قبل الوصول إلى المطبخ والبحث فيه عن السكاكين التي سنقطع بها قالب حلوى عيد زواجنا الثلاثين، لا بد من الإشارة إلى أن الديمقراطية هي اختراع ذكوري بامتياز، ولا علاقة للنساء بها لا من قريب ولا من بعيد، إلا أن تطور الحياة البشرية حولتها إلى مطلب جماهيري لأسباب قد تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، فديمقراطية النساء في كندا مثلا يختلف مضمونها عن ديمقراطية النساء في سوريا أو في مصر، كمان أن للأولاد ما دون الثامنة عشرة من العمر تفسيرهم المختلف للديمقراطية عن أنفسهم عندما يصبحون بالغين. وهنا لا أريد الدخول في تفاصيل وأنواع الديمقراطية، فليس لي مصلحة في دخول "عش الدبابير" ذلك، وإنما سيقتصر كلامي عن التحولات الديمقراطية في منزلي، فما ينطبق علي قد ينطبق على غيري، مع فارق أنني أنا قد أحرقت سفني وقررت نشر غسيلنا القذر على الحبال، ولست خائفا بعد الآن من شيء، فقد نلت نصيبي من زوجتي ديمقراطيا، لذلك قررت أن أرمي في وجهها، ووجه مثيلاتها هذا الاعتراف، وليحدث الطوفان، بعد ذلك كما حدث في الكتلة الديمقراطية بين الأستاذ ميشيل كيلو "والمطبخ السري" للأستاذ أحمد الجربا، رئيس الائتلاف السابق، ورغم أن تعبير "مطبخ سري" يوحي بالفتنة المعوية أو أفضل سبل الوصل إلى قلب الرجل، أو الأكلات السرية التي تعيد الشيخ إلى صباه، إلا أن ما تسرب عن مطبخ الائتلاف المعارض أصابنا جميعا بتلبك معوي حاد شجعني على نشر غسيلنا المنزلي، فمادام زعماء الشعب السوري غير قادرين على ممارسة الحوار الديمقراطي، رغم أن السيد نبيل سليمان كان قد نشره قبل سنوات في "دار الحوار"، فلا عتب علي، أنا الديمقراطي الصغير في فضح ممارسات مطبخنا المنزلي.
ولنبدأ بالحكاية منذ بداية زواجنا، أو قبل ذلك بقليل، فقد استمرت خطبتنا ثلاث سنوات، حصل خلالها الكثير من الأمور، منها مثلا، سقوط بيروت تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتدمير حماه بعد ذلك بقليل، من قبل جيش حافظ الأسد، وانتصاره التام والساحق على المجتمع المدني السوري وقواه السياسية والثقافية، وعودتي إلى سوريا، وافتتاح مكتبة، آملا بالمساهمة في نشر الثقافة الديمقراطية، رغم أن هذا الأمل كان يتناقض كليا مع المقدمات التي أرساها حافظ الأسد في سوريا، ولكن الإنسان على ما يبدو يحب أن يخدع نفسه، ولا يصدق المقدمات التي تشير إلى نهايات مأساوية كما هي حالتنا الآن في سوريا، منذ ذلك الوقت بدأ حوارنا الديمقراطي، كنت أنا الطرف القوي فيه، فأنا الرجل أولا، وأنا الذي كان يسكن في عاصمة الثقافة العربية بيروت، وبما أن خطيبتي كانت ككل المثقفين السوريين الحالمين بهجرة سوريا والذهاب إلى أي مكان في الدنيا لا يوجد فيه آل الأسد، رأيت في بيروت مكانا معقولا كبداية. على أمل الوصول إلى كندا فيما بعد، لذلك كانت في حواراتها الديمقراطية معي سهلة وسلسلة الانقياد، وبعد أن تزوجنا واستقرينا في سوريا، كنت أنا الزوج الديمقراطي الذي تصفق له زوجته بعد كل نقاش حميمي بيننا يتخلله الضم والعبط والقبلات، وينتهي في السرير. في ذلك الزمن كانت زوجتي متفرغة للمطبخ، تحضر فيه كل الوجبات السرية التي تجعل قلبي يخفق فرحا. كانت تقول لأصدقائي: إن ميخائيل أفضل رجل ديمقراطي، فهو يأكل كل ما أحضره في المطبخ، ولا يتذمر مني إذا تأخرت في كوي ثيابه، ولم يجبرني ولا مرة على الذهاب إلى بيت أهله، أو زيارة أقربائه، وكان يتركني اذهب إلى عند أهلي ويزودني بالمال اللازم لذلك، فهل رأيتم أحسن من هيك ديمقراطي، هكذا كانت تختم كلامها؟
وبما أن دوام الحال من المحال، فقد قرر الأسد، في نهاية الثمانينيات، أن يرسلنا إلى كندا، ليس كمهاجرين قسريين كما قد يخطر ببالكم، وإنما كباحثين عن المتعة لتذوق الديمقراطية الغربية في مطابخها الحقيقية، قال: حاجتكم "نق هون" على الديمقراطية، روحوا تعلموا معناها هناك، ثم "نقر" كل واحد منا كفا على "نقرته" ونحن على أبواب الطائرة. في البداية كانت زوجتي منزعجة جدا من فكرة مغادرة سوريا، خوفا من المجهول، ولكنها سرعان ما اكتشفت، كجميع المهاجرات، حجم المكاسب التي تتمتع بها المرأة الكندية، سواء كانت عاملة أم سيدة مطبخ، متعلمة أم أمية، مهاجرة أم بنت البلد الأصلية، لا فضل لامرأة بيضاء على أخرى سوداء عندما يرن جرس هاتف الشرطة ويكون الموضوع هو شكوى المرأة على زوجها، وبما أن الرجل هنا هو المشكوك في ولائه لزوجته وديمقراطيته، فإنه يتم القبض عليه مباشرة ووضعه في السجن لمدة ثلاثة أيام، قبل سؤاله لماذا اعتدى على زوجته أو نظر إليها "شذرا"، فهذه الكلمة العربية تحمل قدرا من العنف يحاسب عليها القانون، لذلك وضعت "طماشات" على عيوني كي لا أستطيع النظر "شذرا" في وجه زوجتي، إلا أن ذلك لم يكن يمنع عني رؤية التحولات في لهجة زوجتي، فبعد أن كانت كلمات مثل: حبيبي، حياتي، عزيزي أبو عمرو الغالي، تسبق طلباتها، تبخرت ليحل محلها كلمات مثل: وينك يا أخونا، شوباك أبو عمرو، ولك ليش ما عم تعمل اللي بطلبه منك، إلى آخر المعزوفة الديمقراطية النسائية الكندية الوافدة إلى مطابخنا الشرقية وغرف نومنا. أما التغير الكبير فقد كان بعد أن بدأت تعمل، وأصبحت هي المنتجة الرئيسية في البيت، فقد أصحبت تصدر الأوامر كما كنت أفعل أنا أيام سوريا، بل كانت لا تتوانى عن تحديد نوعية الغزل الذي يجب أن أقوله لها في غرفة النوم وأمام صديقاتها اللواتي كن يتنافسن فيما بينهن حول قيادة بيوتهن.
أخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من بيوت الأسر السورية المهاجرة، التي أصحبت المرأة فيها هي المنتجة، فقد فيها الرجل سلطته أو سطوته، وتم ترسيخ مفهوم جديد للديمقراطية داخل المنزل، تكون فيه المرأة، صاحبة المال، هي المقرر الأساسي، وما على الرجل الذي لا يعجبه الأمر إلا حزم حقائبه والمغادرة بالتي هي أحسن، وليتكلم بعدها، وهو خارج البيت، عن عيوب الديمقراطية قدر ما يشاء. فقد انتهت ديمقراطية الذكور الآن، كما انتهى معها عهد المطابخ السرية بعد أن انتفت الحاجة إليها، فقد أصبح الأكل كله مستوردا من الخارج.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية