أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الرهان ... مضر عدس

( 1 ) : 


_ ما رأيك أن نتراهن . 

_ نتراهن .. ألم تملّ من الخسارة بعد .. تريد الرهان ... هو لك . 

كل يوم رهان مختلف ، رفيقان في الموت و رفيقان في الرهان ، الخدمة بالنسبة إليهم مملة ، ساعات طوال ، يجلسان على صخرة مرتفعة تطلّ على الطريق الواصل بين دمشق و حمص ، في الربع الأخير من جهة حمص كانت تقبع هذه الصخرة ، في الشتاء البرد هو ما يبقيهم مشغولين ، أما في الصيف فلا ثالث لهما ، درجات حرارة مرتفعة في النهار أما في الليل فالجو بارد ، أمضيا الشهور الأولى في التعارف و بعد مضي بعض الوقت انتهت المواضيع التي يمكن أن يتحادثا فيها ، إلا إذا اشتاق أحدهما لمنزله و بدأ في غناء أحد المواويل أو تذكر قصة ما فيلقيها على زميله بأسلوبه الشائق . 

أوكلت إليهما حماية هذا القطاع من الطريق ، قنّاص و مساعده ، صخرة مرتفعة تصلح أن تكون منارة للقنص ، تكشف الطريق بشكل جيد و هما فيها آمنين ، يمر النهار ببطء شديد ، و هذا ما يفضلانه فالحال تبقى أحسن من أن تبدأ معركة ما ، فالموت سيكون ثالثهما و هذا ما يخشيانه . 

_ انظر إلى المركبة القادمة من البعيد . 

_ نعم لقد رأيتها ... أتراهن عليها . 

_ نعم بالتأكيد .. اسمع سأراهنك على أني أستطيع قنص السائق ، و أرديه قتيلاً بطلقة واحدة . 

_ لا الرهان إن استطعت قلب المركبة أو لا من خلال قنص السائق .. فقنص السائق أمر بسيط و لا أراهن عليه . 

_ موافق .. الرهان علبة سجائر . 

_ حسناً . 

استعد القنّاص جيداً ، أمسك بندقيته و وضعه أمامه ، وضع عينه اليمنى على العدسة المكبرة و أغمض اليسرى ، أخذ نفساً عميقاً ثم أخرجه ، و عندما اقتربت المركبة و باتت قاب قوسين أو أدنى من مواجهة الصخرة ، أخذ النفس الأخير الذي سيفصل بين حياة السائق و مماته ، نفس واحد يساوي حياة واحدة . 


انطلقت الرصاصة على عجل و لم تمهل السائق أن يلتقط نفسه الأخير ، باغتته من دون أن يدري انه هو الهدف القادم ، ميتة سريعة لا نجاة منها ، استقرت الرصاصة في رأسه ، و خرجت المركبة عن الطريق العام و انقلبت ... نعم انقلبت و ربح القنّاص الرهان و كان هو الفائز في مسابقة اليوم . 

_ ألم أخبرك ... أنا خيرُ من حمل بندقية للقنص في سوريا . 

_ نعم لقد ربحت ... أمسك هذه هي العلبة . 

أخرج لفافة التبغ من العلبة التي ربحها ، و أشعلها و بدأت عملية الشهيق و الزفير الممزوجة بالنصر تتوالى ، و بعد أن أنهى نصفها قال لرفيقه : 

_ ماذا سنفعل باقي اليوم . 

_ لا تقلق الرهانات لا تزال قائمة ... إلا أن يأتي دور الشباب في المراقبة . 



( 2 ) : 


رن جرس البيت ثلاث مرات قبل أن يفتح أحدهم الباب ، خرجت أم عارف من غرفة النوم مسرعة و هي تحاول أن تضع شيئاً على رأسها لتفتح الباب . 

_ لماذا لم تفتح الباب يا فواز ( صاحت ) .. يا إلهي لقد نسيت فواز اليوم في مهمة عمل في حمص ( قالتها بصوت منخفض و هي تفتح الباب ) . 

_ مرحبا يا خالة ، هل فواز هنا . 

_ لا يا خالتي ، فواز خرج اليوم في مهمة عمل إلى حمص ، سيعود قبل غياب الشمس إن شاء الله ، تفضل . 

_ لا شكراَ يا خالة ، عندي عمل و يجب أن أنجزه . 

ألقى محمود التحية على أم عارف و توجه إلى المستشفى ، قبل نصف ساعة اتصل خالد ، صديقه الطبيب ، و أخبره أنه شاهد جثة تشبه صديقه فواز ، أحضرها أشخاص نجوا من الحادث الذي أصابهم و هم متوجهون إلى حمص ، بعد أن زار منزل فواز أصبح المشهد واضح ، إنه فواز الذي استشهد . 

_ يا إلهي إنه فواز ( قالها و العبرات تخنق صوته ) . 


عندما وصل محمود إلى المستشفى شاهد عند الباب أبو رامز صاحب الكراج الذي يعمل فيه فواز في تصليح المركبات . 

كانت عينا أبي رامز منتفخة من البكاء الشديد ، كان لون وجهه أصفر ، ملابسه مهترئة و لونٌ أسود غطاها ، في يده اليمنى إصابة خفيفة ولكنه اضطر أن يعلقها على كتفه بضماد أبيض . 


_ محمود يا ولدي ( اختلط صوته بالخوف و الحزن و الألم ) .. فواز استشهد . 

_ نعم يا عم أعرف .. أعرف . 

_ كنا في طريقنا إلى حمص في مهمة عمل ، كان السائق محمد رحمه الله ، و أنا جالس بقربه و معنا فواز رحمه الله و ولدي رامز عافاه الله ، و في الطريق قُنص السائق و أصيب في رأسه إصابة قاتلة ؛ فخرجت المركبة عن الطريق العام ، و فقدنا السيطرة عليها ، لم أستطع أن أفعل أي شيء و انقلبت ، أصبت أنا إصابة خفيفة و رامز فقد الوعي و لكن صحته في تحسن و الحمد لله ، أما فواز فقد فارق الحياة في طريق العودة إلى دمشق ، لم نستطع إنقاذه ( ثم بكى بحرقة ) 

_ أحمد الله على سلامتك يا عم أنت و رامز ، و يا أسفاه على شبابك يا حبيبي فواز ، ثمانية عشر عاماً ، لم ينهِ طفولته بعد ، أصبح رجلاً قبل الأوان و شاخ قبل الأوان ، و سُلبت منه حياته قبل الأوان ، و لم يحمل سلاحاً فيقتل أو يسرق فيقتل أو يبغي فيقتل 
، فقط حمل همّ أمه التي أصبحت الآن وحيدة ، فواز شهيد و عارف في المعتقل ، ما ذنبها خالتي أم عارف ، ربتهم حتى أصبحوا شباباً ، ثم يأتي رجل لا أم له و يسرق حياة ابنها منها ، كيف سأخبر أمك يا فواز ، كيف ستخبر أخاك عندما يخرج يا فواز ... كيف ( ثم أجهش بالبكاء ) .

(142)    هل أعجبتك المقالة (157)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي