حدث تاريخي عظيم: النمس يتأهل... خطيب بدلة

قرأتُ، في إحدى الصحف العربية، مقالةً تَحْمِلُ العنوان التالي: "نمس باب الحارة يصاهر الجعفري"..

الحادثة بحد ذاتها، أقصد حادثة زواج السيد مصطفى الخاني، في رأيي المتواضع، ليست مهمة، لأن الشعب العربي- رددتُ العينَ عنه- لا يكل ولا يمل من الزواج،... وإنما المهم، هنا، هو هذا العنوان الجذاب الذي يُحيل تفكير القارئ إلى أحد أجزاء المسلسل السوري الشهير "باب الحارة" الذي ابتدعه المخرج بسام الملا، ليكون امتداداً لمسلسله "أيام شامية"، ثم بدأ يتناوب عليه عدد من المؤلفين والمخرجين..

يختص مسلسل "باب الحارة" بتسلية المشاهد العربي بحكايات فولكلورية سورية تدعو إلى تمجيد القيم التي يزعمون أنها كانت سائدة في المجتمع السوري قبل قَرْنٍ من الزمان، وتتلخص في تَحَلِّي رجالِ الحارة "الذكور" بالنخوة، والشهامة، والمروءة، وإغاثة الملهوف، والتعاطف مع الجار، والصدق، والاستقامة، والزواج بأكثر من "حرمة"، وغض النظر عن أعراض الناس،... وأما المرأة فيُظْهِرُها هذا المسلسلُ على أنها ضعيفة الشخصية، ثرثارة، علاكة، غيورة، لا هم لها في هذه الحياة الفانية سوى إرضاء زوجها (حتى ولو حَرَقَ حضرتُه قلبَها بزواجه عليها دون سبب)، والتباهي به وبإنجازاته في عالم "القبضاوية" و"الاستقامة".

إن الحالة الوطنية القصوى، في عالَم "باب الحارة" النبيل، تتجلى في عدم تعامل ابن الحارة الشهم مع المحتل الفرنساوي، وإذا ارتفعت الحالة الوطنية أكثر فالمفروض به محاربة الفرنساوي، ولكي تبرز هذه الحالة على نحو أكثر جلاءً لجأ مؤلفُ الجزء الخامس إلى مبدأ (الضدُّ يُظهرُ حُسْنَهُ الضدُّ)، وأوجد شخصية الجاسوس (الداسوس) مأمون بيك التي أداها بأريحية عالية الفنان فايز قزق، وأما حالة الاستقامة التي لا تعرف (الطَعْوَجة)، فأظهروها من خلال شخصية "النمس" التي لعبها مصطفى الخاني بنجاح منقطع النظير، وكأنه- في الحقيقة وليس في التمثيل- "نمس"!.. 

في الجزء السادس تابع مصطفى الخاني استعراض إمكانياته في صنع الكاراكترات النادرة، فقدم شخصية "الواوي" المركبة القادرة على ارتكاب الجريمة بحرفية عالية، وعلى إيذاء أهل البلد، والتعامل مع الفرنساوي دون حياء أو خجل.

إن تأدية أي ممثل لكاراكتره التمثيلي بنجاح يجعل الناس يستخدمون اسم الكاراكتر أكثر من الاسم الأصلي، فحتى حينما يَرَوْن أصحاب الكاراكترات  في مسلسل آخر يقولون: شاهدنا مسلسلاً يمثل فيه أبو صياح وغوار وفطوم حيص بيص وأبو فهمي وأبو عنتر، بدلاً من أن يقولوا: رفيق السبيعي ودريد لحام ونهاد قلعي ونجاح حفيظ وفهد كعيكاتي وناجي جبر.. وعلى هذا المنوال قالوا: "نمس" باب الحارة يصاهر الجعفري.

الحقيقة التي لا يمكن للمرء أن يتخطاها، أو يتجاهلها، أن السيد بشار الجعفري، الذي سيصاهره النمس، لا يقل موهبة في أداء الكاراكتر التمثيلي عن أي ممثل بارع عرفه المسرح أو شاشة التلفزيون خلال نصف قرن من عمر الدراما السورية والكوميديا السورية... ومعروف أن أول شرط لازم لنجاح الكاراكتر هو الشكل الخارجي (الفيزيك)، والثاني هو الإضافات التي يجتهد عليها الممثل، ثم يبتدعها ويجعلها ملمحاً مميزاً لكاراكتره، وهي عند الجعفري النظارة الطبية التي يزحلقها إلى آخر منطقة في أسفل أنفه، وتساعده على إرسال نظرة دائرية ثاقبة يمسح بها وجوه أعضاء مجلس الأمن، أو الجمعية العامة، ويبدأ بإلقاء خطابه المليء بالأكاذيب والأضاليل، بطريقة تسحر القلوب حتى ليكاد الحاضرون يصدقون، بالفعل، أن النظام السوري ديمقراطي، مدني، يحكم البلاد من خلال المؤسسات الديمقراطية، ورئيسه ينتظر انتهاء مدته الدستورية ليذهب إلى بيته ويتفرغ لكتابة مذكراته التي ينتقد فيها نفسه فيما قَصَّر تجاه الشعب خلال هاتيك الفترة، بينما الشعب السوري مجرم، عتليت، معتدٍ، استجاب لنداء المؤامرة العالمية، وهب ليعتدي على النظام ويقض مضجعه، ويضرب عملية التداول السلمي القائمة في البلاد!

أخيراً: أرجو من السادة القراء أن ينتبهوا إلى أنني، محسوب الطيبين، لم آت على ذكر الآنسة التي سيتزوجها مصطفى الخاني، لأنني، بالفعل، أحترم هذه الخصوصية.. ولكن لا بد من القول، بكل وضوح، أن هذا النمس يليق بذلك الجعفري  شاهد الزور على مأساة الشعب السوري.