أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مستقبل المواطنة في عصر الصورة ... احمد عسيلي


لو أنك أيها القارئ ، فتحت التلفزيون صدفة ، لتجد مصارعة حرة ، أو مباراة لكرة القدم ، أو حتى عراك حقيقي ، يدور بين شخص ، أو مجموعة أشخاص من دولتك ، و أشخاص من دولة أخرى ، فإنك تلقائيا ستشجع فرد أو أفراد دولتك ، و ستتمنى لهم النصر .
لن يخطر ببالك لوهلة الطرف الأخر ، و لن تسأل نفسك عن الخلافات الفردية بينهما ، ربما يكون الشخص في المصارعة الحرة ، من الدولة الأخرى ، أقرب إليك فكريا و نفسيا من مواطنك ، ربما يحمل قلبا أكثر طيبة ، أو ربما لو اجتمعتم أنتم الثلاثة في مكان واحد ، لشعرت بنفور من مواطنك ، و بقرب شديد من هذا الأجنبي . أو هؤلاء الأجانب في حالة كرة القدم .
لكن ما الذي يدفع الإنسان تلقائيا لمناصرة أبناء بلده ؟
هو بكل بساطة ، مجموعة تصورات و مشاعر عميقة داخل الإنسان ، تجعله يضفي على أبناء بلده قيم و مواصفات فريدة ، تميزه عن الآخرين ، بالإضافة إلى إحساسك أن الوطن الواحد الذي يضمكم ، سيؤدي تلقائيا إلى وجود أخلاقيات و مبادئ مشتركة تجمعكم ، بالإضافة الى اعتقاد الإنسان ، أن الوطن يعني بشكل ما الحماية المتبادلة ، بمعنى أنه إذا حل على البلاد طارئ ما ، أو عدو ما ، فإن ابن البلد هو الذي سيحميك ، و هو الذي ستحاول قصارى جهدك أن تحميه ، و حتى دون وجود هذا العدو الخارجي ، فإن ابن البلد أحن على الإنسان من الأجنبي .
هذه العقائد و التصورات تلقائية ، و تدخل ضمن دائرة المسلمات أو الغير مفكر فيه .
و بالرغم من أن الخلافات العرقية و الدينية داخل الوطن الواحد ، ستدفع إلى شيئ من تشويه الآخر الوطني ، و ربما السخرية منه أحيانا ، أو وصفه ببعض السلبيات ، لكن هذه الخلافات تبقى أقل رسوخا أو تأثيرا على النفس من مشاعر المواطنة ، لهذا تجد من الشائع تشجيع أبناء البلاد لمغني ، أو كاتب ، أو فنان تشكيلي من أبناء بلدهم ، حتى لو كان من الطرف الآخر داخل الوطن .
هذه المشاعر بالمواطنة ، أصبحت حاليا على المحك ، و بشكل جدي ، بعد انتشار عصر الصورة ووسائل التواصل الإجتماعي ، التي أصبحت تنقل دواخل المجتمع ، و أمراضه المستترة ، إلى العلن .
فالصورة المتحركة ، أو مقطع الفيديو ، يملك تأثيرا ضخما على الإنسان ، لأنه يحرك و يستفذ حواسه كلها ، و بالتالي يملك تأثيرا أكثر عمقا من أي وسيلة أخرى .
فالكثير منا قرأ مذكرات و روايات عن حوادث المعتقلات ، و حفلات التعذيب التي يقوم بها أبناء البلد الواحد ضد بعضهم ، لكن هذه الروايات أثرها أقل بما لا يقارن من مقطع فيديو مسرب ، لأننا في الحالة الثانية ، نشاهد مواطننا ، و نسمعه ، و كأننا نعيش الحدث ، و هو يعذب و ينتهك المواطن الآخر ،
بل إننا للحظة ما ، يخيل إلينا أننا نعرف الجاني ، و نعرف الضحية ، فكلاهما يملكان الصفات الجسدية و الشكلية و نغمة الصوت ، أي اللهجة ، التي نشاهدها و نحياها يوميا في الشارع ، و بالتالي ستدخل هذه المقاطع إلى عمق الإنسان ، و ستبدأ بمنافسة ، أو حتى إزاحة مفاهيم المواطنة الأصيلة التي استقرت داخله ، و ستملك تأثيرا موجها لعواطفه و مشاعره و انتماءاته ،
فالمواطنة قبل عصر الصورة و اليوتيوب ، لن تصبح كما قبلها ، و خاصة في شرقنا الذي أجاد طمس ، أو الدفع للداخل ، بكل مشاكله الإجتماعية ، و السياسية ، و الإقتصادية ، محاولين دائما رسم صورة جميلة و كبيرة ، تخفي تحتها أطنان من القمامة البشرية ،
لتخرج هذه الأطنان بشكل مفاجئ ، و تظهر لنا المشهد صحيحا وعلى حقيقته .
فالعنف داخل المجتمع السوري ، الذي ترتكبه قوات النظام ، كان موجود سابقا ، كتب عنه عشرات المعتقلين السابقين ، و ربما شعر به الكثير منا في الشارع ، و في الحي ، فكلنا يعرف العديد من قصص الإختفاء المفاجئ للسياسيين ، أو حتى لبعض المواطنين العاديين ، و كلنا كنا نشعر بثقل و رعب الأجهزة الأمنية ، و كنا نشعر بالتمييز الطائفي داخل أجهزة الدولة ، لكننا نحاول المراوغة و التبرير ، لتخرج علينا مئات من مقاطع الفيديو (المسربة ) الخارجة من أقبية النظام ، و تضعنا أمام الحقيقة وجها لوجه ، و دون إمكانية للتجاهل ،
أصبحنا نرى مباشرة ماذا يحدث داخل أبنية الرعب ، و صرنا نعايش انقسامات مجتمعاتنا دون مواربة ، و تلاحقنا هذه الصور بشكل مستمر أينما ذهبنا .
كلنا رأى هذا الشبيح الذي يحمل في يده سيجارة ، و يضحك شامتا قبل إلقاء براميل الموت ، كلنا رأى مقطع الفيديو الذي يظهر لنا أهالي ريف حلب ، و هم يلقون القبض على الطيار بعد إسقاط طائرته ، و عرفنا أن هذا الطيار سوري ، و له اسم سوري مثل اسمنا ، و لديه عائلة تسكن داخل حدود وطننا ، و شاهدنا أفراد عائلته ، الذين يشبهوننا ، و يتكلمون لهجتنا ، و هم يطالبون بالإفراج عنه .
لذلك لم يعد الوطن و المواطنية داخل المجتمع السوري بعد الثورة ، كما كانت عليه قبل الثورة ، و لم يعد مفهومنا عن ابن بلدنا كما كان عليه سابقا ،
هناك بعض الأقلام التي حاولت الإستمرار بسياسة التبرير هذه ، ملقية اللوم على الآخر الإيراني مثلا ، او العراقي أو الحالشي ، لكن الصورة و الفيديو أقوى من كل قلم ، و لم يعد هناك طريق للهروب .
علينا أن نعترف بكل جرأة : إنه ابن البلد .
لهذا أصبحت مهمة إعادة بناء مفهوم المواطنة ، داخل المجتمع السوري ، عسيرة جدا بعد انتشار ثقافة الصورة ، و تتطلب مقاربة مختلفة من قبل علماء الفكر السياسي ، و الإعلاميين ، و المثقفين ، من أجل الإعتراف بالعفونة التي عمل الأسد على نشرها في المجتمع ، و محاولة خلق تصور جديد لشريك الوطن هذا ، لا يغفل عن الجرائم ، و الجرائم المضادة ، التي حدثت بين الطرفين ، لكنه يحاول استيعابها و هضمها ، و البناء عليها من منطلق المصلحة الواحدة ، و قائمة على أساس طي صفحة الأسد بعد محاولة التخلص من كل تبعاتها .
لكن تبقى هذه المهمة في انتظار سقوط النظام ، و حتى ذلك الوقت ، ستبقى مفاهيم المواطنة في تراجع مستمر ، و ستتعقد مشكلة إعادة بناء هذا المفهوم كلما تأخر السقوط ، الذي نتمنى أن يكون أقربب مما نتخيل ، لأن سوريا تستحق التخلص من هذه العفونة .

(139)    هل أعجبتك المقالة (144)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي