مرة أخرى..أنا الذي رأى... عدنان عبدالرزاق

لو وضعوا سيغموند فرويد في مدينة الرقة فكم من الوقت سيحتاج ليقلع عن تقنية الطاقة التحفيزية الأولية للحياة البشرية، وينجرف للتفكير في القماش الأنسب لحجاب المرأة، ولو نبشوا كارل ماركس من قبره ونقلوه إلى ريف دير الزور، فكم من الزمن سيستغرق ليترك ما حفظه عن هيجل ويتناسى الاقتصاد والصراع بين الطبقات وينشغل بأن قول "تقبل الله العظيم" بعد الصلاة هل هي بدعة وكل بدع ضلالة وكل ضلالة في النار، كما حدث تماما في سرمين بريف ادلب أول من أمس الجمعة .
بداية القول: ما أريد قوله أن ابن خلدون على حق، والإنسان ابن بيئته، يستمد منها معاناته وتفكيره، وبناء على المتاح من أدواتها وشروطها يبني خياراته، والخطأ كل الخطأ، أن يقيس من هم خارج شروط تلك البيئة أفكارهم وحلولهم ووصاياهم على ما ليس لهم به علماً ويصدرون الحلول والنظريات على من لا يعلمون يقيناً مدى إمكاناتهم لعكس كل ما هو نظري ومثالي على الأرض، ففي ذلك ليس جهلاً بالشيء وظلماً لآخرين، بل ربما متاجرة بحيواتهم ومصائرهم أيضاً .
في الأمس عدت من زيارة للمناطق المحررة في سوريا الجريحة، ورأيت بعضاً مما أعلم وفوجئت بكثير من الحقائق، على عكس ما كنت أظن أني أعلم.
باختصار، وصل أهلونا في الداخل للدعاء وبشكل مستمر"الله يجازي من كان السبب" دونما تصريح، هل المقصد النظام الذي قتل واعتقل وهجّر، أم من لبس ثوب الثورة مقلوباً فرأوا منه أضعاف ما عرفوا من النظام.
وباختصار أكثر، وصل أهلونا من الخوف من كل شيء، الخوف من بكرا والخوف من الذبح والخوف من الطائرات والبراميل، ما يجعلهم ينشدون الخلاص...وإن باستعجال الموت .
أما بمنتهى الاختصار، الشعب السوري تعب وقد ينزلق أو يتنازل ولا أي لائمة عليه بعد صبره على مالم يشهده سواه من كل أنواع الظلم والقهر والقتل والاستعباد .
قصارى القول: ثمة تشابه وحيد وجدته بين الداخل المحرر والتنظيمات السياسية المعارضة التي سرقت تمثيل السوريين عنوة، كما سرق جل من هم على الأرض القرارات والأموال والممتلكات العامة والخاصة، وهذا الشبه أن لاذكر لاسقاط النظام ولا من اعتبار للجوعى والمساكين.
فآخر اجتماع للهيئة العامة للإئتلاف، وعلى مدى معايشتي لمعظمها، لم أسمع من أعضائها، بمن فيهم الهيئة السياسية ومرشحي الرئاسة، أي ذكر للنظام، بل كان التآمر والاقصاء وحتى التخوين، هي المفردات والأحاديث الطاغية على الجلسات، العامة والخاصة، وكذا لجهة الأرض، لم أسمع على مدى أيام أي ذكر لتحرير أرض أو اسقاط نظام أو مساعدة يتامى، بل المكاسب والضغينة والتشرذم وإعادة التموضع بما تقتضي المرحلة، هي الأحاديث الغالبة، على من جالستهم خلال زيارتي على الأقل.
حيث جل ما يجري على الأرض يشابه ما يجري في اجتماعات الإئتلاف وبقية مؤسسات الثورة، وإن بطرائق مختلفة تبعاً للظروف واعتبارات الداخل.
على الأرض، ثمة ظلم وامتهان وتحت قوة السلاح والاستقواء، على الأرض سرقة لمعونات اليتامى ومساعدات أسر المصابين ..وعلى الأرض تشرذمات وانقسامات أضعاف ما الائتلاف عليه ، بل يصل الأمر للتصفيات الجسدية نتيجة خلاف على غنيمة أو لعدم اتفاق على ما تفعله الدولة الإسلامية "داعش" والتي لها عامل مهم في التخويف والتحسب، حتى في المناطق التي لم تصلها بعد .
وعلى الأرض، تجار حروب وسلاح ودم قد لا يرقى الإئتلاف إلى مستوى ما يفعلون، ولو بعد عقود من الزمن، ففي المناطق المحررة فلسفة "نكون أو لا نكون" وإن شعرنا أننا لن نكون، فعلى الدنيا السلام.
نهاية القول: ولكن، وربما تكون زبدة الكلام دائماً بعد ولكن، ثمة سوريين مازالوا يفرقون بين ما آلت إليه الحال وبين الأسباب التي اختلقها النظام كي تؤول الحال لما هي عليه، فيعيشون حلم أيام الثورة الأولى، من حرية وعدالة وحلم بسوريا أخرى تعيد لهم الحلم بالمواطنة بكل معانيها، وثمة سوريين صابرين لديهم من الأمل بالنصر- أياً طال الزمن – بما يكفي لزرع الرقة وما حولها زنابق وشقائق النعمان.
ولكن، إلى أي مدى وزمن يبقى هؤلاء النبلاء يحتفظون بجمال طباعهم السورية وأي دور على من سرق صوتهم ومالهم وحلمهم، يجب القيام به، قبل أن يجرفهم تيار الواقع والظروف المحيطة، وتصح نظرية ابن خلدون ونبكي جميعاً على ملك وتاريخ وجغرافيا لم نحافظ عليها كمال الرجال، كما أبي عبد الله وقت قيل زيفاً زفرة العربي الأخيرة، ولم يدر المؤرخون ماذا يخبئ التاريخ للعرب اليوم .
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية