أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سوريا وحدة الألام .. آشور دياب


مشفى المواساة، ديسمبر ذات شتاء:
أدركتُ خلالَ وجودي في المشفى في أقلِ من ساعتين من خلال عدة مشاهد إنهُ وحدهُ الألم من يوحد السّوريون...أليسوا أبناءَ وطنٍ واحد؟؟
أقفُ في الرواق لزيارة والد صديقي الذي يقضي عدةَ أيامٍ فيها نتيجةً لوعكةٍ صحيةٍ أدخلتهُ في غياهبِ المرضِ...
على مدخل قسم الإسعاف تتزاحمُ الأسِرة المعدةِ لنقلِ المرضى إلى قلبِ المشفى بسرعة’ وعلى أحدِ الأسِرة تنامُ جثة مغطاة بملاءة بيضاء غير أبهة بما يجري حولها و لا تخافُ أن يتلصصَ عليها أحد أو يزعجها بالأسئلة الفضولية, هي بكل الأحوالِ لن تردَ على أحدٍ!!
فاجأني المنظر و لكن ماأثارَ دهشتي أنَ الناسَ يمرونَ جيئةً و ذهاباً دونَ أن يعيروها إي انتباهٍ و كأنها شخصٌ نائمٌ على قارعةِ الطريق, انتابني الفضول فسألتُ أحدى الممرضات وقد تزاحمت الأسئلة في داخلي:
من هذا؟ وكيفَ قُتل؟ وأينَ أهله؟ و لماذا هنا؟
أجابت بكل بساطة: محدا يعرف!! هاد واحد من هالشعب اللي عم يموتوا كل يوم!!
أذهلني الجواب فعلى قدرِ ماصدرنا للعالم مذابحنا على مدى ثلاثِ سنوات, تم أتلاف الحياةِ الشعورية لأناسٍ اعتادوا رؤيةَ الموتِ.. أليست كارثة؟؟ أنَ الناسَ لايبدون مهتمين بجثة أنسانٍ أخر لايرونَ شبهاً بهِ, و لاقرابة بمواجعهم معهُ... أدركتُ صدقَ ماقالت لي الممرضة: هوَ بكلِ بساطةٍ أحدُ أبناءِ هذا الوطن...
عجوزٌ تجاوزَ الثمانينَ من العمر مصابٌ بطلقٍ ناري أثناءَ عودتهِ إلى بيته لايعرفُ مَن أطلقَ النارَ عليه؟ ولا لما؟ والذنبُ الذي أقترفهُ؟ هو لايهتم إن كانت رصاصةَ الأعداء أو نيرانٌ صديقة يكتفي بالصمت, صمت الحكماء السرمدي!!! تحاولُ الممرضات محاورته للحصولِ على إي رقم هاتف لأقربائه, أبناءه أو إي شخص قد يتعرف عليه دون جدوى.. هو بكلِ بساطةٍ أحدُ أبناءِ هذا الوطن...
شابٌ في مقتبلِ العمر أصيبَ مباشرةً بقذيفة جعلت منه بقايا كائن مثخن بالجراح لايتحرك, لاينطق, لايفعل شيئا سوى محاولة البقاء حيّاً, يصارعُ الموتَ بكلِ الأسلاكِ و الأنابيبِ المتصلة ببقايا جسده, تجلسُ أمهُ بجانبهِ و تدعي ربها أن يبقي فلذة كبدها حيّاً رغمَ مصابه فهي تفضلُ أن يقضي حياتهُ شبهَ حيّاً بجانبها على ترفِ الحياةِ من دونه.. تقولُ بأنَ ابنها موظفٌ بسيط لاعلاقةَ له بالنزاع الدائر في البلاد " ليش صار معنا هيك و الله ابني بعمرو ماكان لامؤيد و لامعارض" هوَ بكلِ بساطةٍ أحدُ أبناءِ هذا الوطن....
لكنَ المشهدَ الأكثر إيلاماً كانَ مظهرُ الجنود الأربعة الذين أتت بهم سيارة الإسعاف أثرَ أصابتهم بانفجارٍ ضخم, كانوا كَمن سُلقَ حيّاً و قد سُلخ جلدهم كاملاً, كانَ المشهدُ مؤثراً جداً, يرتجفونَ برداً و يصرخونَ ألماً و يصيحونَ هلعاً خوفاً منَ الموتِ بعيداً عن ذويهم, حتى أنَ الأطباءَ احتاروا بالطريقة المثلى لجعلهم يَستلقونَ على الأسِرة إذ إنهُ لم يبقى شبرٌ واحدٌ من أجسادهِم يصلحُ للاستلقاء حتى وجوهَهُم أختفت ملامُحها... كانَ صراخهم يترددُ في أروقةِ الإسعاف ويطاولُ عنانَ السماءِ وكأنهُ صراخُ ألفِ ألفِ شيطانٍ يتلظونَ في أعمقِ أعماقِ سَّقَر, مازالَ صوتُ صراخهم يترددُ في أذني حتى اللحظة!! ... وضعوا أحدهُم في نفسِ غرفةِ والدِ صديقي, كان حيّاً ومدركاً لكل مايدورُ من حوله, مستنفرُ الحواسِ, ينظرُ إلي بعينانِ لاتريان و يصرخُ صراخاً لم أعهدهُ من بشرٍ لم تنتج كل مؤثرات الصوتِ في استوديوهات هوليود صوتَ أنسانٍ يتألمُ من أعمقِ أعماقه بهذه الكيفية في أشهرِ أفلامِ رُعبها على مدى عقود!!!
قالَ لي: "الله يخليك بردان غطيني"... قمتُ بتغطيتهِ ببطانيةٍ كانَ قد لُفَ بها..
قلتُ لهُ: "طول بالك لاتصرخ هلا بيخدروك وترتاح"..
أجابني: "عم أصرخ مشان أرتاح" في صغرهِ قالت لهُ أمهُ: "عندما تتألم أصرخ, فوحدهُ الصراخ يُنهي الأوجاع"...
هو لايصرخُ إذاً بل يمارسُ ذاكرتهُ... هوَ بكلِ بساطة أحدُ أبناءِ هذا الوطن...

بعدَ دقائق جاءت سيارة مسرعة أنزلت شاباً لم يتجاوز الثلاثينَ من عمرهِ ينزفُ دماً وألماً, مصابُ بشظية جراء سقوطِ قذيفةٍ على منطقةِ البرامكة, لم تلبثُ أن توالت سياراتُ التكسي الصفراء تنقلُ نساءً و أطفالاً و رجالاً من شتى الأعمارِ و الانتماءاتِ يوحدهم الألمُ نفسهُ جراءَ سقوطِ القذيقةِ ذاتها لتبعثرَ أمالهم و أحلامهم جميعاً مع شظاياها... أليسوا أبناءَ هذا الوطن؟؟...
عدتُ إلى الممر فوجدتُ عمالَ المشفى منهمكينَ بتنظيفِ الدماءِ عن سريرِ الجثةِ بعدَ أن قاموا بنقلها إلى مكانٍ ما... كيفَ يهنأُ هذا السرير الذي كانت تنامُ عليهِ جثة, وقد غَسَلوه خوفاً من ثرثرتهِ في محاولةٍ لغسلِ ذاكرةِ الوطن من دمِ أبناءهِ!!....
أصبحت مشكلةُ أبناءِ هذا الوطن أنَ لا وقتَ لديهم للحياة, ثلاثةُ أعوامٍ وهم مستغرقونَ بالموتِ, حتى إنهم بعد أن مِلوّا و أثناءَ انشغالهم بالبحثِ عن أقلِ أسبابِ الحياةِ نَسَّوا لماذا هُم يموتونَ؟؟ أثناءَ انشغالهم بالبقاءِ أحياء نَسَّوا أن يحيَّوا, فلا الذينَ ماتوا هنئوا بموتِهم و لا الأحياءُ نَعِموا بحياتهم!!...
هنا بدأت أسئلتي الوجودية تتراكم:
كيفَ يمكنُ لوطنٍ أن يُلحقَ أذى بأبنائهِ؟؟
هل الأوطانُ تلتهمُ أبنائها من غيرِ جوعٍ؟؟
كيفَ يرمي وطنٌ أولادهُ إلى المشافي وإلى المقابرِ غيرَ معنيٌ بأمرهِم؟؟
أليست " الذكريات إلا تراكم الحاضر"؟؟ كما يقولُ رينه شار, فماذا تركَ هذا الوطن للسّوريينَ ليبنوا بهِ ذاكرتهم؟؟
لم أبحث لهذهِ الأسئلةِ عن جوابٍ " الأجوبة عمياء... وَحدَها الأسئلة تَرَى"...

(129)    هل أعجبتك المقالة (117)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي