في الأسابيع الاخيرة من إقامتي في كندا، وبشكل خاص بعد تحديد موعد سفري إلى إستنبول، بدأ سلوك زوجتي تجاهي يتغير، فقد أصبح أكثر نعومة، واختفت من كلامها كل مفردة تدل على الكنادر والشحاطات وأي نوع من أنواع العنف، حتى كدت أخال نفسي في "مجلس الأمن"، بل أنني لاحظت جانبا رومانسيا ينمو في كلامها عن "الحب الأبدي" الذي يجمع بين الزوجين.
كنت مستسلما لهذا الغزل الذي يشبه المخمل الأزرق الذي كانت تحلم به صباح أيام شبابها، بل إنني سمحت لنفسي بابتزازها أكثر من مرة، ففي أحد الأيام طلبت منها طبخة ورق عنب فلبت الطلب، وهي التي تكره "العبودية" التي يفرضها تحضير الطعام على المرأة الشرقية. وفي مرة أخرى طلبت منها أن تكوي لي قميصا وبنطلونا، ورغم إنني لاحظت بريقا من الغضب يجتاح أفق عينيها بعد طلبي هذا، إلا إنها نفذت رغبتي، ثم طلبت من ولديها استغلال الفرصة وكوي ثيابهما، بل إن الجرأة قد وصلت بي إحدى الليالي أن أنام ويدي تلتف حول خصرها دون ممانعة، ما دفعني لإعادة التفكير في قرار السفر، والتساؤل هل هو قرار صائب أم إنه انفعالي.
في السهرة التي سبقت يوم سفري، جلسنا في المطبخ وحيدين نشرب القهوة التي تحبها، ونتصارح في ما هو معروف لدى الجميع، عن قدرتنا نحن الاثنين على تجاوز كل الصعوبات التي تواجه الزواج بشكل عام، وزواجنا بشكل خاص، الذي وصل إلى عامه الثلاثين، منتصرا على فارق العمر بيننا، وعلى الهجرة القسرية والفقر المهجري الذي رافق حياتنا، وصولا إلى وقتنا الراهن. وكان كلام زوجتي يضمر خوفا ما، من رغبتي في السفر والإقامة في إستنبول، فقد كان من الصعب إقناعها أن حبي لعاصمة العثمانيين ورغبتي الطفولية في الارتماء في حضنها، سببه ثقافي فقط، وأن لا نساء هناك في انتظاري، ورغم يقينها أن أطنانا من الحبوب "الزرقاء" غير مجدية لرجل في عمري، إلا إنها كانت لا ترى وراء قراري بالهجرة نحو الشرق إلا امرأة خفية ساحرة تريدي أن تخطف منها "عكازتها" التي تخبئها للأيام العصيبة، فهي لا تريد أن تعيش وحيدة في شيخوختها القادمة لا محالة.
بعد تلك المقدمات وصلت في حديثها إلى جوهر المسألة، فقالت: ما دمت مصرا على السفر، عندي لك مجموعة من الوصايا، أرجو ان لا تستهين في تنفيذها، أولها أن لا تصدق أي امرأة تقول عنك إنك وسيم وجذاب وحديثك ممتع والسهرة معك متعة لا تضاهيها متعة أخرى، وأن ثقافتك لا مثيل لها، إلى آخر المعزوفة التي يكررها الرجل عندما يتعرف على امرأة جديدة، او المرأة عندما تتعرف على رجل، فالهدف النهائي من هذا المديح هو الوصول إلى جيبك لا إلى قلبك.
الوصية الثانية هي أن لا تصدق رجال المعارضة السياسة المقيمين في استنبول، فأنت لست بحاجة، بعد هذا العمر، لا لخبراتهم السياسية ولا لمالهم السياسي.
الوصية الثالثة: لا تمدح شخصا بما ليس فيه، لأن هذا عبارة عن شهادة زور، فأنا أعرف أن من عيوبك أنك لا ترى سلبيات من تحب.
وتذكر دائما يا زوجي الحبيب أن من يتكلم عن الشرف بسبب ودون سبب، إنما يحاول بذلك تغطية عيب كان عنده وما يزال.
الوصية الرابعة انصحك أن تقتصد في مصروفك، ليس من أجل كنز المال، وإنما كي لا تحتاج إلى الطلب من لئيم.
الوصية الخامسة اهتم بنفسك وصحتك وعد إلينا سليما، فنحن، رغم شيخوختك، ما زلنا بحاجة لك بيننا.
كانت تلك الوصايا الطلقة الأخيرة في مسدس زوجتي، وكادت أن تصيب مني مقتلا، لولا جمال إستننبول العصي على الوصف، فقد كتبت لها: نعم اشتقت إليكم، أما عن اشتياقي لمونتريال، فأحب أن أقول لك: إن من يعيش في إستنبول ينسىى كل المدن، إلا، ربما المكان الذي ولد فيه، أحب مونتريال بالطبع، ولكن حبي لإستنبول هو مثل حب الرجل لعشيقته الجديدة، هذا الحب الذي قرأت عنه كثيرا دون أن أعرف طعمه، وأريد الآن أن أترك لنفسي حرية تذوقه، من أجل ذلك توجهت بسؤالي غلى رجل قانوني عن امكانية إعلان اسلامي وزواجي من اربعة جميلات دفعة واحدة كما ينص الشرع، فضحك من جهلي وقال: إن الزواج من أكثر من واحدة ليس فقط مخالفا للقانون التركي، وإنما يعد جريمة حقيقة، ولن يغفر لك إسلامك المزعوم مخالفتك للقانون، انت هناك في دولة قانون ولست عند "داعش" تفعل ما تشاء من الموبقات باسم الدين، فانتبه يا صديقي واستيقظ من أحلام يقظتك.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية