أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شلة الختيارية... ميخائيل سعد

طفلة سورية - وكالات

بعيدا عن ساحات الوغى وقرقعة السلاح وشحذ السكاكين العلمانية الأسدية والإسلامية الداعشية، هنا، في مونتريال، مجموعة كبيرة من المراكز التجارية المكيفة صيفا، والمدفأة شتاء، حيث السلام والاستقرار يسود، ليس لوجه الله ونشر دين المسيح، وإنما لإخراج الدولارات من جيوب المواطن بطريقة حضارية وديمقراطية دون إكراه، ففي النظام الديمقراطي الغربي لا إكراه في الصرف، ستصرف مدخراتك وأنت "حباب"، وليس كما في سوريا تحت تهديد عصا رامي مخلوف ورفسات الأبواط العسكرية، لذلك لا مبرر لأن يلتقي الناس مع بعضهم في البيوت، "فأكل السوق دائما أطيب وأرخص"، والمكان أوسع، والنقود "الفراطة" الموجودة في جيوب شراويل الختايرة العرب، تبقى في جيوبهم، وأكثر ما يمكن أن يتكارم فيه أحدهم على نفسه أو على الآخر هو ثمن فنجان من القهوة، يقدمه اليوم على أمل استرداده غدا. وعادة يوجد مركز أو أكثر في كل منطقة، ومنها المناطق التي يتواجد فيها العرب بكثرة، ومن هذه مركز "لافال" التجاري، حيث تتواجد مجموعة من السوريين كل يوم، من الساعة الثانية عشر إلى الثانية بعض الظهر، يجتمعون على نية التفاخر بما أنجزوه في يومهم السابق، والنميمة بحق من يتأخر عن الجلسة، ويتبادلون الأخبار السورية، ويرشدون بعضهم على الدكاكين التي تبيع الخضار والفواكه بسعر رخيص، ويتبادلون المعلومات الطبية الحديثة التي تستخدم العلاج الطبيعي المعتمد على النباتات، وخاصة تلك التي تعيد الدماء إلى العروق الجافة، أو التي تخفض الضغط والسكر بأقل جهد عضلي ممكن.

ولما كنت قد أصبحت عمليا في عداد المتقاعدين، فقد اتصل بي صديقي الدمشقي أبو رياض لمعرفة ما إذا كنت سأحضر إلى جلسة اليوم، فأخبرته بنيتي في الحضور، وهكذا وجدت نفسي من جديد في شلة الختايرية، صحيح أنني أصغرهم سنا، وأكثرهم شبابا، فأنا في مطلع الخامسة والستين فقط، إلا أن علم التصنيف يضعني في شلتهم، ولا مهرب من حكم الزمن رغم الفواريق التي تصل إلى عشرين عاما بيني وبين أكبرهم وهو الصديق أبو رامي.أما القاسم المشترك الآخر، غير تصنيف التقاعد الذي كان يجمع ما بين هذه "الأحجار الكريمة" من العرب المهاجرين، فهو اهتمامهم بالنساء العابرات قرب طاولتهم، فقد كان مرور صبية رشيقة القوام، كعب كندرتها "يرقع رقعا" على البلاط، يقطع عليهم التركيز في حديثهم عن حرب الإسرائيليين على غزة الجريحة، ورغم الشعر الكثيف الذي يتواجد عادة على بوابات أنوف العجائز مشكلا عائقا طبيعا أمام استنشاق روائح المجازر الأسدية أحيانا لبعد المسافة، إلا أن ذلك لم يكن يمنع تسلسل عطر هذه الفتاة أو تلك، كما يتسلل اللصوص، إلى رؤوس هؤلاء المسنين، فيطيش صوابهم، وهم في ذلك محقون وأنا أولهم، وشكرت الله، سرا، أن حدود كندا بعيدة عن حدود سوريا، وأن كندا لا تقبل لاجئين سوريين تحديدا، وإلا لكان وجد كل عجوز منا لاجئة سورية شابة أو أكثر فتزوجها بحجة ستر عرضها، كما يحدث في دول الجوار السوري، في الأردن والسعودية والعراق ولبنان وتركيا، وداخل سوريا ذاتها، هناك حيث لا يلاحظ الناس الفرق في الأعمار بين زوجين: عجوز في السبعين وصبية في الخامسة عشر، وإنما يهمهم أكثر هل "اللحم" حلال أم حرام. ولقد لفت انتباهي في أحاديث هؤلاء "العقلاء" عن النساء أن المسيحي فيهم مثل المسلم، رغم إنكارهم هذا، فهم يتفقون مع المسلمين على صحة التشريع الإسلامي الذي يتيح للرجل حق الزواج من أربع نساء، وأن القوانين الغربية والكندية خاصة قوانين جائرة بحق الرجل في منعها تعدد الزوجات، والأنكى من ذلك، في مساواتها بين الرجل والمرأة في الحقوق، وكنت أسأل نفسي مستغربا كيف أنهم، أقصد الرجال المسيحيين والمسلمين، يتفقون على هذا الأمر بينما يتذابحون على أمور أبسط من ذلك بكثير.

وقبل أن أختم نميمتي هذه، لا بد من الإشارة إلى أن الطاولات المجاورة كانت تضم خليطا متعدد الأعراق، فهناك طاولة أرمنية يتحدثون العربية بين وقت وآخر، وإلى جنوبها طاولة حلبية مسيحية صرفة، وإلى الغرب منها طاولة إسلامية، وإلى شرقها قليلا طاولة تجمع سريانا سوريين وعراقيين، يتبادلون الأماكن حول الطاولة بسهولة، فهنا، الحدود الموجود بينهم في سوريا والعراق، قبل تهجيرهم من الموصل، والتي كانت تعيق حركتهم وتزاوجهم غير موجودة، ما بقي من تلك الحدود هو اللهجة العراقية واللهجة السورية، وانواع الطعام المختلفة والأذواق المختلفة في الملبوسات وأشياء أخرى سورية وعراقية! ولكن "المهم" أن الإيمان واحد.

للأمانة التاريخية، بقي ضرورة الإشارة إلى أن طاولتنا، طاولة علمانية، متعدد الأديان والطوائف والمناطق والتوجهات السياسية، والحوار، في أغلب الأحيان ينتهي بود يسمح لنا بتجديد الموعد القادم وتحديد زمانه.

من كتاب "زمان الوصل"
(138)    هل أعجبتك المقالة (144)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي