تشاء المصدفات، وأنا بالطائرة في طريقي إلى اسطنبول، أن أبدأ بقراءة رواية أمين معلوف "صخرة طانيوس" التي تتحدث عن لبنان في بداية القرن التاسع عشر، عصر "الحمايات" الأجنبية للأقليات في الشرق، التي تم انتزاعها من السلطان العثماني الضعيف، وكانت قد بدأت عملها عبر الإرساليات التبشرية والعلاقات التجارية، إلى أن بدأ محمد علي باشا، والي مصر ببناء دولة قوية على أنقاض الامبراطورية العثمانية المتهالكة، بتشجيع من الفرنسيين، بينما رأى فيه الإنكليز تهديدا كبيرا لمشاريعهم في وراثة الامبراطورية العجوز. وما إن وصل الجيش المصري بقيادة ابراهيم باشا إلى لبنان حتى بدأ صراع الجبابرة على الأرض اللبنانية، بين ممثلي الإنكليز والفرنسيين تمهيدا للتدخل المباشر، لعرقلة تقدم ذلك الجيش على الساحل باتجاه الشمال أو دعمه، فتم تحريك الصراعات المحلية بين الطوائف الداعمة والرافضة للوجود المصري. وهكذا أصبحت فرنسا حامية الموارنة، وإنكلترا حامية الدروز، وروسيا حامية الأرثوذكس.
ولما كانت العداوات الشعبية ذات الطابع الطائفي هي امتداد لعداوات الأمراء أصحاب المصالح التجارية وأصحاب الأراضي، فقد كان من السهل أن تمتد النزعات بين الناس آخذة الشكل الطائفي والعشائري المناطقي، فتشتعل الحرائق وتجري الاغتيالات، مستغلة التجاوزات التي يقوم بها رجال حملة ابراهيم باشا لإثارة غضب الناس عليهم ومن ثم الثورة، التي انتهت بإذعان محمد علي باشا والي مصر وتوقيع اتفاقية جديدة مع السلطان العثماني والقوى الغربية التي ألزمته بالانسحاب من سوريا الطبيعية، واقتصار حكمه على مصر والسودان.
كنت وأنا أتقدم في قراءة صفحات هذه الرواية، أتخيل المراحل التي مرت بها الثورة السورية، وطرق التعامل معها داخليا وخارجيا، عربيا وعالميا، فأكاد ألمس تطابقا بين الحالتين في سلوك هذه القوى تجاه الثورة السورية، التي كانت أعظم ثورات هذا العصر ضد الاستبداد، فكما فكر الغرب قبل ما يقارب مئة وستين عاما، بأن انتصار محمد علي باشا على الخليفة العثماني، سيفتح الباب أمام ولادة امبراطورية إسلامية شابة ومعاصرة، تقضي على أحلام الغربيين بتقاسم أملاك "الرجل المريض"، فكان العمل على تدمير جيش محمد علي باشا بأيدي المسلمين أنفسهم وبأيدي أبناء الأقليات، تحت مسميات متعددة. وهو ما حصل في الثورة السورية، فقد كان انتصار الثورة الديمقراطية السورية، ولا يزال، مصدر قلق للعالم كله، ولا أبالغ في ذلك، فانتصارها يعني ببساطة سقوط ادعاء الغرب بأن إسرائيل هي البلد الديمقراطي الوحيد في المنطقة، وقد تكرر هذ القول أخيرا، في الدفاع عن إسرائيل، أثناء إبادتها للفلسطينيين في غزة. كما أن انتصار الثورة السورية يعني أنها أصبحت نموذجا يقتدى في الأردن والسعودية والعراق ولبنان، وحتى في تركيا الديمقراطية، وهذا كان، في حال حصوله، سيفتح باب جهنم على الاستبداد الشرقي ويقضي على مصالح الغرب التي ينالها دون مقابل.
ولكي يكتمل الفيلم المأساوي الجديد، كان لا بد من أن يقتتل السوريون دينيا ومناطقيا، وبكل السيوف الممكنة، كي يرى أبناء الدول المجاورة "بربرية" الحرية التي يريدها السوريون، ويقتنعنوا بالاستبداد، ويتحولوا إلى حراس له وخدم وعملاء لهذه السلطات.
أخيرا، كما تم انكسار الثورة المصرية، لا بد الآن من انكسار الثورة السورية ولكن بثمن باهظ، فقد حلمنا زمنا بأن يكون الإسلام هو رافعتنا للسير نحو التقدم، وإذ بنا "كمسلمين" نقتل الإسلام ونرمي جثته في نهر بغداد.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية