السوريون محكومون بالتاريخ أكثر من حكمهم بالجغرافيا، فهذي الأرض التي دخلها الإسلام ولم يغيّر من بنيتها، قسراَ على الأقل، احتفظت بخصوصية التنوع، فهي عامل تفجير أنى شاء أصحاب المصالح، لطالما ثمة تراكم واحتقان، تشكلا عبر أهداف الحكام وأهواء من رأى في الأديان تجارة رابحة، لكسب ود السلاطين وتنفيذ مراميهم، أو لكسب السطوة والمال والمريدين.
وهو-التنوع- عامل غنى واستقرار، إن بلغ السوريون، وعياً وقناعة، ما يفيض عن أهواء من يرى في "الأقليات" مبرراً لوجوده، وإن كانت الأقليات هي الأكثر ظلماً وهضماً للحقوق على أرض الواقع، وأيقن الجميع أن تسويق الأقلية والأكثرية هي جمرات تحت برميل وقود، بيد الحكام فقط، توقيت تفجيره، متى اقتضت الضرورة وتوفر عباد المال والمغيبون.
قصارى القول: عرف النظام السوري، بمنطق تسويق الأسلمة كفزاعة، استمالة طيف واسع من السوريين، من الخطأ وصفه-الطيف- بصفات الأقليات والطائفية، لأن الواقع والوقائع تؤكد أن الأسد الابن، إنما يعتمد على أهل السنة والجماعة، أكثر من غيرهم، وإن شكلياً على الأقل.
وغرق المغيبون في مستنقع الثأرية وراء النظام، كالشارب من بحر مالح، كلما شرب عطش، ما أدى بعد سنوات من ثورة تاهت عن سكتها، لاتساع الفجوة بين أنصار الرئيس وأبناء جلدتهم، حتى لحدود تبرير الجريمة والإلغاء.
بيد أن ثمة صحوات تبرق وتغيب، بفعل الألم أو التخويف، لعل ما تشهده بعض قرى الساحل السوري اليوم، بعد قوافل قتلى الجيش بالرقة، إحداها مرشحة للاتساع، وربما لهطول أمطار المواجهة مع مستأثر بكرسي لا يتوانى عن استخدام الشباب، كمسامير لتثبيت قوائمه، وإن على جليد سيذوب ويُذهب بمن عليه.
ولكن، وفي مقابل تلك الصحوات التي تواجه بالتكتم حيناً وبالقمع والنكران بقية الأحايين، خرج نوع من عبدة الأسد، وهم من المستفيدين أو مقترفي الجرائم بحق السوريين وممتلكاتهم، ليتابعوا حملات التحريض على السوريين والتغييب لحلفائهم، وإن بطرائق وأدوات، باتت بحكم التكرار على الأقل، ممجوجة ومكروهة وغير مقنعة أيضاً.
ولعل في السعي الإعلامي الممنهج لدحض فيديوهات قتل الجنود في المطار أخيراً وقلب الحقائق على أن القتلى ليسوا من العسكريين، بل من عشائر الشعيطات، وأن الأسد منتصر وستكون عيون جوبر في ريف دمشق خضر بعد أيام، في إشارة لتمدد جيش الأسد والميليشيات المساندة، أدلة على انغماس هؤلاء بوحل الوهم إلى فوق شحمة آذانهم.
ولعل الملفت لدرجة الدهشة والحيرة، تصميم بعض من يرمي بأهله وسوريتنا للمحرقة، رغم يقينهم أنهم أدوات مرحلية، وسيرمى بهم جميعاً بوجه العاصفة، التي يؤثر النظام بوهمه وغطرسته وتغرير من حوله، على استمرارها إلى ألا تبقي ولا تذر.
ولعل في إعادة تسمية حكومة التفقير والقتل والتهجير، رسالة واضحة من القائد الملهم لمناصريه، لا تحتاج عناء فك الطلاسم، رغم ما قيل عن مطالب، وصلت لمظاهرات بإقصاء بعض الوزراء، وعلى رأسهم وزير الموت الفريج.
وقد لا يتسع المجال هنا لشرح ودحض تلك المطالب، إن لجهة حركة أهل قتلى الجيش ومطالبتهم بتغيير وزير الدفاع رغم يقينهم أنه منفذ ليس إلا، أو التطرق لعدم رفع سوية المطالبة من المفجوعين، لتطال من يملي على وزير الموت وإدارات الأمن، والذين يعتبرون-رغم حملات تسويقهم- بيادق ليس إلا.
خلاصة القول: في واقع عدم القناعة لدى كثيرين، أن من كان سبباً في كل ما جرى ويجري لسوريا، لا يمكن أن يكون طرفا في الحل، بل الحل الوحيد هو رحيله وبأي طريقة، بل وكل يوم تبقى خلاله عصابة الأسد بالسلطة، إنما تتعمق الخلافات وتتبدد أحلام التعايش والعودة لسوريا الواحدة الموحدة، في ظل تصميم هؤلاء المناصرين على بقاء سيدهم ليقود المركب السوري إلى بر الأمان والنصر على الإرهاب والمؤامرة الكونية.
في هذا الواقع يقفز سؤال.. ماهي الطريقة إذن للتعامل مع هؤلاء، أيوجد غير القتل والإلغاء كي تراح سوريا من نكوصيين ونفعيين.
أعتقد أن مجرد طرح القتل كحل، إنما يخدم الخطة العامة التي قادت سوريا لحافة الهلاك، وربما ستقودها للمزيد، ولن يكون التقسيم حلاً كما يمني بعض هؤلاء أنفسهم.
ببساطة وواقعية، وعودا على بدء، قدر سوريا تنوعها، وليس لفئة قتل أخرى أو إقصاؤها مهما كان عديد وقوة الأولى، وضعف وحجم جرائم الأخرى، ولعل الاستحالة تتأتى على ما نعتقد من أمرين اثنين: الأول أن المجتمع الدولي، فيما لو استطاعت فئة إبادة أخرى جدلاً، لن يسمح بإبادة أقلية وإن صمت لسنوات على محاولة إبادة أكثرية، ومن يتصفح التاريخ يكتشف ذلك ويوقن.
أما الثاني فيتجلى في أن أنصار النظام ليسوا بلون قومي أو روحي محدد، وإن غلبت "الأقليات" على المغيبيين المجرمين.
ما يعني ختاماً، أن في سوريا طائفتين اثنتين، الأولى اختارت الشعب والحرية وإن جنح بعضها وتاه في دوامة التطرف التي تأتت عبر طول الأزمة وتنصل "الكبار" والأشقاء من استحقاقهم، والطائفة الثانية اختارت النظام وليس الوطن كما تدعي، لأن بعضها انطلت عليه فزاعة الإسلام، وبعضها الآخر يستمد وجوده ورزقه من الخطأ والنظام. ما يبقي الأمل بدولة تعددية تضمن الحقوق لكل بنيها تحت مظلة القانون، الذي لا يعزف عليه المجتمع الدولي ولا حتى المنتصر، ألحاناً تبدد الحقوق وتبقي سوريا على برميل وقود الطائفية.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية