دخلتْ الى محلي، احد الايام، سيدة، أميل الى الجمال منها الى القبح، بالتقييم الحيادي، وبتقييمي الخاص، كانت فائقة الجمال. كانت تريد حلا لجهازها الماكنتوش، الذي اصبح فجأة جهازا غير مطيع، فقررتْ لسبب أجهله، ان اكون الرجل الذي يستطيع اعادة جهازها الى "بيت الطاعة"، وفعلا هذا ما حصل. فقد قمت بمسح القرص الصلب، واضفت شريحة ذاكرة جديدة اليه، ثم قمت بتركيب البرامج اللازمة لها وغير اللازمة، لعلي انال حظوة عندها عندما تعود لاستعادة كمبيوترها التي اصبح دون تاريخ ودون ذاكرة.
في الموعد المحدد حضرت السيدة بكامل عدة الحرب؛ فستان انيق يبرز تفاصيل الجسد على استحياء، احمر شفاه لونه اميل الى لون بشرة الوجه، منديل حريري يحيط بالعنق دون ان يمنع العينين النافذتين من رؤية سفح هضبتين تلوحان في الافق، خط من الكحل الاسود يسجن بحرا من اللازورد يكاد يقفز من العينين باتجاه شوارع الحرية. وعرفت سلفا انني خسرت، ومع ذلك قررت ان استثمر موتي في ساحة المعركة حتى الثانية الاخيرة من الرمق الاخير، فسألتها: ماذا تفعلين في الحياة يا سيدتي؟ لم تفهم سؤالي خطأ، على عادة النساء العربيات، وقالت: أنا روائية، واضافت شارحة: يعني انني اكتب روايات، فقد نشرت العام الماضي روايتي الخامسة، وانا سعيدة جدا بردود الافعال عليها، جمهورا ونقادا. قلت لها، وقد وجدت فرصة لاطالة الحديث: هل لك ان تتكرمي وتحكي لي عن "التكنيك" الذي تتبعينه في بناء الشخصيات الروائية، لأنني احلم ان أكون روائيا؟
دققت المرأة النظر بي، وكأنها تراني للمرة الأولى، ثم قالت: ألا تعتقد أنك قد تأخرت قليلا على تحقيق هذا الحلم؟ ثم عقبت: اعتذر جدا، فليس في نيتي ابدا ان اسيء الى حلمك او إليك، فليس للابداع عمر ولا جنس، على كل حال أريد ان اقول: ان بناء الشخصية الروائية يحتاج الى الكثير من التفاصيل اليومية، لذلك أقرر قبل اشهر من بدء الكتابة ان اختار شخصا قريبا مني، ثم ابدأ برصد حركاته وثيابه وطريقة سيره وأكله، ما يحب من الالوان وما يكره، ما هي انواع الطعام التي يفضلها، ما هي هواياته الرياضية والنسائية والسياحية، بالخلاصة: اسجل ادق التفاصيل عنه، وعندما يحين موعد اطلاق شخصيتي الروائية، ستكون كل هذه التفاصيل تحت تصرفي، وبدونها ستبقى شخصيتي الروائية فقيرة، غير مقنعة لاحد.
كانت المرأة تتكلم في الوقت الذي كنت فيه اسأل نفسي: أين هي التفاصيل التي كتبتها او خزنتها، هل قمت يوما ما بعمل يساعدني على تحقيق احد احلامي، سواء في الكتابة او في غيرها؟
لقد عودتنا ثقافتنا الاجتماعية والسياسية ان لا نسجل احداثنا اليومية، إما خوفا من وقوعها بين ايدي رجال الامن، او بين ايدي الخصوم السياسيين، فتتحول الى سلاح يستخدم للنيل منا كأفراد او كأحزاب، وهكذا تحول تاريخنا، مع الزمن، الى مجموعة ذكريات تفتقد التفاصيل، ويختلط فيه الذاتي مع الموضوعي، او الى قصائد مديح وهجاء، او الى مجموعة شعارات لا تسمن ولا تغني عن جوع لمن يريد اعادة بناء شخصية روائية او تاريخية قريبة للواقع.
اذكر في هذه المناسبة، ان المساجين، في قبو من اقبية فرع فلسطين، امضوا اربعة ساعات وهم ينظرون الى شبك حديدي، يمر فوقه الحارس المكلف بالحراسة لمدة ساعتين، على أمل ان ينهي سيكارته في هذا المكان فيرميها من بين اصابعه، وان تسقط وتمر من بين شبك الحديد، وتصل الى المكان المتراجع من الجدار الذي يصل الى المهجع، وان يبقى "عقب" السيكارة مشتعلا، كي يتناوله السجناء ويشعلوا سيكاراتهم منه، وهو احتمال قد تكون نسبته خمسة في المئة، ولكنه حصل اكثر من مرة على مدار الاشهر، ومع نوبتين حراسيتين متتاليتين.
كنت قد رويت هذه الواقعة، مع انفعلاتها المرافقة، الى الصديق حسين العودات وصديقين آخرين، بعد خروجي من السجن، فقال: عليك يا صديقي ان تكتب هذه التفاصيل قبل ان تنساها، فالزمن لا يرحم الذاكرة، ولكنني قلت له: لا يمكن ان انسى. ولكن الحقيقة انني نسيت، نسيت التفاصيل التي هي عبارة عن الثياب التي تكسو الجسد. لقد ضاعت تلك التفاصيل بسبب الاهمال وثقافة عدم التسجيل والخوف من الانظمة الاستبدادية والعادات الاجتماعية التي تشكل حواضن الاستبداد السياسي والثقافي.
لقد اكتشفت مع هذه السيدة وبفضلها ان ضياع التفاصيل يؤدي الى ضياع التمايز، فلنكتب تمايزاتنا كي نبقى احياء.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية