أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الجغرافيا الحيوية لدولة الخلافة الاسلامية ... د. مخلص الصيادي

دعوات للتفكير والحوار 2 

مدخل
حالة من الهستيريا طغت على عواصم العالم الغربية منذ أن أعلنت دولة الشام والعراق الاسلامية " داعش" تحولها الى "دولة الخلافة الاسلامية" ، وتعززت هذه الحالة في مواجهة التقدم الذي حققته هذه الدولة في معاركها ضد السلطات العراقية واستيلائها على مناطق شاسعة من العراق، وقيامها بعمليات إعدام وإكراه ديني للأقليات، وتهديدها لسلطة الأكراد في شمال العراق، وذهبت هذه الحالة إلى أقصاها مع إقدام القائمين على هذه الدولة على إعدام الصحفيين الأمريكيين جيمس فولي، وستيفن سوتلوف ونشر التسجيل المصور الخاص بذبح كل منهما، ووضع الرهينة البريطاني ديفيد كوثرون هاينزعلى قائمة الذبح.
ومما لاشك فيه أن قتل هؤلاء الرهائن وأمثالهم جريمة لا تغتفر سواء نظرنا إلى هذا الفعل من وجهة نظر القانون الدولي، أو نظرنا إليها من وجهة نظر الشرع الإسلامي، فمثل هؤلاء الضحايا بحكم مهنتهم خارج نطاق الصراع، ليسوا جزءا منه، ولا يخدمون بعملهم الإعلامي أي جانب فيه، ولا يحملون أي سلاح أو أداة يدافعون فيها عن أنفسهم، فهم بذلك عزلا، مثلهم كمثل العاملين في مجالات الاغاثة الانسانية والطبية.
ومما لاشك فيه أن قتل هؤلاء ذبحا يستهدف وبشكل مباشر الإرهاب، إرهاب الآخرين، وإظهار الطبيعية العنفية المتوحشة والحاسمة لدولة الخلافة هذه، ويبدو أن الدافع إلى هذا النوع من الإرهاب اعتقاد بأن من شأنه أن يوصلهم الى أهدافهم بشكل أسرع، وأن يظهر جديتهم وحسمهم، وإسقاطهم لكل الاعتبارات والحدود والقيم. ولعله مفيد أن نشير هنا إلى أننا شاهدنا قبل ذلك قتل وذبح صحفيين أمريكيين في باكستان وفي جنوب الفلبيين، وفي الصومال، وقتل رهائن غربيين في الصحراء الإفريقية الكبرى، وفي أماكن أخرى من العالم، وكان لكل هذه الأفعال ردود فعل إلا أنها بقيت محدودة، بالزمان والمكان والفاعلية. 
لذا فإننا نقول إن كل ما سبق لا يقدم تفسيرا مقنعا لرد فعل النظام الدولي على ولادة دولة الخلافة الإسلامية وما قامت به من أعمال. 
قد كان يكفي وزيادة ما قامت به الولايات المتحدة ودول غربية عدة ومعهم ايران والنظام السوري من تسليح ودعم للقوات الكردية، والجيش العراقي، والقيام بعمليات قصف جوي ممنهج لمواقع الدولة الإسلامية، وقد أدى ذلك كله الى تغيير في موازين القوى على الأرض بين الجانب العراقي على مختلف مسمياته، وجانب دولة الخلافة الإسلامية.
لكن رد الفعل الدولي ذهب بعيدا وسريعا ووصل إلى حد العمل المباشر لبناء تحالف دولي واسع يضم بشكل أساسي دول حلف شمال الأطلسي" الناتو" ودول عربية عدة للقيام بمواجهة عسكرية حاسمة مع الدولة الإسلامية.
وبني رد الفعل هذا على إقرار الولايات المتحدة بلسان رئيسها، وقادة الدول الغربية وقيادة حلف الناتو بأن المعركة من دولة الخلافة الإسلامية ليست معركة أسابيع ولا أشهر، وإنما هي معركة طويلة، ولا تقتصر على الجانب العسكري وإنما تمتد إلى جوانب أخرى، وعلى أن تهديد الدولة الاسلامية لا يقتصر على دول المنطقة وإنما يمتد الى العالم بأسره وإلى كل دولة فيه، مما يستدعي موقفا من مجلس الأمن يدعم هذا التحرك ويشرعنه، بعد أن اتخذ المجلس قراره باعتبار تنظيم الدولة الإسلامية تنظيما إرهابيا.
في هذا المقال محاولة لرسم الحقيقة الواقعية لدولة الخلافة الإسلامية: عناصر القوة والضعف فيها، وكذلك تحليل دور النظام الاقليمي والدولي في توفير هذه العناصر، أي في توليد ودعم عناصر القوة أو عناصر الضعف في هذه الدولة.
لكن قبل البدء في بسط هذه المحاولة لابد من تثبيت حقيقتين لا يجوز إغفالهما أبدا:
** الحقيقة الأولى: أن تحالفا واسعا قويا هائل التسليح، رافقته عملية احتلال للأرض، وامتد على مساحة زمنية تجاوزت الإثنا عشر عاما، لم يستطع أن ينهي حركة مقاومة واحدة، ولم يستطع أن يخضع لإرادته مجتمعا واحدا، ويبدو هذا التحالف الآن في مرحلته الأخيرة.
وما خلفه هذا التحالف في واقع الأمر، رسوخا أكبر لقوة المقاومة، ودمارا أكبر في بنية البلد المحتل، وانقساما طائفيا وعرقيا أكثر غورا في هذا المجتمع، وعشرات الالاف من القتلى بين المدنيين بنيران قوات التحالف،وبالتالي انعداما للأمن والسلام.
هذه الحقيقة ماثلة أمامنا في أفغانستان، حيث هزم التحالف الغربي سواء اعترفت الولايات المتحدة بذلك أو استكبرت، وسواء أقر حلف الناتو بهذه النتيجة أم عاند، وصارت حركة طالبان أرسخ وأقوى، وظهر أن جميع القوى التي تعاونت مع المحتل الأمريكي عبر السنوات الماضية كلها دون استثناء ضعيفة مهترئة فاسدة.
وهذه الحقيقة تطرح السؤال: هل تتوقع الولايات المتحدة أن تبني تحالفا عالميا ضد دولة الخلافة الاسلامية أقوى وأكثر فاعلية من التحالف الذي بنته لحربها على أفغانستان، وهل تتوقع أن تذهب معها الدول التي ستشاركها هذا الحلف بعيدا كما ذهبت في أفغانستان وهي ما تزال تحمل عبء تلك الحرب وذكرياتها ومآسيها وخيباتها.
** الحقيقة الثانية: أن دولة الخلافة الإسلامية المعلنة لا تمثل في حقيقة الأمر فكرة الخلافة في الإسلام، ولا واقعها التاريخي، ولا تنتمي في أحسن الأحوال إلا إلى هذه الفرقة أو تلك من فرق الخوارج.
وهي لا تعتبر نفسها مُصلحة لشأن الحكم والخلافة، وإنما مؤسسة لهما من جديد، أي أنه لا ينطبق عليها وصف الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الخلافة الراشدة ثلاثون عاما ثم تكون ملكا عضوضا، ثم ملكا كسرويا إلى ما شاء الله، ثم تعود راشدة، " انظر الروايات المختلفة لهذا الحديث بالفاظه في مظانها في كتب السنن، ورواية مسلم: ستكون خلافة نبوة و رحمة ثم يكون ملك و رحمة ثم يكون ملك وجبرية ثم يكون ملك عضوض"، لأن الأوصاف الذي جاء عليها الحديث النبوي أوصاف لتحول داخلي في دولة المسلمين، تنحرف حينا وتعود حينا، لكن ما تدعو إليه هذه الدولة هو خلق جديد للخلافة، وفي تصور جديد لها.
وكذلك فإنها تمثل فارقا نوعيا عن الأشكال المختلفة لممارسة التنظيمات الاسلامية المسلحة للقتال والمواجهات في مختلف الساحات مع القوى والدول المعادية لها، وهذا الفارق النوعي يتمثل في "خلق وطن" للمقاتلين يدافعون عنه.
ثم إن هذا الوطن مرتبط بسلطة وليس بمجرد أرض وجغرافيا، أي أنه وطن عقدي يفترض أنه يمثل دارا لكل المسلمين في كل أنحاء الأرض هم مدعوون للهجرة إليه، كما أنهم مدعوون للدفاع عنه، وهو في المقابل يعتبر نفسه ممثلا لهم ومدافعا عنهم. 
وبهذا المعنى فإن هذه الدولة لا تنتمي إلى عالم اليوم، ولا قوانينه، ولا مؤسساته، وهي تدعي أن الشريعة هي معيارها، لكن الشريعة التي يراها منظروها، وليس الشريعة التي طبقتها الأمة على مدى قد يغطي خمسة عشر قرنا، وبذلك فإنها تخلق على الفور فاصلا قاطعا بين المنتمين إليها وبين هذا العالم، وتضعهم في موضع العداء للعالم الخارجي.
والمسلمون التي تتوجه اليهم هذه الدولة هم بالتحديد العام المسلمين السُنة، وفي التحديد الخاص " الطليعة القائدة والمجاهدة" للمسلمين السنة أي السلفية الجهادية، ومن على شاكلتها".
إنها بهذا الشكل ومنذ اللحظة الأولى أخرجت الشيعة والخوارج والصوفية والفرق الاسلامية الأخرى من بوتقة الإسلام، وحولتهم إلى أعداء، وهو أمر لم يشهده تاريخ الدول والمجتمعات الإسلامية من قبل.

جغرافية الأرض في الدولة الإسلامية:

في أقصى مساحة وصلت إليها دولة الخلافة الإسلامية الممتدة بين العراق والشام، فإن مساحتها تجاوزت ضعف مساحة سوريا، وهي تغطي أغلب المنطقة الممتدة بين حلب والموصل، وهذه المساحة تنقص وتزيد حسب مجريات المعارك وتطوراتها.
لكن الحديث عن جغرافية الأرض لا يمكن أن يحدد بمثل هذه المساحة على سعتها، بل إن مثل هذه التحديد يجعل أرض هذه الدولة صغيرة، وضعيفة، وممكنة المحاصرة، والنظر إلى جغرافية هذه الدولة يجب أن يمتد الى أبعد من ذلك.
وإذا كانت الجغرافيا هذه تعني الأرض التي تمارس عليها الدولة سيطرتها وسيادتها، فإنها بهذا الاعتبار تغطي الآن مساحات واسعة ومترامية الأطراف من الصحراء الأفريقية الكبرى وسيناء ونيجيريا والصومال إلى مناطق من باكستان وأفغانستان، والفلبين وأندونيسيا، إن هذه كلها جغرافيا لدولة الخلافة الاسلامية سواء أعلنت المنظمات الإسلامية "الجهادية" العاملة فيها تبعيتها للدولة الاسلامية أم لم تعلن بعد، وما لم يستوعب أي حديث عن جغرافية هذه الدولة هذا البعد فإنه سيبقى حديثا ناقصا وضعيفا ولا يستطيع أن يرى حدود هذا الصراع وتطوره ولا قواه. 
وهذه الجغرافيا الممتدة تمد دولة الخلافة الإسلامية بمساحات جغرافية من الصعب حصرها، كما تمد حركة الدولة بمرونة وقدرة على المناورة يصعب محاصرتها.
إن بإمكان رجالات هذه الدولة، وعلى رأسهم خليفتها الانتقال عند الضرورة إلى أي من هذه المواقع، وممارسة سلطاته منها، والتحرك فيما بينها وفق الاحتياجات، ووفق المصالح التي تفرضها طبيعة كل مرحلة. 
الجغرافيا البشرية للدولة الإسلامية

والحديث عن العنصر البشري في الدولة الإسلامية هو حديث عن صلب القوة فيها، وهو واحد من محددات جغرافية الأرض لكنه أوسع منها مدى، وأكثر منها مرونة وقدرة على التحرك والمناورة.
إن كل "الجهاديين" في مختلف أصقاع العالم يكًونون الجغرافيا البشرية لهذه الدولة، الأفراد، والمنظمات، والدعاة. والحديث عن آلاف المتطوعين من الدول الغربية للقتال مع هذه الدولة في العراق والشام، هو حديث عن جزء من الصورة، أما الصورة ببعدها الحقيقي فإن أعداد هؤلاء غير قابلة للحصر.
وسيبدو سخيفا إلى أقصى حد القول بأن هؤلاء المتطوعين إنما جاؤوا بحثا عن مكسب مادي أو دنيوي، أيا كانت طبيعة هذا المكسب، أو أنهم جاؤوا يدفعهم اليأس والفراغ، أو الجهل والتخلف الثقافي والفكري، فكل هذه دعايات سوداء لا تجدي نفعا في الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة، أو في محاولة إدراكها وفهم مكوناتها، وهي مما يتداوله الإعلام الأجوف الذي لا يملك القدرة على مواجهة الحقائق، ويتوقف دوره على عملية الترويج لما تريده هذا السلطة أو تلك. 
إن منظمات شباب المجاهدين الصومالية، وكتائب بلمختار الجزائرية، وطلائع بيت المقدس المصرية، وبوكو حرام النيجيرية، وأنصار الشريعة في تونس واليمن وليبيا وقاعدة الجهاد وكتائب المجاهدين ومنظمات السلفية الجهادية في غير مكان من هذا العالم، وكل التشكيلات التي تعمل تحت لواء القاعدة، كلها تصب في إطار الجغرافيا البشرية لدولة الخلافة الإسلامية، ولا يهم كثيرا ما إذا كانت هذه المنظمات قد أعلنت تبعيتها وبايعت دولة الخلافة أم لا فهذا التطور مجرد مرحلة أو خطوة، إذ أن التبعية الروحية والعقدية متوفرة، أما التبعية التنظيمية والحركية فذات ارتباط بظروف الزمان والمكان، وليس مفيدا أو مهما الحديث عن خلافات بين القاعدة وتنظيم الدولة الاسلامية أو بين هذا التنظيم وجبهة النصرة، فهذه كلها مسائل شكلية لاقيمة لها في هذا الاطار.
بل لابد أن نلاحظ أن التنظيمات الإسلامية التي تنادي بالخلافة, والتي لا تتخذ من القتال والدعوة اليه سبيلا لها مثل حزب التحرير الإسلامي وحركة الاخوان المسلمين، وحركات صوفية متعددة باتت تستنزف وتمثل بيئة لتحرك القوى الجهادية ولاكتساب المزيد من الجهاديين من أعضائها.
إن أعضاء من هذه التنظيمات مستعدون في أي وقت للانتقال إلى صفوف دولة الخلافة الإسلامية، والقتال معها ولأجلها، هذا أمر لا شك فيه، ومن هذه الزاوية فإن تدفق القوة البشرية من هذه الدول والمجتمعات الإسلامية متحقق، ويؤمن لهذه الدولة مخزون قوة تستطيع الاستناد إليه في مسار معاركها. ويجب أن نلاحظ أن هذا المخزون، ليس مخزونا أوليا خاما، يحتاج إلى جهد لإعداده وتهيئته، وإنما هو مخزون فعال جاهز للعطاء والمشاركة، فهو إضافة حقيقية فورية، أي قوة قتال جاهزة، وهو إضافة إلى ذلك قوة علمية ومعرفية وتقنية متنوعة المصادر والتجارب والبيئآت، مما يوفر تنوعا في الخبرات تعز على الكثير.

وللجغرافيا البشرية بقية 

ولا تكتمل صورة الجغرافيا البشرية لدولة الخلافة الاسلامية إلا بالوقوف على هذا السيل البشري من المتطوعين القادمين من الدول الغربية للمشاركة في القتال مع الدولة الاسلامية ودفاعا عنها.
المعلومات المتوفرة والمتعددة المصادر تختلف في تقدير اعداد المقاتلين الأجانب الذين انضموا للقتال في سوريا والذين يعتبرون مجندين في صفوف الدولة الاسلامية فقد اشار المركز الاقليمى للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة الى عشرة آلاف مقاتل فيما قدر جيمس كلابر مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية في يناير الماضي عددهم بسبعة الاف مقاتل أتوا من خمسين دولة.

وكشفت صحيفة الديلي ميل البريطانية عن وجود ما يقارب 1500 بريطاني منضمين لداعش، وذهبت الشرطة الأوربية " يوروبول" إلى أن عدد المواطنين الأوروبيين المشاركين في القتال الدائر في سوريا حتى نهاية عام 2013 يتراوح ما بين 1200 ـ 2000 شخص، وقدر عدد المقاتلين من اوربا بأربعة آلاف، ونشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى دراسة تشير إلى أن عدد المقاتلين الأجانب الذين دخلوا إلى سوريا يتجاوز التسعة آلاف شخص من ثمانين دولة، وهم بذلك يفوقون بمستويات عدة أولئك الذين اتجهوا إلى العراق وأفغانستان، إذ اتجه إلى أفغانستان خلال ثلاثة عشر عاما ما بين 1979 ـ 1992 نحو خمسة آلاف شخص، وإلى العراق بين عامي 2003 ـ 2007 أربعة آلاف شخص، ما يجعل التجنيد لسوريا أكبر عملية تجنيد لمقاتلين أجانب في التاريخ الحديث، 
ومما لفت نظر الدارسين أن أعمار هؤلاء المقاتلين الملتحقين في سوريا تتراوح بين ثمانية عشر وتسعة وعشرين عاما، في حين كانت أعمار المجاهدين الأجانب في أفغانستان كانت تتراوح بين خمسة وعشرين عاما وخمسة وثلاثين عاما.
لا تكتمل صورة هذا الجانب من الجغرافيا البشرية إلا بالتذكير أن عدد المسلمين في اوربا دون حساب تركيا قد بلغ وفق دراسة متخصصة بشؤون الأقليات 45 مليونا، معظمهم في منطقة البلقان، لكن هناك نصيب وافر في أوربا الغربية، إذ يوجد في فرنسا قرابة خمسة ملايين مسلم، وفي المانيا اربعة ملايين مسلم، وفي بريطانيا ثلاثة ملايين مسلم،وفي هولندا مليون مسلم، وهؤلاء جميعا يمثلون خزانا بشريا للإسلام في أوربا، قد يشكلون بيئة حاضنة لفكرة الدولة الاسلامية ومولدة لحركة الانتصار لها، خصوصا في ظل سياسات تمييزية يعيشها هؤلاء، ويعاني منها خصوصا أجيال الشباب، ومن الطبيعي أن تزداد سلبيات هذه السياسات في ظل خطط هذه الدول لمواجهة تحدي الصراع مع الدولة الاسلامية. 
وتمتاز هذه الجغرافيا البشرية المتممة بأنها شديدة الحيوية، والفاعلية في مجرى الصراع إذ أنها تحمل أربع مزايا قد لا تتوفر في غيرها:
1ـ فهي بنت المجتمع الغربي تعرفه: لغة، وقيما، وأساليب تفكير، وتعرف نقاط الضعف فيه، ونقاط القوة.
2ـ أنها في الغالب قوة شباب متعلم على منهج العلم في هذه الدول لذلك فإنها توفر للدولة الإسلامية أساسا معرفيا وتقنيا لا يستهان به، خصوصا في إطار التعامل مع وسائط الإعلام والتواصل وصناعة شبكات تفاعل عالية المستوى.
3ـ أنها قوة بشرية سائلة، تنتقل بين مواقع الدولة الإسلامية ودولها الأصيلة دون عوائق، وبالتالي فإنها قادرة على نقل المعركة إلى داخل تلك الدول في أي لحظة، وبسبب هذه الطبيعة السائلة فإنه من الصعب تقدير حجمها وتطور هذا الحجم، وقد دلت الوقائع ان العديد من هؤلاء عادوا إلى بلدانهم الأصلية، وذهب غيرهم الى الدولة الاسلامية ... وهكذا. 
إن واقعة مهدي نموش الفرنسي الجزائري الذي نفذ الهجوم على المتحف اليهودي في بروكسل في 24مايو 2014 تكشف بصورة جلية هذه القيمة المميزة لمثل هؤلاء، لقد تبين لاحقا أن نموش كان في داعش، وأنه كان مسؤولا عن الفرنسيين الأربعة الذين كانت داعش تحتجزهم في سوريا، والذين عادوا إلى بلادهم في 19 إبريل في صفقة تبادل مع داعش، وكان شديد العنف والقسوة في التعامل مع الرهائن.
وإن مما لفت اهتمام الباحثين أن جذب الدولة الاسلامية لهذا النوع من المتطوعين فاق كثيرا ما تم خلال ما عرف بحرب المجاهدين في افغانستان، وما تم خلال الحرب ضد المحتل الأمريكي في العراق، ولعل مثل هذه الملاحظة لا تكون مفهومة إلا إذا اعتبرنا أن في الأولى والثانية كان بمثابة تهيئة وتوطئة لهذا الذي نشاهده في الدولة الإسلامية، إضافة إلى حقيقة أن الارتباط مع الدولة الإسلامية يختلف في جوهرة بالارتباط مع حركة المجاهدين في افغانستان، أو حركة المقاومة في العراق، إذ في الموقعين المشار إليهما، كانت العملية لا تتعدى الانخراط في مواقع مقاومة ومواجهة، بينما هي مع الدولة الإسلامية تعبير عن الانتماء إلى هذه الدولة، والهجرة إليها، واتخاذها وطنا، إن هذا فارق جوهري يجب أن نعي أبعاده. 
4ـ أنها قوة شبابية طموحة تتطلع إلى فرض قيمها الدينية في المجتمعات التي تعيش فيها، وبأساليب القوة التي تنتهجها الدولة الإسلامية، مما يعني استعدادها لنقل المعركة ـ بهذا الدافع ـ إلى داخل مجتمعاتها الأصلية.
وفي مطلع سبتمبر قدمت حادثة "الشرطة الشرعية" في مدينة "فوبرتال" بغرب ألمانيا بوادر لمثل هذا التطور، فقد أفادت الشرطة الألمانية بأن " إسلاميين متطرفين ظهروا مرارا في شوارع المدينة وهم يرتدون سترات برتقالية كتب عليها " شرطة الشريعة" وأن هؤلاء نظموا دورات ليلية في أرجاء المدينة لمراقبة السلوكيات فيها وحضوا السكان على " الصلاة والاقلاع عن المشروبات الكحولية"، ورد وزير الداخلية الألماني توماس دس ميزير بأن حكومته لاتقبل بظهور ما سمي بشرطة الشريعة وستتحرك ضدها، وقال وزير العدل الألماني هايكو ماس إن المانيا دولة قانون، وإن الدولة هي المسؤولة عن تطبيق القانون ... وإن بلاده لن تسمح بوجود نظام عدالة مواز للنظام القائم. 

جغرافية الثروة: التمويل والتسليح

وهذه واحدة من أهم عوامل القوة في أي دولة أو جماعة، ومن أهم ضرورات أي تحرك يتطلع إلى إنجاز حقيقي، في معركة كتلك التي تدخلها دولة الخلافة الإسلامية.
لنضع جانبا التمويل القادم عن بيع النفط المستخرج من المناطق التي دخلت تحت سيطرة داعش قبل أن تتحول إلى دولة الخلافة الإسلامية، فهذه السيطرة وفرت ثروة لاحقة، وليست أصيلة، وهي مصدر غير مستقر قد يفتقد في أي لحظة وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه وجودا ولا يمكن اعتماده في تفسير مصادر تمويل التنظيم. 
كذلك لابد من التساؤل الجدي عن التسليح، عن القدرة التسليحية التي برزت فجأة عند هذه الدولة.
والقول بأن هذه القوة نتاج مستودعات الأسلحة التي استولت عليها داعش في معاركها مع الجيش السوري والجيش العراقي قول لا يوفر إجابة مقنعة، لأن الأصل أن نبحث في مصادر التسليح والتمويل الذي وفر إمكانية الانتصار على هذه القوات، ومكن مقاتلي هذه الجماعة من السيطرة على تلك المستودعات.
هل يمكن النظر إلى قطر كدولة ممولة، وهو اتهام صدر في لحظة غضب عن وزير المساعدة الإنمائية الألماني جيرد مولر يوم 19 / 8 ثم ما لبث أن تراجع عنه، وقدمت المانيا اعتذارا لقطر بشأنه.
والذي يمحص في هذا الزعم لا يستطيع أن يتبين وجود دلائل جدية له، ذلك أن قطر لا تستطيع أن تجاري مثل هذا التنظيم، ولا أن تتحمل عواقب العلاقة معه، فدولة قطر خزينة مال هائلة لكنها مضبوطة بقواعد وعلاقات وسياسات متصلة مباشرة بالولايات المتحدة، لا تستطيع أن تتجاوزها، ولا تملك حرية التصرف إزاءها.
هل تعطي أموال الفِدى التي أخذت في صفقات الإفراج عن الرهائن جوابا على سؤال التمويل كما تحاول جهات عدة أن توحي به؟. الحق أن هذا الجواب أقرب ما يكون إلى ذر الرماد على العيون حتى لا نبحث عن المصدر الحقيقي، أو حتى لا نبقي السؤال على طاولة البحث، فكل الأموال التي تم الحصول عليها عن هذا الطريق أقل من أن تكفي مستلزمات تحرك مثل هذا التنظيم لشهر واحد. 
هل يمكن البحث عن شبكة أثرياء مسلمين يدعمون مثل هذه الحركة، ويوفرون لها هذا التمويل الكبير الذي يمكنها من تأمين احتياجاتها؟. قد يكون هذا أحد السبل لكنه أعجز من أن يوفي لوحده احتياجات التنظيم، كذلك فإن القيود التي وضعتها الولايات المتحدة والنظام العالمي لتحرك رؤوس الأموال عبر مختلف أقنية التحويل تعيق بشكل حقيقي أي عملية تمويل مستمرة وفاعلة.
الأمر يحتاج إلى دولة قادرة وذات مصلحة إقليمية ودولية في توفير الاحتياج الرئيسي في التمويل والتسليح لمثل هذا التنظيم.
دولة تستطيع أن تفعل ذلك دون أن تخشى عواقبه، أو أنها تفعل ذلك في إطار تفاهم دولي أوسع مدى، يوفر لها الحماية من عواقب هذا الأمر.
لقد وفرت إيران هذا الأمر لحزب الله في لبنان، فاستطاع أن يفعل وينجز ويحقق ما أراد، وما طالبت به ايران .
وفي مثل حزب الله لم تعد تكاليف التمويل والتسليح ذات شأن إذ أصبحت جزءا من ميزانية وتكاليف وإنجازات الدولة الإيرانية. إن هذا لا يعني أن حزب الله لا يقوم بجمع تبرعات أو التزامات مالية من أعضائه وأنصاره ومؤيديه، لكن هذه كلها لا تعني شيئا حاسما في ميزانيته العامة وميزانية التزاماته، كذلك فإن أي تمويل يمكن أن يحصل عليه لا يمكنه من الحصول على التسليح الضروري، هذا التسليح توفر كما هو معلوم من إيران، وعن طريق النظام السوري.
هذا بالنسبة إلى حزب الله، فمن قام ويقوم بدور إيران تجاه تنظيم الدولة الإسلامية.
من يوفرالمال؟!،
ومن يوفر السلاح؟!،
ليس البترول، ولا الفدى، ولا التبرعات والزكوات، ولا مصادرات الأسلحة، مصدرا للتمويل والتسليح، هذه حقيقة يجب أن تكون راسخة، فمن أين يأتي هذا التمويل والتسليح؟.
إن الأمر يحتاج إلى بحث حقيقي، لا يستثني أحدا من القوى الإقليمية الفاعلة، أو من القوى الدولية المتأثرة بمجريات الأحداث في المنطقة، أو من القوى الدولية التي تملك خططها في هذه المنطقة لآفاق بعيدة. 
نحن نعلم أن قوى المعارضة السورية العاملة في إطار الائتلاف الوطني، وقبله في إطار المجلس الوطني، حصلت على دعم مادي سخي من قطر ومن المملكة العربية السعودية، مع ذلك فإن هاتين الدولتين لم تستطيعا تأمين تسليح ذي قيمة للمقاتلين في سوريا، ذلك أن السلاح النوعي وإن توفر لدى هذه الدول فإن انتقاله الى غيرها مرتبط باتفاقات التسليح نفسها، وهي لا تملك الحرية في التصرف فيه، ولا تملك الإرادة في تجاوز شروط التسليح، أو الالتفاف عليها.
فكيف يجري تسليح داعش ومن ثم تنظيم الدولة الاسلامية؟!.
وفي اطار البحث عن جواب لهذا السؤال لنا أن نسأل لماذا لم تشهد المرحلة السابقة مواجهة حقيقية بين قوات النظام السوري ومقاتلي داعش، ولماذا كان القتال في معظمه يكون بين داعش من جهة وفصائل المقاومة السورية الأخرى من جهة أخرى، وبين هذه وقوات النظام السوري، أي أنه لم يسجل صراع حقيقي ومعارك مباشرة بين داعش والنظام السوري قبل معركة مطار الطبقة مؤخرا. 
لقد أشرنا في مرة سابقة إلى نظرية الاعتماد المتبادل في مسار الصراع بين داعش والنظام السوري، حيث يوفر كل منهما في سياساته ومعاركه احتياجات مرحلة معينة للطرف الآخر.
ورغم مظاهر الصراع التي بدأت تتصاعد بين النظام وداعش، فإن هذه النظرية تبدو الأكثر جدية في تفسير الصورة المعقدة للعلاقات الميدانية بين الطرفين، وفي إطارها تدخل جزئيا قضيتي التسليح والتمويل: مستودعات الأسلحة وحقول البترول.

جغرافية القوة المعنوية والفكرية 

هل للأفكار جغرافيا؟!.
هل للقوة المعنوية جغرافيا؟!.
ذلك أمر لا شك فيه وإن أخذت هذه الجغرافيا عن الباحثين تسميات أخرى، نحن هنا لا نتحدث عن الأفكار نفسها، وإنما عن مصادرها ومواقعها، وبالتالي لا نتحدث عن القيمة الموضوعية المستقلة لهذه الأفكار، وإنما عن القيمة الوظيفية لها.
ليس مهما هنا أن تكون فكرة الخلافة الإسلامية التي يطرحها هذا التنظيم صحيحة أو متوافقة مع الشرع الإسلامي، المهم هنا قوتها عند شريحة الناس المؤمنين بها. وإذا كان بالمَثَل يتضح المراد فلنا أن نشير إلى أن فكرة الحكم بما أنزل الله، وصلة ذلك بالسلطة عند الخوارج غير ذات أصل مكين في الشريعة الإسلامية، وتقوم على تفسير قاصر ومنحرف للنص القرآني، لكنها كانت لدى القائلين بها قوية وكافية إلى درجة واجهوا بها الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واستحلوا دمه، واعتبروا قتله قربة إلى الله تعالى.
وإننا لنجد أمثلة عدة معاصرة لهذه القضية عند مختلف الشعوب ومختلف المراحل، وفي العصر الحديث فإن النازية مثال، والبلشفية مثال، والصهيونية مثال، وكل هذه النظريات والأفكار حركت أناسا عديدون، وكانت قوية وفاعلة لديهم، وقدموا من أجلها التضحيات وأريق على وقعها دماء كثيرة ومفجعة، لكن كل هذه الأفكار في ميزان سنن الكون، وقواعد الاجتماع البشري لا قيمة ايجابية لها.

** إذا باتت الفكرة بهذه الأمثلة واضحة فإن التصوير الراسخ والخاطئ لقضية الخلافة الاسلامية هو أول مصادر القوة لدى هذا التنظيم. 

لقد صُورت حالة انهيار الأمة منذ مطلع هذا القرن، وتردي النظم التي ظهرت منذ ذلك الحين، بأنها واحدة من نتائج سقوط الخلافة الإسلامية أي سقوط الدولة العثمانية، وأن دولة الخلافة كانت الحامية لبيضة الأمة والدين، وإنك لتكاد تجد شبه اجماع على هذا التفسير وإن اختُلف في طريقة مواجهته.
والحق أن الأمر لم يكن كذلك إذ كانت الدولة العثمانية في أواخر حياتها، وهي ككل دولة لها منحنى صعود وهبوط ـ سبق أن أشار ابن خلدون في مقدمته الى هذه السنة الاجتماعية ـ ولم تكن هذه الدولة حامية لبيضة الدين والأمة، وكمثال على هذه الحقيقة فقد تم احتلال الجزائر عام 1830، ومصر 1882، وتونس عام 1881، وكان سقوط هذه الدولة قاب قوسين أو أدنى على يد محمد علي باشا حاكم مصرفي النصف الأول من القرن التاسع عشر لولا أن الدول الأوربية المتصارعة اتفقت على وقف تقدم جيوش ابراهيم باشا في هضبة الأناضول، ومنعه من توليد دولة جديدة في المنطقة شابة وطموح، وفرضت عليه الهزيمة بقوة السلاح اولا ثم باتفاقية الإذعان عام 1833 والتي عرفت باسم اتفاقية كوتاهية. 
وقبل محمد علي كانت الحركة الوهابية 1744 قد خرجت على دولة الخلافة العثمانية وقادت حربا ضدها، ووصلت جيوش الوهابيين الى العراق، ولم تتراجع هذه الحركة إلا بعد أن قام محمد علي باشا استجابة لطلب الخليفة العثماني بإرسال جيوشه بقيادة ابنه إبراهيم باشا إلى الجزيرة العربية، ودخولها الدرعية وتهديمها واسقاط هذه الدولة 1818 ونقل الأمير السعودي عبد الله بن سعود الى مصر ثم الى الاستانة حيث قتل صبرا. وعلى منوال الحركة الوهابية قامت الحركتان المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا.
ما نريد أن نثبته هنا أن الدولة العثمانية كانت في خواتيم حياتها قبل نحو قرن من اسقاطها على يد مصطفى كمال اتاتورك عام 1923. 
لاشك أن الدول الغربية كانت تريد أن تنهي وجود هذه الدولة، بل إنها كانت تتطلع إلى إنهاء الدولة التركية نفسها، وأن تستعيد على الأقل القطاع الأوربي منها، وتاج هذا القطاع مدينة استانبول، وهو ما نجح أتاتورك في منعه، لكن ليس إرادة الدول الغربية هي التي أنهت الدولة العثمانية، لكنها بالتأكيد هي من صنع هذا الشكل من النهاية.
وحتى يفهم هذا السياق في عرض الوقائع فإنه ليس لنا موقف ضد الدولة العثمانية، فنحن العرب نملك تاريخا مشتركا عزيزا مع شعوب هذه الدولة امتد لمئات السنين وساهمنا جميعا في صنعه، كما نملك دينا مشتركا صبغ حياتنا الاجتماعية بطابعه الخاص. 
كذلك فإننا لا نرى في الدولة العثمانية مرحلة استعمار، ذلك أن مشروعية تلك الدولة، مثلها كمثل مشروعية دول المماليك، أو الدولة الأيوبية، أو غيرها من الدول التي مرت علينا، تستند إلى الإسلام مصحوبا بالغلبة والقوة.
أما ما عرف في تاريخ الدولة العثمانية بمرحلة التتريك فهو تاريخ متأخر جدا، وهو جزء من مرحلة النهاية بكل ما حملته وتصارعت حوله القوى والأفكار والتحالفات.
ما أتينا عليه لا يعدو أن يكون وقائع ثابتة، وثائقها منشورة ولا تحتاج إلى جهد للوصول إليها، لكن كل طرح منذ سقوط الخلافة يعمل على تخطي هذه الوقائع ومدلولاتها، ويربط مباشرة بين الفكرة النظرية للخلافة وسقوط الخلافة العثمانية من جهة، والحالة الراهنة المزرية للأمة من حهة أخرى، فتبدو من هذه الزاوية الخلافة طوق النجاة وسفينة الخلاص.

** مصدر القوة الثاني لدولة الخلافة الاسلامية: الازدراء والاستهتار الذي يبديه النظام العالمي تجاه قضايا الأمة، ومقدساتها، وقيمها، وتطلعها.

وحين نقول النظام العالمي فإن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي، تبدو الممسكة بزمام هذا النظام، ولا تغيب عنه دول مثل روسيا والصين، وبالطبع المنظمات الدولية المجسدة لهذا النظام.
ولعل أكثر الصور وضوحا في هذا الشأن ما يتصل بالقضية الفلسطينية، وما يتصل بالقضية السورية. 
أكثر من أربعة عقود من الزمن والولايات المتحدة والنظام العربي يضع بين يديها مائة في المائة من أوراق هذه القضية، والعدو الصهيوني يفعل ما يريد، يضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية، يرتكب أفظع الجرائم، يفعل ما لم يفعله حتى النازيون، ثم هو ينال التفهم والتأييد من المجتمع الغربي كله، بل إن الوظيفة الرئيسية لقادة هذا المجتمع لاتعدو أن يكون تبرير جرائم هذا النظام.
إذا قتل أو أسر جندي اسرائيلي في خضم التصدي للعدوان الاسرائيلي قامت قيامة هؤلاء، لكن أن يقتل العدو الصهيوني أكثر من الفي مدني ـ وهو ما حدث في العدوان الأخير على غزة ـ فهذا ما يتفهمه هؤلاء، ويضبطون ردود فعلهم إزاءه في حدود ما يقبله هذا الكيان العنصري.
القيادة الفلسطينية وعلى مدى تجاوز الثلاثة عقود قدمت للولايات المتحدة كل ما طلبت من أجل تيسير حل سلمي، لكنها لم تحصل على أي شيء، بل إنها بفعلها هذا منحت العدو الزمن لقضم وهضم قضايا الحل النهائي وليجعل الحديث عن هذه القضايا حديث عفى عليه الزمن.
أما موقف النظام الدولي من الملف السوري، فلا يحتاج إلى أي شرح، لقد تعاملت قوى النظام الدولي مع هذا الملف بما يتوافق مع المصلحة الإسرائيلية، وبما يساهم أكثر في تدمير المجتمع السوري والدولة السورية والجغرافيا السورية، بل إن هذا النظام الدولي لا يخجل من التصريح بأنه يقف مع الأنظمة التي ترعى الأقليات، وحينما بدأت الطائرات الأمريكية تقصف مواقع الدولة الاسلامية في العراق، لم تر القيادة الأمريكية حرجا في أن تقول إن ما تقوم به يستهدف حماية الأقليات، وهو المنطق نفسه الذي استخدمته روسيا في تبرير دعمها للنظام السوري، كأن وظيفة الأنظمة القائمة حماية الأقليات وليس حماية المواطنين ولا نقول حماية الأكثرية، وتوفير مصلحة الأقليات وليس تحقيق مصلحة المواطنين، وهذا يعني بالتحديد أن هذا النظام الدولي ينظر إلينا ويتعامل معنا من منظور طائفي أقلوي، يرضى علينا أو ينقم بقدر ما نلتزم هذه الرؤية الطائفية الأقلوية. 
وواضح بشكل لا يقبل محاجة أن قوى النظام الدولي تقف إلى جانب أكثر النظم العربية والإسلامية فسادا واستبدادا وطائفية وإجراما، وهي لا تقبل أي إصلاح حقيقي لهذه الأنظمة في اتجاه تجسيدها الإرادة الشعبية، لذلك عاجلت بالتدخل ضد الربيع العربي، لحرفه عن مساره، ولإجهاضه قبل بلوغ هدفه.
من النظام العراقي والسوري إلى النظام الأفغاني والنيجيري.......وفي كلها تستباح ثروات الوطن، ودماء أبنائه، ويرتع الفساد دون حدود، يلقى الحاكمون الدعم والحماية من الدول الكبرى في هذا النظام الدولي الظالم. 
بل إن هذا النظام ذهب بعيدا في محاولات فرض قيمه على مجتمعاتنا العربية الاسلامية سواء برعايته للقيم العلمانية في الأسرة، أو بالضغط على النظم القائمة لتشريع هذه القيم عبر المعاهدات الدولية ولجعلها جزءا من منظومة القيم العالمية التي يجب أن تلتزم بها الدول على اختلاف شرائعها، ولا يكترث هؤلاء بكون هذه تصادم مباشرة عقيدة المسلم وشرائعه.
قادة ومسؤولون في النظام العالمي ومؤسساته يتدخلون كل مرة ضد أي إجراء يتخذه هذا النظام أو ذاك في مواجهة اللواط والشذوذ الجنسي في بلداننا، ، حتى أنهم باتوا يفرضون مصطلحات جديدة كمصطلح "المثلية" و "الأشكال المختلفة أو الجديدة للأسرة" و "المساكنة" للتعبير عن حالات الشذوذ هذه وتجلياتها المختلفة، معتقدين أنهم بذلك يدافعون عن قيمة الحرية!.
حينما يريدون أن يظهروا لنا مقدار التقدم الذي تحقق في افغانستان تحت الاحتلال يصدرون لنا مشاهد عن عرض أزياء في كابول، أو عن حفل جرى في هذا البلد بمناسبة "عيد الحب"!، فيما البلد يحترق في كل جوانبه، ويعيث الفساد الممنهج بكل أرجائه.
كل هذا السلوك الغربي تجاه قضايانا وقيمنا يتراكم في عقل وذاكرة الأمة، وهو يمثل أقوى دعم لفكرة فساد النظام الدولي القائم، والأنظمة التابعة له، والعاملة في إطاره، وفساد كل المؤسسات والمشاريع التي يرعاها هذا النظام.
وبالتالي يوفر المصداقية لطروحات التنظيمات الجهادية الاسلامية التي باتت دولة الخلافة الاسلامية الآن تمثلها، أو تتطلع الى تمثيلها. ولعل ما آل إليه المزاج الشعبي في سوريا بعد حرب طاحنة استمرت لأربع سنوات دليل على مقدار ما يقدم مثل هذا الوضع الدعم لداعش ودولته، فالذي يتابع هذا المزاج، ويلتقي الناس في بيوتها وخيام اللجوء، والفيافي التي ساحوا فيها سيضع يده على أمرين اثنين لا يغيبان حتى عن الأعمى:
** الأمر الأول غضب شديد وخيبة أمل من كل القوى الاقليمية والدولية التي ظهر جليا أنها لا تكترث بما آل إليه وضع سوريا، وأن كل الوعود والتصريحات لم تكن أكثر من استخدام سيء للدم السوري والقضية السورية لأهداف أخرى غير تلك التي تحرك لها ومن أجلها الشعب السوري.
** الأمر الثاني: أن هذا الشعب الذي فجر حراكه الثوري قبل أكثر من أربع سنوات لا يقبل تغيير أولويات تطلعه بالتحول إلى شعار الحرب على الإرهاب بدعوى أن الخطر الآن الداهم هو خطر داعش، ويرى أن الخطر كان وما زال متمثلا بإرهاب النظام نفسه، وأن داعش في أحد وجوهها أثر من آثار ما فعله ويفعله النظام . وهي في كل ما تقوم به من إرهاب وتكشف عنه من نظام مستبد لا ترقى الى مستوى الإجرام الذي وقع على يدي النظام، من قتل وتصفيات جسدية وتعذيب في السجون وفظائع طائفية، وفساد مالي وتبعية للخارج.
إن هذا المزاج العام لقطاع عريض من الشعب السوري يمثل أكبر دعم معنوي لتنظيم الدولة الاسلامية ولمنطقها، وهو مزاج صنعه النظام الدولي وأدواته الإقليمية، بمثل ما صنعه النظام السوري بسياساته المدمرة .

خاتمة 

بعد هذا العرض للجغرافيا الحيوية لدولة الخلافة الاسلامية فإن السؤال المطروح، هل يمكن للنظام الدولي الراهن الذي استنفر كل أدواته، ويعبد الآن كل طرقه للمواجهة، أن ينتصر على دولة الخلافة الإسلامية؟.
هل يمكن لهذا النظام الذي تلاعب بقضية " الجهاد "، ـ ذروة سنام الإسلام ـ قبل ثلاثة عقود، حينما وضعه في اتجاه مصالحه واستراتيجياته ضد الاتحاد السوفياتي، ثم راح بعد ذلك يلاحق المجاهدين كإرهابيين، أن يتلاعب بقضية الخلافة الإسلامية، فيجعلها عنوان حربه الجديدة على المنطقة وشعوبها ومصالحها، وأن تكون بوابته لوضع اللمسات الأخيرة على مخططه في صوغ الشرق الأوسط الجديد القائم على تفكيك دول المنطقة وإعادة تركيبها على أسس "طائفية وعرقية وجهوية وقبلية"، خدمة لمصالحه ومصالح العدو الصهيوني؟. 
هل يمكن لمن أحتل العراق ودمره، ومزق نسيجه الوطني، وفعل الشيء نفسه قبل ذلك في أفغانستان، ورعى ونمًا حالة الفوضى السائدة في ليبيا، ومنع فرصة بناء صومال مستقل ومستقر زمن المحاكم الشرعية، وعمل على إجهاض الربيع العربي، وأشعل نار الفتنة في بلدان عربية عديدة، هل يمكن له أن يبني تحالفا يحقق مصالح الأمة العربية وشعوبها وبالتالي مصالح شعوب العالم في محاربة الارهاب الحقيقي وقواه.
سؤال يحتاج إلى إجابة متبصرة، لا تقف عن ظواهر الأحداث ومتغيرات المعارك وإنما تغوص إلى الصميم لتدرك حقيقة ما تواجهه أمتنا.
هل داعش هي الخطر أم من استنبت داعش وأوجد لها البيئة الحاضنة؟!. 
هل نحن جزء من حرب الغرب على"الارهاب"، أم نحن جزء من حرب الشعب والأمة على الاستبداد والطائفية والفساد ونظم القتل والدمار وإرهابها؟. 
سؤال يحتاج إلى إجابة متبصرة، لكن هذا حديث آخر نأتي عليه في وقت آخر وفي إطار دعواتنا إلى التفكير والحوار.




الشارقة 
9 / 9 / 2014




د. مخلص الصيادي
(192)    هل أعجبتك المقالة (163)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي