المنظر تقع في هذا الحي الفقير؟
كان قبل ذلك بدقائق قد بدأت نوبة من الغثيان الخفيف تجتاح معدتي، وأشعرتني أكثر من مرة بالحاجة إلى التقيؤ، لا أعرف ما هو السبب، ربما من كأس الشاي الذي شربناه في مقهى شعبي فقير على أطراف البازار، وربما، كما قال صديقي الحلبي، لأنني لم أتناول بعض الطعام قبل خروجي من البيت، وربما كان بسبب الأدوية التي تناولتها "على الريق"، المهم إنني ركضت باحثا عن مكان فارغ من البضاعة والبشر كي أتقيأ، فلم أعد قادرا على منع معدتي من لفظ ما لا تحبه، أخيرا وصلت إلى الشارع الرئيسي، فتركت لغثياني المعوي أن يأخذ مداه، وبعد عدة محاولات، واحمرار الوجه وانتفاخ عروق العنق، وتلوي البطن، استطعت التغلب على بخل معدتي وحرصها على الاحتفاظ بكل ما يدخل إليها أو أغلبه، فقذفت بعض سوائل غير معروفة التكوين.
تنشقت الهواء عدة مرات قبل أن أطمئن إلى أنني تجاوزت حالة الغثيان، وأن لياقتي البدنية تسمح لي بمتابعة البحث عن فانوس "علاء الدين" في بالة "الأحد".
في طريق العودة اكتشفت أنني أمرّ من الزقاق الذي يحتضن باب الكنيسة الحديدي الكبير، فتوقفت وقد استدرت إلى يميني 45 درجة لأتأمل واجهة الكنيسة. كانت حالة البناء توحي بأن عمره 200 سنة على أقل تقدير، فتشت بنظراتي عن لوحة تشير إلى تاريخ بناء الكنسية، فلم أعثر إلا على بعض الكتابات اليونانية، فعرفت أنني أمام كنيسة أرثوذكسية يونانية، اقتربت أكثر من الباب، وكانت أناملي قد لامست حديده، كي تتمكن نظراتي من الوصول إلى أماكن مخفية، فجأت "طق" القفل وفُتح الباب كهربائيا، ترددت لعدة ثواني بالدخول، ثم قررت أن أكتشف المكان، رغم عدم وجود الكاميرا معي. عندما تجاوزت قدماي الباب تقدمت امرأة خمسينية كانت تجلس في "كولبة" حراسة وطلبت مني أن أتبعها، ثم سارت باتجاه باب الكنيسة العملاق. بعد أن دخلنا، قالت المرأة شيئا ما، قلت لها: لا أفهم التركية، ولكن فهمت من إشاراتها أنه ربما من الأفضل أن أتبرع بثمن شمعة قبل أن أشعلها، متمنيا من الله ويسوع المسيح أن يحققا لي الأمنية التي أتمناها الآن، عندما فهمت الإشارات، وقد ساعدني على ذلك ما تبقى في ذاكرتي من ذكريات عن الطقوس المسيحية، بحثت في جيبي فوجدت ليرة تركية فوضعتها في الصندوق المخصص للتبرعات، وأخذت الشمعة ثم أشعلتها من أخرى موجودة في الرمل المخصص لذلك، ثم غرستها قرب الشموع الأخرى دون أمنية أقولها في قلبي. تابعت السير إلى داخل الكنيسة، ولشدة دهشتي اكتشفت أنني، رغم إلحادي، المؤمن الوحيد الموجود في قداس الأحد داخل هذه الكنيسة الضخمة، وعندما لاحظ الكاهن والشماس أن أحدهم قد جاء لسماع "كلام الله" بدآ في قراءة الإنجيل، كان المهشد مأساويا وهزليا في الوقت ذاته، تأملت اللوحات التي تزين الجدران الداخلية ثم قررت وضع نهاية لهذا المشهد المحزن، فاستدرت منسحبا من الكنيسة باتجاه البازار، باحثا عن صديقي السوري المسلم، ولكن قررت فجأة العودة، فرفعت الشمعة من مكانها ثم تمنيت أن ينصر الله والمسيح الشعب السوري على جلاديه الأسديين، مكررا بصوت مسموع ما كان يقوله الثوار السوريون، بعد أن فقدوا إيمانهم بنصرة شعوب العالم لهم "يالله، مالنا غيرك يالله".
كنت ككل السوريين أو أغلبهم، أنتظر أعجوبة تحدث كي ينتصر الشعب السوري، في محنته الكبرى، على آل الاسد، وفجأة لمعت في ذهني، وكنت قد أصبحت في الشارع: هل هذه الأمنية التي لفظتها شفتاي، "ياالله، مالنا غيرك يا الله"، هي "الفانوس السحري" الذي أبحث عنه مع صديقي الحلبي "محمد برو" في بازارات اسطنبول ومدن العالم الأخرى؟
نعم إن وحدة محمد وعلي وميخائيل ومأمون وهيثم وعبد المهيمن وماهر وياسين وغيرهم من الشعب السوري، هي الفانوس السحري الحقيقي والوحيد الذي سيحقق النصر، ولم يعد لنا، بعد أربع سنوات من الموت اليومي، الحق في انتظار العون من الخارج، عندها، وعندها فقط سينصرنا الله ويكون معنا.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية