أعادت الحرب الصهيونية على غزة والتي بدأت في 7/ تموز-يوليو/2014، بعد خطف ثلاثة مستوطنين صهاينة، القضية الفلسطينية إلى الواجهة. لكنها إعادة في سياق تاريخي مختلف تماماً عمّا قبلها.
جاء هذا العدوان بعد انطلاق ثورات الربيع العربي الذي وصلت شرارته إلى سوريا في آذار 2011. هذا البلد الذي تذرّع النظام الحاكم فيه منذ ما يزيد على الأربعة عقود، بالقضية الفلسطينية والأراضي السورية المحتلّة، كغطاء لشرعنة سيطرته، والتي مرّت بدورها بعدّة مراحل هامّة، تمرحلت بثلاث: حكم الأب، ثم وريثه، ثم القيام عليه بثورة، كانت نتيجة طبيعية لتراكمات تلك العقود من القهر والاستبداد والاستعباد، وما اكتنفها ونتج عنها من تجهيل وإفقار وإذلال.
لم يكُن متوقعاً بعد العدوان الأخير على غزة، أن يحرّك النظام السوري ساكناً. كل التجارب السابقة تثبت أن هذا لن يحصل بحال من الأحوال، كعدوان 2009، ثم، 2012، والعدوان الحالي، مروراً بكل الاعتداءات على لبنان والتي كان آخرها في العام 2006، حيث أُغلقت هذه الجبهة بفعل القرار الدولي 1701، والذي جاءت تصريحات الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله لتؤكّد عدم النية في فتح هذه الجبهة بعد لقائه المبعوث الرئاسي الروسي ميخائيل بوغدانوف قبل انعقاد مؤتمر "جنيف 2". قال نصرالله مخاطباً بوغدانوف: "تستطيعون أن تنقلوا للإسرائيليين أن أهدأ مكان في الدنيا هو على الحدود اللبنانية الجنوبية، لأن كل اهتمامنا منصب على ما يجري في سوريا، وأنّه لا توجد لدينا نية لفعل شيء في هذه المنطقة". هذا ما نقله بوغدانوف لفيصل المقداد.
إذاً، المسألة محسومة بالنسبة لهذا الحزب، وهي محسومة أصلاً بالنسبة للنظام السوري. لكنها محرجة لكليهما، فأبرز الاتّهامات التي وجّهت للشعب السوري بعد أن انتفض على نظامه، كانت تهمة التعامل مع "إسرائيل"، وهي التهمة الأسهل بالنسبة للنظام، حيث كانت توجّه لكل من يعارضه في مختلف مراحل حكمه. إضافة إلى أنّها واحدة من بين الكثير من مبرّرات القتل الطائفية الأسوأ التي اعتمدها النظام والمتحالفون معه.
بقي أن الموقف الروسي كان أكثر إحراجاً، خاصة أن النظام عكف في السنوات الماضية على تسويق الموقف الروسي وكأنّه منسجم تماماً مع الموقف السوري من القضية الفلسطينية وباقي الأراضي المحتلة، ليدعو المندوب الروسي الدائم في "الأمم المتّحدة" فيتالي تشوركين الطرفين "لوقف متبادل لإطلاق النار، وقبول المبادرة المصرية". هذه المبادرة التي رفضتها المقاومة على الفور. ولمواجهة الإحراج، وقطف ثمار ما سينتج عن هذه الحرب التي راح ضحيتها المئات في غزة، والتي تماثلت أحداثها مع الأحداث المأساوية في سوريا، عملت الماكينات الإعلامية لهذا المحور على تسويق فكرة مفادها أن الأسلحة المستخدمة في الصراع مع العدو، أسلحة سورية، ليسارع عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" أسامة حمدان ويقطع الخط عليهم عندما صرّح بأن كل الأسلحة التي استخدمت في هذه الحرب، أسلحة مصنّعة محلياً، في إشارة إلى فهمهم لمحاولات النظام وحلفائه. تأتي الإتّصالات الإيرانية بخالد مشعل ورمضان شلح في السياق نفسه، وللإيحاء بأن هذا الحلف مازال على مواقفه الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني. مع أن كثيرا ممّا يجري على الأرض ينسف كل هذه المحاولات، كالعلاقة السيئة مع "حماس" وهي أكبر الفصائل وأقواها على الإطلاق، "حماس" التي تركت دمشق في بداية الثورة كي لا تتورّط بالدم السوري. عدا عن الجرائم التي لم يتورّع النظام السوري عن ارتكابها بحق اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان وفي كل المراحل السياسية في المنطقة، ثم استخدام بعضهم في حربه على شعبه كمجموعات "الجبهة الشعبية –القيادة العامّة" التي حوّلت حياة اللاجئين في المخيمات المنتشرة في سوريا إلى جحيم لايختلف عن جحيم غزة.
الأخطر من كل ذلك، هو ما نقله موقع "روترنت" في 22/ تموز: "المخابرات السورية تزوّد إسرائيل بمعلومات عن نُظم صواريخ حماس، مقابل معلومات عن تحرّك المسلّحين في درعا والقنيطرة". وللفضيحة هنا حظّها من الصدق، فهي مدعومة بطمأنة ابن خال بشار الأسد وواجهة النظام المافيوية الاقتصادية في أيار 2011 رامي مخلوف عندما صرّح بأن: "أمن اسرائيل من أمن سوريا". ناهيك عن الضربات "الإسرائيلية" المستمرّة لأهداف في الأراضي السورية، والتي ابتدأت منذ قصف معسكر "عين الصاحب" بالقرب من دمشق عام 2003، ثم "المفاعل النووي" في "الكبر" بدير الزور 2007، وما تلاها خلال الثورة، القاسم المشترك الوحيد في كل هذه الاعتداءات ليس فقط الرّد الروتيني المستهلك للنظام: "سنرد في الزمان والمكان المناسبين"، بل الثقة الصهيونية بديماغوجية هذا الرّد الموجّه للداخل وللاستهلاك المحلّي فقط وتعبيره عن العجز الظاهر، والذي كان يقابل دائماً بتكرار العدوان دون أي حساب لأي رد لن يأتِ.
ستترك الحرب "الإسرائيلية" على غزة آثارها التي لن تمحى بسهولة، هذه المرّة ليس لدى هذا المحور أي طريقة لتغطية تخاذله، خاصة وأنّها الحرب الثانية التي تشتعل في ذات الظروف، بالتزامن مع الحرب على الشعب السوري.
هذا يعني أن القضية الفلسطينية ما عادت تؤمّن للنظام شرعيته داخلياً، أي أمام شعبه، والذي كان الأسبق في تبنّي هذه القضية التي دفع في سبيلها الكثير قبل أن يستغلّها النظام لتثبيت سيطرته. لكن الظروف تغيّرت بعد الثورة التي جاءت كنتاج لتراكمات كل هذه العقود من القهر والاستبداد، فما عاد يجدي أي تبرير لتضليل الداخل الذي فكّك بنيته المجتمعية قتلاً وتنكيلاً وتهجيراً وتدميراً، ليجد بـ"مكافحة" الإرهاب الذي صنعه بنفسه، أو شارك بصنعه، كالمنظّمات الأصولية المتطرّفة، ذريعة يخاطب بها الخارج لإعادة إنتاج شرعيته.
*كاتب سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية