هو تاريخ نعود اليه نستذكره، نقرأ فصوله، ونتلمس منه الرأي والموقف والقرار. وبقدر ما ان التاريخ هو حضور في الواقع كذلك هو امتداد الى المستقبل.
هكذا حين نحيي كل ذكرى سنوية لرحيل القائد الخالد حافظ الأسد، وهي اليوم حاضرة في الذكرى الثامنة للرحيل. المسألة عموماً في أننا أمام حياة تتكامل على قواعد النهج والمبدأ والثوابت تستمد من كل ذلك قدرة الحركة المتواصلة وقدرة الفعل في حياة لا تستمر إلا به..
حين نستقرئ الحالة التاريخية التي امتدت ثلاثين عاماً مضت فمن المؤكد ان الحصيلة ليست في كلمات نختصر بها عقوداً مضت، فحافظ الأسد هو تلك الحالة التي بدأنا بها الساعات الأولى من تلك العقود ـ مرحلة جديدة في تاريخنا.
والذي يعود الى ما كانت عليه سورية وما آلت اليه سوف يجد كل ذلك حاضراً في تلك العملية التغييرية الشمولية التي أضحت عنوان المرحلة الجديدة.
لقد كانت سورية مشروع مجتمع تتآكله حالات الاضطراب والفوضى فانتقلت الى حالة المجتمع الوطني المتكامل القائم المبني على رؤية وطنية بقدر ما هو مبني على رؤية علمية تاريخية. وعلى هذه الرؤية نرى البناء الذي تحقق عبر تلك العقود، ومن خلالها نرى الوحدة الوطنية التي هي محصلة طبيعية لوحدة الانتماء المتحقق عبر تلك العلاقة عليها، نرى كل ذلك النهج، ونرى إطلاق الحريات واعتماد التعددية في الاقتصاد كما في العمل الوطني ونرى ذلك التأكيد الدائم على العقل وأهميته في تعميق التفاعل وصولاً الى تعميق الانتماء وتدعيم وتعزيز المجتمع القومي.. وبقدر ما هو متاح فكر الرئيس الخالد، فهو ليس سهلاً بالمقابل الارتقاء الى مدارجه بالقياس للظروف الصعبة والمعقدة التي أحاطت بالوضع العربي والدولي فغداة حزيران 1967.. الأمة المنهكة والوطن المثخن بالجراح وأخطار اليأس والقفز فوق الواقع، واقع الهزيمة وردود الفعل عليها واليأس الذي ضرب النفوس وكادت الغربة تفصم تلك العلاقة بين المواطن والوطن، بين الشعب والأرض، بين القضية والتضحية في سبيلها تقدم القائد الخالد وأعطى الصورة المغايرة.. رفض مطلق لليأس ووضوح في الرؤية والرسالة ـ رسالة مصدرها قواعد الشعب والأرض ورؤية المنطق فرفض التردد أو التفكير بغير استعادة الكرامة والأرض معاً ومن هنا بزغ الحلم والوعد وشخصية القائد في مرحلة هي من أحوج المراحل إليها.. ولأنها الأرض والكرامة والوطن قدم الى الشعب أوراقه بوضوح في 16 تشرين الثاني 1970 وكان الفعل وردة الفعل صورة تلاحمت فيها الأحلام والرؤية والعزيمة، فكانت ولادة تشرين 1973 ـ ولادة حديثة ليد تمتد الى كل الخيوط التي تتصل بالقضية وبالأمة والوطن لتجمعها من جديد وتمسك بها. وجاء الخالد حافظ الأسد رداً استراتيجياً على الهزيمة ورداً وطنياً وبعداً قومياً استراتيجياً قل نظيره. وتبقى الحاجة الى استحضار مآثره حاجة للاستمرار. ولهذا ومهما كبر الحديث عن الانجازات على الأرض يبقى التقصير وارداً ومهما كبر الحديث عن شمولية الربط بين الأمن الوطني والأمن القومي تبقى المساحة مستعدة لاستيعاب المزيد.. ولهذا وعند الحديث عن مآثر الرئيس الخالد يأتي في المقدمة وبشكل مباشر الحديث عن الأمن القومي العربي لأنه الحصن المنيع أمام ما يحاك من أطماع لهذه الأمة. ولهذا كان رحمه الله يربط دائماً بين الأمن الوطني والأمن القومي. وقوله: «عندما نكون أقوياء تقوى أمتنا العربية وإذا عزّت سورية عزّ العرب». وفي مضامين هذا الربط تحقق فعلياً الأمن الوطني القطري، وبتعزيز الوحدة الوطنية والبناء الداخلي على سائر الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فضلاً عن بناء القوات المسلحة. جاء كل هذا متكاملاً لم ينفصل في فكر القائد الخالد حيث لا كفاءة عسكرية دون قوة اجتماعية ودون تأهيل للانسان ولا هذا ولا ذاك دون قيادة سياسية واعدة وواعية..
لقد استطاع القائد الخالد ان يجعل من سورية تلك القاعدة الصلبة والمركز الفاعل لقيادة حركة الثورة العربية واثارة النزوع الوحدوي لجماهير الوطن العربي، وتجاوز عملياً اشكاليات المضمون والتماثل بين الأقطار العربية التي يمكن ان تعوق العمل الوحدي وذلك بأطر علمية ثورية واقعية لا تتوقف عند اخفاق بعض التجارب بل الدفع الى مزيد من النضال لصنع وحدة ناجحة أو حتى تضامن وحدوي يعزز مكانة الأمة في عالم لا حياة فيه لغير التكتلات الكبرى.. تجلى هذا التضامن في أبهى صورة في حرب تشرين التحريرية، تلك المحطة التاريخية التي لم يقف تأثيرها ومنعكساتها عند حدود المنطقة العربية وانما تعدتها الى الساحة الدولية، وادخلت تعديلات جوهرية على القواعد الأساسية للتكتيك والاستراتيجيا العسكرية. ولهذا أعد الأعداء والخصوم عدتهم للانقضاض على مآثر وانجازات تشرين وحمل القائد هموم الأمة في التصدي لتلك المخططات فكان ضوء الأمة، فكراً وموقفاً. وسمقت شخصيته ومكانته في قلوب الملايين التي انشدت اليه في سائر أرجاء الساحة العربية. وكان مثار احترام عالمي أقره له حتى الخصوم ومعيناً ثراً لا ينضب من العمل القومي تستقي منه الأجيال دروساً لا تنتهي.
فمن لبنان الذي أدرك القائد الخالد ما يتهدده لتنفيذ فصول تالية للتقسيم، الى القضية الفلسطينية، التي تعد أبرز مفاصل دور القائد رحمه الله.. وتعجز الحروف عن التعبير في هذا الحيز عما قدمه لفلسطين من مواقف جذرت قضيتها في أبعاد شمولية أعمق تأثيراً وأشد مضاء الى جبهة الخليج الأولى التي كانت جزءاً من الخطط التي وضعت للاجهاز على انتصارات تشرين وتحويل مسار الصراع والاستنزاف بعيداً عن ساحته الحقيقية.. الى أزمة الخليج الثانية التي كان القائد الخالد واعياً لأبعادها وافخاخها.. فنبه وحذر ولم يجامل أحداً في التحسب للعواقب الوخيمة وما يمكن ان يتعرض له الأمن القومي العربي من جرائها لولا استدراك في خيار صعب لوقف التداعي. كلها كانت ملفات ادرك بحسه القومي انها للتغطية على القضية الأساس «فلسطين» فقد اختار درب فلسطين دون أن يعبأ بالوعود لكي ينحاز عن ذلك الخيار فعد فلسطين وقضيتها من ثوابته القومية على أساس انها القضية المركزية في الانتماء القومي ولسان حاله يردد على الدوام وفي أكثر من مناسبه «القضية الفلسطينية هي القضية الأم».. لن نمكّن اسرائيل من النجاح ولن نمكن أحداً من عزل هذه القضية فهي قضيتنا.. وحول هذه القضية يدور نضالنا في هذا القطر بل ويدور نضال الأمة العربية..
كما قال أيضاً: «نحن على قناعة تامة ان اسرائيل ليست إلا صورة مشوهة ممسوخة لتلك الغزوات التي تعرض لها شعبنا وأمتنا عبر تاريخه الطويل ولن يكون مصير هذه الغزوة أحسن من مصير سابقاتها»..
وكما قوله: «إننا أصحاب قضية عادلة نكافح في سبيلها بكل ما نملك من قوة ونواجه العدوان والاحتلال بالصمود والتصدي. جولاننا عربي سوري ولن يكون إلا عربياً سورياً ولو كره الأعداء».. قال أيضاً: قضية فلسطين قضية عربية مصيرية ـ وهي جوهر الصراع مع العدو الصهيوني وان أبناء الأمة العربية وأقطارها جميعاً معنيون بها وملزمون بالنضال من أجلها وتقديم التضحيات المادية والمعنوية المطلوبة في سبيلها»..
وعلى قاعدة هذه المنطلقات لم يدخر القائد الخالد أي فعل من شأنه أن يخدم هذه الرؤية إلا وتقدم به بشجاعة القائد التاريخي وحتى في مجال السلام.
فلم يتراجع عن كلمة قالها أو وعد قطعه على نفسه من أجل فلسطين رغم الضغوط الهائلة التي قاومتها سورية ولا تزال.. فلم يعبأ بعقوق المهرولين الذين حاولوا تصغير القضية وتحويل أشرف نضال الى احتراف سياسي يعمل من أجل مصالح ذاتية، على النقيض ظل القائد العربي الخالد يرعى المقاومة بغير حدود ويشد على أزرها عند الشدائد وكم مرة لخص موقفه هذا بكلمات لا تزال تضيء سماء دمشق: «من أجل المقاومة الفلسطينية تضحيات سورية واضحة، تضحي بأبنائها، باقتصادها، بالأرض بكل شيء من أجل ان تستمر القضية الفلسطينية ومن أجل ان نسترد في نهاية الأمر أرضنا التي احتلت وحقوق شعبنا الذي شرد»..
من هنا يأتي القول إن ما بين المقاومة وحافظ الأسد أكثر وأكبر من ان يعبر عنه بكلمات وصفحات.. فالمقاومة التي ترعرعت على يديه في لبنان انجزت مهامها في تحرير معظم جنوبه وجعلت من لبنان دولة منيعة على الأعداء وتجربة عدوان اسرائيل في تموز 2006 خير دليل على رؤية وصوابية القائد الخالد من أن المقاومة هي اقصر طريق لتحقيق الانتصار والهدف.
واليوم نأخذ عبرة مما تزرعه المقاومة الفلسطينية من انجازات جعلت العدو الصهيوني يراجع حساباته كلها بعد ان أوصلته عنجهيته واستهتاره الى طريق سدته المقاومة والارادة الوطنية التي رأت في فكر القائد الخالد نبعاً لا ينضب تنهل منه الصمود والتضحية في سبيل الوطن.
ومن هذا كله ثمة سؤال يطرح نفسه هنا وهو هل يموت القائد التاريخي؟..
سؤال لطالما يخالج كل باحث في التاريخ الانساني فقد علمتنا الحياة ان ديمومة الوجود لا تقاس بعدد السنين التي يحياها القائد بل بقدر ما كرس وجسد من رؤى وواقع وآفاق، أضحت كلها مشروعاً لصاحب الرؤية التاريخية حافظ الأسد المختزل في مسار حياته وقيادته التاريخ العربي في أبهى تجلياته والمعبر عن روح هذا التاريخ وجوهره والمؤسس لمشروع نهضوي عربي باق حي في نسيج حياتنا وأفق مستقبلنا. فالمتتبع لمواقف ورؤى سورية في ظل قيادة الرئيس الخالد منذ عام 1970 لابد أن يلمس الحقيقة العلمية المؤطرة بوقائع الأحداث وشواهدها وهي أن فكر القائد وأثره في الواقع ورؤاه البعيدة المدى حفظت قدسية التاريخ العربي وصانت مضامين البعث النضالية وأسست لمدرسة نضالية. فقد عاش حافظ الأسد وهو يناضل لخلق واقع عربي وفق نشأته وتربيته البعثية القومية حيث لعبت سورية في عهده وفي ظل قيادته دوراً تاريخياً وجسدت رسالة إنسانية. ولقد أصاب السيد الرئيس بشار الأسد كبد الحقيقة التاريخية عندما أشار في خطاب القسم في السابع عشر من تموز 2000 إلى أن القائد الخالد قد هيأ لنا أرضية صلبة وأساساً متيناً وتراثاً عظيماً من القيم والمبادىء التي دافع عنها وبقي متمسكاً بها حتى انتقل إلى جوار ربه. وهي قيم ومبادىء استمر توهجها وسريانها في نهج التطوير والتحديث الذي تعيشه سورية وتبثه موقفاً قومياً وصموداً يستدعي الاحترام على امتداد الوطن العربي والعالم. بل إن جملة النهج، نهج حافظ الأسد ترجمه بدقة السيد الرئيس بشار الأسد في كلماته ومواقفه وكان صنواً أميناً وخلفاً عظيماً يقود دفة الوطن والأمة نحو مراحل أعمق بعداً ورؤية استراتيجية أكثر تأثيراً باتجاه لمّ الشمل العربي تحقيقاً لهدف صون الأمن القومي العربي.
لقد أكد قائد مسيرة الحزب والشعب السيد الرئيس بشار الأسد أن نهج القائد الأسد كان نهجاً متقدماً جداً والحفاظ عليه ليس بالأمر السهل ولاسيما أننا لسنا مطالبين فقط بالحفاظ عليه وإنما بتطويره وهذا يتطلب العمل والجهد على المستويات كلها بهدف البناء على ما تحقق في عهده الزاهر.. فلنعل البنيان ونضاعف الانجازات، مصممين على مواجهة الصعوبات ومواكبة العصر دونما التخلي عن ثوابتنا الوطنية القومية التي ترسخت في قلوبنا وعقولنا.. وبهذا وحده نقدم لقائدنا الخالد أفضل ما كان يتمناه ويطالب به ويحث أبناء الوطن من أجله.
فالتجربة المستمرة مع الرئيس الذي أغمض عينيه على فرح انتصار المقاومة في الجنوب اللبناني هي التجربة ذاتها التي بدأت مع السيد الرئيس بشار الأسد الذي استهل عهده بالانتصار للانتفاضة المستمرة في فلسطين.. وعلينا التذكر دائماً أن التجربة المستمرة ولدت وترعرعت في كنف بلد عظيم طالما أعطى الأمة دون حساب فسورية كانت ولاتزال مدرسة في الفكر القومي الناهض وكتاباً مفتوحاً للنضال قدمت على مذبحه قوافل الشهداء والمناضلين.. مدرسة البعث وتجربته النضالية الطويلة.
أقوال خالدة من قائد خالد
كي تكون سورية بحجمها الإقليمي والدولي الراهن كان يجب ألا نسقط في اقتفاء الأثر ولا نغرق في العزلة.
الأرض هي الوطن والكرامة والشعب وهي الحياة، والبناء يكون للتاريخ الطويل وليس لمرحلة محدودة..
إن أطماع إسرائيل في بلادنا ووطننا العربي عموماً لا توقفها التمنيات ولايضع حداً لها إلا النضال الدؤوب الفعال البعيد المدى.
تؤكد إسرائيل في كل وقت أنها كيان عدواني توسعي، وأنها تسير على خط معاد للتاريخ، وهي حريصة دائماً على أن تمثل القاعدة الفكرية والعقائدية للفاشية رغم أن قواعد الفاشية تتحطم في كل مكان.
الديمقراطية لا تعني الفوضى السياسية، ولكنها تعني توفير أفضل الظروف التي يتمكن خلالها المواطن من تحقيق الاختيار الحر بما في ذلك اختيار ممثليه.. ومن القيام بكل ما يخدم الوطن والشعب. وأن الديمقراطية تتطلب التنظيم الذي يوفر الحرية ويصونها.
من أجل المعركة، من أجل تحرير الأرض، كان علينا أن نؤكد على حرية الفرد
الحرية هي حرية خلاقة مبدعة في إطار ضوابط وقواعد يقرها الشعب بمجموعه، وإلا أصبحت فوضى وأصبحت اعتداء وعدواناً على كل فرد من ابناء الأمة.
ستظل الحرية علماً في بلادنا وسنظل أحراراً أقوياء في هذا البلد...
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية