أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سؤال ضروري لمستقبلها: داعش.. في أي سياق تشكّلت؟ الجزء 1 و2

الجزء الأول


في موسم الكتابات العابرة عن تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا بـ "داعش"، نادرة هي المقالات الرصينة، التي تستدعي انتباهك وتجذبك إليها، وتقدم إضافة نوعية في تفكيك هذه الظاهرة "الطارئة".  في 20 أغسطس/آب 2014، نشر الباحث السعودي، نواف القديمي، في موقع "العربي الجديد" مقالة مهمة من جزأين (أقرب إلى أن تكون دراسة) بعنوان "سؤال كبير.. كيف تشكلت داعش؟"، وصف فيها عقيدة التنظيم، وما يمكن أن نسميه تجاوزًا "مرتكزاته الفكرية"، وعلاقته بالسلفية الجهادية المعاصرة، وقدم تحليلاً سيكولوجياً لأعضائه وقيادته، وتكتيكاته القتالية، عدا عن علاقته بالفصائل السورية والعراقية. 

وإذا كان القديمي قد انطلق من مقالة الدكتور، عزمي بشارة، والتي، على ما يبدو، فتحت نقاشًا جادًا عن التنظيم خارج التنميطات والتراشقات الإعلامية والاستثمار السياسي، فإن هذا المقال ينطلق من مقولة القديمي ان "الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟"، وأبدأ من الإجابة المختصرة، والتي صاغها بشارة في ختام مقالته عن السؤال العقيم، وهي "أن هذه الحركات لم تنشأ في ظل نظام ديمقراطي، ولا في ظل ثورة ديمقراطية، بل نشأت في ظل الاستبداد والاحتلال، وعنف النظام الوحشي ضد الثورات. ولا شك لديّ في أنها قوى زائلة، بحكم مخالفتها منطق العصر والتاريخ، وتناقضها مع حاجات الناس ومتطلباتهم، وصدامها مع طبائع البشر في المجتمعات العربية المتمدنة".


وكون القديمي اختصر علينا جزءاً كبيرًا مما يجب أن يُكتب أو يقال، فإن السؤال الرئيسي والضروري، وأحاول هنا الإجابة عليه في مقالة "اعتبرها مكملة" هو: في أي سياق تشكلت داعش؟ لاستشراف مستقبل هذا التنظيم ومصيره.
ظرف الاحتلال .. من الجماعة إلى الدولة
لا نبتغي التفلسف، لكن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، والذي أعلن عنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2004 ليس هو ذاته جماعة "التوحيد والجهاد"، التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وإن كان امتدادًا لها.

كما أن دولة العراق الإسلاميّة، والتي أعلن عنها في أكتوبر/ تشرين الأول 2006، ليست تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين في صيغتها التطورية. والدولة الإسلامية في العراق والشام، التي أعلن عنها أبو بكر البغدادي في 9 إبريل/نيسان 2013، ليست دولة العراق الإسلامية، وإن بدت في صور كثيرة لها هي ذاتها، وكذلك هي الدولة الإسلامية أو "الخلافة الإسلامية"، والتي أعلنها أبو محمد العدناني 29 يوليو/تموز 2014. لكل حكاية من الحكايات السابقة سياق، يختلف عن الأخرى.

والسياق لا يرتبط فقط بظروف البيئة المحيطة والتوازنات القائمة، بل بالخلافات الفكريّة، التي عاشها التيار السلفي الجهادي منذ أفغانستان، وحتى اليوم وغلبة إحداها، لتصبح المحرك الرئيسي لسلوك هذا التنظيم الجهادي، أو ذاك، ولنهج قياداته.

كما أن تركيزنا على السياق يقودنا، مباشرةً، إلى نقطة تبدل الأعداء والحلفاء واختلاف تصنيفاتهم؛ تابع، مبايع، حليف مؤقت، استراتيجي، عدو حليف، عدو مسكوت عنه، عدو يؤخر قتاله، عدو قريب، عدو بعيد.

ويقودنا أيضًا إلى صراع " الأنا" و الـ"نحن"، والذي شغل التيار السلفي الجهادي على مدار عقود، وبلور اتجاهين. أولهما تقليدي؛ ونظر له أبو بكر ناجي في كتابه "إدارة التوحش"، يركز على مركزية التنظيم، وحصر العمل الجهادي تحت رايته، وبإشراف أميره المركزي. وثانيهما تحديثي؛ تبناه أبو مصعب السوري، في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية"، ويركز على فكرة الجهاد والمقاومة دون التنظيم وهيكليته، وعلى الحصيلة الحسابية للعمل الجهادي دون إيلاء اهتمام كبير بـ "إقامة الحكومة الشرعية".

للحفاظ على بقائه، استعان تنظيم الدولة بضباط عسكريين بعثيين، تبوأوا مناصب قيادية، كالعميد محمد الندى الجبوري، وحجي بكر.


وتحضر في سيرورة داعش التطورية كل هذه التباينات، والتي سوف نستعرضها سريعا، قبل أن نتوقف عند محطة الثورات العربيّة. بدايةً، من الصعب على الحركات الجهاديّة أن تعمل وتنشط في ظل نظام استبدادي- أمني، كالنظام العراقي السابق، أو النظام السوريّ، حتى إذا توفرت لها بيئات حاضنة. وبناء عليه، لا يمكن الحديث عن الجهاد والجهاديين في العراق إلا بعد الاحتلال الأميركي وتداعياته، وانهيار الدولة العراقية، وحالة الفوضى السياسية والأمنية التي سادت، والمقاومة التي نشأت ضد الاحتلال، وضمت عراقيين ومتطوعين عرباً، دفعتهم حميتهم لمواجهة الغزو، وجهاديين عرباً وأجانب، استقطبوا تحت عنوان "التصدي للغزو الصليبي".

فضمن هذه الظروف، زرع أبو مصعب الزرقاوي البذرة الجهادية الأولى؛ بتأسيس جماعة "التوحيد والجهاد"، وحدد هدفها الرئيسي بمساندة فصائل المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي- البريطاني. 

ولما وجد نفسه في تناغم وتطابق في الفكر والأهداف، "قتال العدو البعيد"، مع تنظيم قاعدة الجهاد، انضم الزرقاوي إلى التنظيم، وبايع أميره، أسامة بن لادن، وأصبح "أميرًا" لفرعه العراقي. لم يأت تأسيس فرع مستقل للقاعدة في العراق، تتمتع قياداته بصلاحيات واسعة، من فراغ، بل جاء ترجمة لأطروحة تبناها الظواهري، للتكيف مع المستجدات الدولية، بعد غزو افغانستان وفقدان التنظيم المقر الآمن ومعسكرات التدريب، وتتخلص في أن يحوز كل بلد نسخته الوطنية من "القاعدة".

وعلى الرغم من تبعيته، فإن خلافات ذات أبعاد أيديولوجية وتكتيكية واستراتيجية، طرأت بين قيادة القاعدة والزرقاوي، لا سيما بعد نزوع الأخير إلى جعل تنظيمه "مشروع سلطة"، وشحذه بمرتكزات فكرية تركز على الصراع الهوياتي (السني – الشيعي)، بدلاً من اطروحات القاعدة عن قتال العدو البعيد. 

وفي هذا السياق، مثلت دولة العراق الإسلامية، والتي أعلن عنها عام 2006، نموذجاً جهادياً مختلفًا، سعى أميرها آنذاك، أبو عمر البغدادي، إلى تطبيق "أحلام" الزرقاوي ومشروعه السلطوي، وأفكاره باستهداف الشيعة والمخالفين لأفكار التنظيم، فانتشر التكفير وعم القتل، وتوسعت الانتهاكات بحق كل من يثبت أنه لا يبايع أو لا يقدم الولاء والطاعة للتنظيم، مما دفع بن لادن نفسه إلى الاعتذار عن هذا النهج.

الطموحات السلطوية، ونهج "التوحش" و"النصرة بالرعب" وتوسع الانتهاكات ونفور البيئات الاجتماعية الحاضنة، وفّرت للولايات المتحدة فرصة سانحة للقضاء على التنظيم، فيما عرف بمشروع باتريوس، أو ما يسمى "الصحوات"، والذي انتهى بطرد تنظيم الدولة من معظم المدن العراقيّة، وعزله في الصحارى منبوذاً، واغتيال قادته، واعتقال كوادره، بحيث لم يعد للتنظيم خلال ( 2008-2010) أي تأثير عملياتي باستثناء مفخخاته، والتي استهدفت الأبرياء أكثر ما استهدفت الأميركيين والجيش والشرطة العراقية. ونتيجة لذلك، وللحفاظ على بقائه، استعان تنظيم الدولة بضباط عسكريين بعثيين، تبوأوا مناصب قيادية، كالعميد محمد الندى الجبوري، وحجي بكر ..إلخ.

تحول الثورات في ليبيا وسورية إلى العسكرة، شكل فرصة للحركات الجهادية، المتعطشة إلى الفوضى، لتعيد إنتاج نفسها في هذه الساحات.

سياق الثورات .. من بيداء العراق إلى دولة الشام

غداة انطلاقاتها، فوجئت الحركات الجهادية بالثورات العربية ونهجها السلمي ونجاحها "المؤقت" في تونس ومصر واليمن في تغيير الحكام، من دون إسقاط الأنظمة أو تغييرها. 

آنذاك، مثلت الثورات السلمية تحدياً للسلفية الجهادية، ولطروحاتها "العنفية" و"الانقلابية" للتغيير. كما أن حركات الإسلام السياسي بلورت أفكارها في إطار الدولة الوطنية "القطرية"، مما وجه ضربة قاسية للمفاهيم الأممية، وادعاءات الجهاديين بأن المسلمين يتوقون إلى دولة "الخلافة" التي تجمعهم.

ومن جديد، بدأ الجدل والنقاش ضمن التيار الجهادي عن الأساليب الواجب اتباعها للتكيف مع المستجدات الطارئة. ومن يراجع النقاشات الجهادية، وقتئذ، يلاحظ انزياح تنظيم القاعدة إلى التركيز على النشاط الشعبي، بدلاً من النخبوي، عبر ظاهرة "الأنصار"، كما حصل مع جماعة "أنصار الشريعة" التونسية في بدايتها. كما يمكن الإشارة إلى رسائل بن لادن المعروفة إعلاميا بـ "وثائق أبوت أباد"، والتي تدعو إلى اجتراح استراتيجيات مختلفة من أجل تحريض الناس، وتشجيعهم على التمرد على الحكام بشتى الأساليب، وفي مقدمتها الاحتجاج السلمي.

كل ما سبق، كان يؤشر إلى تغيرات عميقة في بنية تنظيم القاعدة وتفكيره، لا سيما وأن نماذجه الإقليمية فشلت في تقديم نموذجٍ جهادي ناجح. لكن مسار الربيع العربي وتطوراته، وتحول الثورات في ليبيا وسورية إلى العسكرة، شكل فرصة للحركات الجهادية، المتعطشة إلى الفوضى، لتعيد إنتاج نفسها في هذه الساحات.

ابتعد الجولاني عند تأسيس (النصرة) عن النماذج الجهادية السابقة وأساليبها، ولا سيما نموذج العراق المنفر.


وبخلاف سورية، لم تكن ليبيا ساحةً جاذبة للجهاديين، لأن التدخل العسكري الخارجي بداية ثوراتها، ولم يستسغ الجهاديون القتال في صف واحد مع عدو، "دول حلف الناتو"، يكفرونه ويقاتلونه. 

أما في سورية، فتوفرت للحركات الجهادية، وفي مقدمتها دولة العراق الإسلامية، جميع الظروف الملائمة للبدء بمشروع جهادي جديد؛ نظام أمعن في استخدام كل الأسلحة ضد الشعب المنتفض على حكمه، ميليشيات طائفية ارتكبت المجازر، انتقال الثورة بشكل شبه كامل إلى الكفاح المسلح، خروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام، بروز خطاب طائفي مضاد، تشكل فصائل إسلامية تنتمي إلى التيار السلفي الجهادي.

في هذا السياق، دخلت طلائع النصرة، بقيادة أبو محمد الجولاني، وبتكليف من أبو بكر البغدادي، إلى سورية أواخر عام 2011، لاستكشاف البيئات الاجتماعية المستعدة لقبول الخطاب الجهادي، والتغلغل فيها. ولما توطّنت بشكل سريع، مستغلة حاجة المسلحين السوريين إلى العون العسكري، وانتقلت من دون عوائق إلى خطوط القتال، أعلن الجولاني في 24 يناير/كانون الثاني 2013 عن تأسيس جبهة "النصرة". ونظرًا لمعرفته بسورية وبطبيعة مجتمعها، ابتعد الجولاني عند تأسيس "النصرة" عن النماذج الجهادية السابقة وأساليبها، ولا سيما نموذج العراق المنفر.


مثلت النصرة عند تأسيسها نموذجاً تجديدًيا في التيار السلفي الجهادي، يتبنى، إلى حد كبير، أفكار أبو مصعب السوري في كتاب دعوة المقاومة الإسلامية، فكانت فصائل وسرايا جهادية تجتمع على فكرة الجهاد، وتقاتل ضمن فهم "دفع الصائل ومقاومة العدو"، من دون أن ترفع عناوين عريضة، كإقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة. وعلى الرغم من تبعيتها الفكرية لمدرسة القاعدة، والتنظيمية لدولة العراق الإسلامية، فإن مؤسسها تجنب "المبايعة" الصريحة لأي منهما، وابتعد عن سلوكياتها في العلاقات مع المجتمعات المحليّة، أو في العلاقة مع الفصائل.

الجزء الثاني

ظر أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم دولة العراق الإسلامية، إلى جبهة النصرة، غداة تأسيسها على أنها "مشروع منقذ" لدولته، ومكمل لأحلامه السلطوية. وعندما حققت حضورا وانتشارا واسعين، وأصبحت من أقوى الفصائل المسلحة في سورية، اعتبرها "تهديدا" له ولدولته، ولاسيما أن نموذجها المناقض تماماً لتنظيمه حاز إعجاب ومباركة المنظرين والدعاة في التيار السلفي الجهادي، وفرض على زعيم "القاعدة"، أيمن الظواهري، التواصل مباشرة مع قيادتها من دون الرجوع إليه. في هذا السياق، ولخوفه من خطط أبو محمد الجولاني بالاستقلال التام عن تنظيمه، أعلن البغدادي في التاسع من إبريل/نيسان 2014 عن حل كلٍّ من "النصرة" و"دولة العراق الإسلامية" ودمجهما في إطار واحد سماه "الدولة الإسلامية في العراق والشام".

أحدث قرار الدمج انقسامًا بنيويًا في النصرة، فغالبية المقاتلين الأجانب "المهاجرين"، وفي إطار فهمهم لتراتبية البيعة (البغدادي مؤسس، والجولاني مبايع) بايعوا البغدادي، وانضموا للتنظيم الجديد، على الرغم من رفض الجولاني الدمج. وفي سبيل الحفاظ على تنظيمه، ووقف انشقاق المقاتلين عنه بحكم تراتبية البيعة، سارع الجولاني إلى مبايعة الظواهري (الظواهري مؤسس، والبغدادي مبايع) طالبًا منه التحكيم. لكن قرار التحكيم، والذي جاء لمصلحة النصرة، لم يوقف استنزافها وعزوف المهاجرين عنها، فخطاب البغدادي المحفز، والذي دغدغ آمال الجهاديين، وأحلامهم بإقامة الدولة الإسلامية، وتحكيم الشريعة كان أقوى وأكثر تأثيرًا من خطاب النصرة الذي ركز على المقاومة ودفع الصائل، وتأجيل تحكيم الشريعة وإعلان الدولة، بانتظار اجتماع أهل الحل والعقد. ولم ينتظر البغدادي طويلاً، حتى أوعز إلى مقاتليه باقتحام مقرات النصرة والاستيلاء على مخازنها والمناطق التابعة لها، بداية، ولاحقاً بمواجهة فصائل المعارضة والفصائل الإسلامية الأخرى، وفرض البيعة والولاء عليها، وإلحاق المناطق المحررة بدولته، وبمحاكمه الشرعية.

خلال عام 2013، توسع تنظيم الدولة في المناطق المحررة، نتيجة غياب إرادة حقيقة لمواجهته من فصائل المعارضة.

وجدير بالذكر أن ظروف العراق، أيضًا، واندلاع الاحتجاجات في المناطق السنية ضد استبداد المالكي، وحكمه الطائفي، منح التنظيم فرصة ليعاود نشاطه، وبشكل محدود، في مناطق الاحتجاجات، مستغلاً نقمة سكانها على الحكومة المركزيّة. خلال عام 2013، توسع تنظيم الدولة في المناطق المحررة، نتيجة غياب إرادة حقيقية لمواجهته من فصائل المعارضة. 
وفي تلك الفترة، تقاطعت الأهداف بينه والنظام السوريّ، فالتنظيم ولمحدودية قوته، لم يكن في وضع يسمح له بقتال النظام، أو النظام والمعارضة معاً، فاختار الطرف الأضعف، بشكل حقق مصالح النظام وأهدافه. في المقابل، امتنع النظام عن فتح مواجهة مع التنظيم، وساعده في مواقع عدة ضد قوات المعارضة لرغبته في إضعافها، وللتأكيد على روايته الإعلامية بأنه يواجه إرهابيين وجهاديين، وليقدم نفسه للغرب "شريكًا" أو "عضوًا" في نادي مكافحة الإرهاب، قبيل انعقاد مؤتمر جنيف 2. بيد أن فصائل في الجيش الحر، وعلى رأسها جيش المجاهدين وجبهة ثوار سورية، فوتت الفرصة على التنظيم والنظام معًا، وبدأت، وبالتنسيق مع دول إقليمية، بمواجهةٍ مسلحةٍ مع التنظيم، بداية العام الجاري، إثر محاولته السيطرة على معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية، سرعان ما انضمت إليها الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة. حُسمت المواجهة، في أيام قليلة، لمصلحة المعارضة، وطرد التنظيم من ريف حماة وإدلب ومدينة حلب ومعظم ريفها (باستثناء الريف الشرقي) ودير الزور، وبقي معزولا في مدينة الرقة وريف حلب الشرقي، من دون أن يمتلك فاعلية تذكر، تتجاوز دفاعه عن مواقعه. كما افتقد التنظيم، ولأول مرة، مند تأسيسه التواصل الجغرافي مع العراق، بعد أن طُرد مقاتلوه من مدينتي الميادين والبوكمال.

الطريق إلى إعلان الخلافة
يكاد يكون تنظيم داعش أكثر التنظيمات الجهاديّة حظوظًا، وبالطبع عندما نركز على "الحظ"، فإننا نتحدث عن سياقاتٍ خارجيةٍ، انعكست إيجابًا على التنظيم، فقد هيأت تطورات الأزمة السوريّة والعراقية، في الربع الثاني من عام 2014، المناخ المناسب لاستجماع قواته، وترتيب صفوفه من جديد، ليبدأ هجوما مضادا في المنطقة الشرقية من سورية، للسيطرة على آبار النفط، وتأمين التواصل الجغرافي مع العراق، والذي استغله، مع عوامل أخرى، سنأتي على ذكرها، لبدء الهجوم على الموصل 10 يونيو/حزيران 2014، وإسقاطها مع باقي مدن وسط وغرب العراق، وصولا إلى إعلان الخلافة الإسلامية 29 يوليو/تموز 2014. ومن أبرز العوامل التي ساعدت على إحياء التنظيم بعد انكساره:

•الانقسام ضمن الفصائل السورية على قتاله بين فريقين: الأول؛ يضم الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة، ولا يرغب في القضاء على التنظيم نهائيا، ويسعى من المواجهة إلى إضعافه وإجباره على قبول مبادرات التحكيم. والثاني؛ فصائل الجيش الحر الراغبة في استئصال التنظيم نهائيا، لكنها تفتقد القدرة وحدها على ذلك، ولاسيما أن الدعم العسكري الخارجي تراجع بعد شهر على بدء المواجهة.

كانت المواجهة المسلحة بين العشائر وحكومة المالكي مدخلاً لداعش إلى الساحة العراقية من جديد، ومن الباب الواسع هذه المرة.

•الانشغال عن قتاله: شغلت مواجهة تمدد التنظيم الفصائل السورية عن قتال النظام مؤقتا، وخلفت واقعا تستنزف فيه المعارضة باستمرار، مما جعل المعارضة تؤجل المواجهة معه، ريثما يتم درء خطر النظام في مدينة حلب وريفها، أو الحصول على دعم عسكري، أثبتت الأشهر الستة الماضية أنه تراجع بشكل كبير، وكأن إرادة دولية، أو إقليمية، لا ترغب في القضاء على التنظيم نهائياً في سورية. عدا عن ذلك، أفرز الصراع ظاهرة أمراء الحرب بشكل واضح، فهؤلاء، وخصوصاً في المنطقة الشرقية انشغلوا، إن لم نقل تفرغوا، عن الصراع بزيادة النفوذ وتجميع الثروات، أكانت من عائدات النفط، أو أساليب الخطف وفرض الأتاوات مقابل الحماية .. إلخ.
•سياسات المالكي، وانتفاضة العشائر: ساهمت سياسات نوري المالكي في العراق، والتي استهدفت مكونا اجتماعيا أصيلا وأساسيا في اندلاع احتجاجاتٍ سلميةٍ في المحافظات العراقية ذات الأغلبية السنية. وبدلاً من احتوائها والاستجابة لمطالبها، عاند المالكي حركة التاريخ، محاولاً إخماد هذه الانتفاضة بالقوة، فاقتحم ساحات الاعتصام، بذريعة مكافحة الإرهاب، ما استدعى ردًا مسلحًا من عشائر المنطقة توسع بتوسع عمليات الجيش العراقي. كانت المواجهة المسلحة بين العشائر وحكومة المالكي مدخلا لداعش إلى الساحة العراقية من جديد، ومن الباب الواسع هذه المرة. فلأول مرة، منذ الانسحاب الأميركي، يحصل تقاطع في الأهداف بين التنظيم والعشائر السنية، وهو ما استغله ليعيد طرح نفسه قوة عسكرية، تقف صفا واحدا مع المقاومة المسلحة الناشئة. وقد قوبل هذا التوجه بتحفظات من العشائر، سرعان ما أزيلت بعد استنساخ المالكي تجربة الأسد وقصفه المدن بالطائرات والبراميل المتفجرة والدبابات.
مستقبل داعش.. الإجابة مفتوحة
يفيدنا الاستعراض التفصيلي السابق في الوصول إلى نتيجةٍ مؤداها أن قوة داعش لا ترتبط بكفاءته العسكرية، أو حجم قواته، أو تخطيطه الاستراتيجي أو.. الخ، بل بظروف البيئة الداخلية والخارجية المحيطة في الساحات التي يوجد فيها.
"
الخلاص من داعش يفترض الخلاص من الأنظمة الاستبدادية بالدرجة الأولى، والتي تستحضر هذا "الوحش" وتخلقه.

"
بدا أخيراً أن تمدد داعش في العراق كان في بعض صوره "مصلحة" أميركية، لاسيما بعد أن أحكمت إيران، عبر حليفها المالكي، سيطرتها على هذا البلد، وأصبحت وصيا على حكمه. هدد تمدد داعش حكومة المالكي والعملية السياسية برمتها، وعرقل طموحات إيرانية اشتغلت عليها عقداً من الزمن، بإنشاء محور جيوسياسي تابع لها، تمتد جغرافيته من طهران وصولاً إلى شواطئ البحر الأبيض في سورية ولبنان. لذلك، كان تمدد داعش بمنزلة "عصا" أميركية ضد إيران والمالكي، تلوح به باعتبارها الوحيدة القادرة على مواجهته، من أجل فرض ظروف ومخرجات سياسيةٍ تقطع جذرياً مع فترة نوري المالكي.
يمكن القول إن انتصار داعش أو هزيمته في سورية والعراق يرتبط، الآن، كليا، بخيارات أميركا واستراتيجيتها. ولا شك في أن الولايات المتحدة، وإن غضّت الطرف عن تمدده سابقًا، لن تسمح له بالتوسع يهدد فيه مصالحها أو أمنها القومي. ضمن هذه الفلسفة، بدأت الضربات الجوية المحدودة في العراق، وأعلن عن تشكيل تحالفٍ دوليٍّ ضده بمجرد نجاح تشكيل الحكومة العراقية.

أما في سوريّة، فتبدو أميركا أكثر حذرًا لاعتبارات عدة، في مقدمتها حالة الفوضى المسلحة، وعدم وجود شريك منظم في المعارضة السورية، خصوصاً بعد أن استبعدت، مرحليا على الأقل، التعاون مع النظام السوري، وإعادة تأهيله طرفا في التحالف الدولي والإقليمي الذي تسعى لإنشائه.

يبقى أن مستقبل داعش وبقاءه، وخارج حسابات النصر والهزيمة، مرتبط بشكل مباشر بعوامل أخرى، أكثر أهمية من المواجهة العسكريّة الطارئة؛ فعهود التخلف والاستبداد، وغياب الهوية الوطنية الجامعة كانت "التربة الخصبة"، والتي نشأت فيها هذه الحركات ونمت وتغلغلت. وبناء عليه، إن بقاء النموذج الداعشي أو زواله على علاقة مباشرة بمآلات الثورات ومستقبل الدولة الوطنية العربيّة. وعلى اعتبار أن هذه الحركات، وكما وصف عزمي بشارة، لم تنشأ في ظل نظام ديمقراطي، بل نشأت في ظل أنظمة استبداديّة، اعتبرها برهان غليون قبل عقود في كتابه "بيان من أجل الديمقراطية" "احتلالاً داخلياً" حولت الشعب المسكين إلى شعب من اللاجئين، ليس في المناطق المحتلة، بل في أوطانهم، وحولت الأمة إلى "أمه من العبيد"، فإن الخلاص من داعش يفترض الخلاص من الأنظمة الاستبدادية بالدرجة الأولى، والتي تستحضر هذا "الوحش" وتخلقه، وتزج به في معركتها ضد الشعب، إذا ما نشد الحرية والتحرر والديمقراطية.

وأخيرًا، إن مواجهة الحركات الجهاديّة، وعلى رأسها داعش، تتطلب، قبل كل شيء، مراجعة عميقة لمفاهيم دينية سائدة، توظفها هذه الحركات في تثبيت "مشروعيتها" وحضورها. ولا يكفي الخطاب الديني التبريري لمواجهة هذه الحركات، والذي ينأى بالدين الإسلامي سياسياً عنها، بل يجب إخضاع المفاهيم والمصطلحات والفهم الإشكالي الذي تطرحه للمناقشة الجدية، وتحديثه بما يتواءم مع ظروف العصر. وبدون هذه المراجعة، نجد دائماً من يفكر بالرجوع بنا قروناً خلت، لم يتبقَّ منها، إلا ذاكراتها التاريخية، والتي تُستحضر في إطار كليّ لمواجهة حالة الاستبداد والتخلف القائمة.


عن الزميلة "العربي الجديد"
(140)    هل أعجبتك المقالة (138)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي