عماد نداف ينكت عظام الموتى

لو أن أخانا "سيبويه" ما يزال موجوداً على قيد الحياة، وحَضَرَتْهُ المنية، لكان شَخَصَ بعينيه نحو السماء، ورفعَ سبابةَ يده اليمنى بالتشهد، ثم قال:
- أموتُ وفي نفسي شيء من عماد نداف!
إن مَن يبحث عن اسم السيد عماد نداف عبر محرك البحث (google) سوف يفاجأ بأن معظم المواقع الحكومية السورية تسميه "الإعلامي الكبير"! وهي تسمية مخيفة قد لا تنطبق على إعلامي سوري واحد، سواء من الموالين للنظام أو المعارضين له، فكيف أُعْطِيَتْ له بهذه السهولة؟!
عماد نداف، للعلم، رفيق شيوعي, وهذه، بحد ذاتها، ليست ميزة، ولا هي نقيصة، فأصلُ الفتى- كما يقول ابنُ الوردي في لامِيَّتِهِ- ما قد حصلْ، ولكن الطريف في الأمر أنه "بكداشي"، يعني من جماعة "الثوابت" القومية والوطنية، والأممية البروليتارية، والقناعات التي لا تتغير مهما تغير الزمن، وفي الوقت نفسه محسوب على أنصار الرفيق يوسف فيصل الديمقراطيين التغييريين الذين انشقوا عن خالد بكداش بسبب الإعجاب الشديد الذي كان يكنُّه هو وزوجته الرفيقة "وصال" للقائد الخالد حافظ الأسد.
أنا، محسوبكم، ومن حسن الحظ، لم أُصَبْ بداء البكداشية قَطُّ، ولكنني كنت صديقاً حميماً لجماعة يوسف فيصل، وفي سابقة ملفتة للانتباه، خصص لي الحزب الفيصلي، أنا غيرَ الشيوعي، زاويةً أسبوعية ثابتة في جريدة النور بعنوان "مَقْرَأ على كيفك"، وتركوا لي هامشاً للانتقاد لم يكن يتمتع به الكتاب الشيوعيون الملتزمون أنفسهم، حتى إنني تهكمتُ، في أكثر من "مقرأ"، على الجبهة الوطنية التقدمية، رغم عضوية هذا الفصيل الحزبي فيها.. وبقيتْ زاويتي مستمرة إلى بداية الثورة السورية حينما تسلم زمام الأمور في الجريدة الرفيق المناضل "باسم عبدو" الذي وجد أن صوتي قد أصبح ناشزاً فأوقفها.
كان بعض الأصدقاء الشيوعيين، يسألونني، حينما أكون في الشام وألتقي بهم: ألا تقرأ ما يكتبه عماد نداف في جريدة النور؟ فأشعر، من خلال هذه الأسئلة، أن النداف (شي مهم)، وأخجل لأني لا أقرأ له، وأعاهد نفسي أن أقرأ له اعتباراً في أول فرصة سانحة.
وفي ذات يوم، عثرتُ في جريدة النور، على زاوية لعماد نداف تحمل عنوان "الصورة".. فهرعت لقراءتها، ووجدتُ فيها تفنيداً ذهنياً لبعض الحالات التي تكون الصورة فيها ذاتَ ضرورة، أو أهمية، أو جمالية خاصة.. وحينما وصلتُ إلى خاتمة المقالة، شعرتُ وكأن أحداً ما سفح على رأسي سطلاً من الماء الساخن، إذ وجدت الإعلامي (الكبير) عماد نداف يبدي إعجاباً خاصاً بصورة للسيد الرئيس حافظ الأسد!.. ويستنتج، ببراعة غير مسبوقة، أن الصورة لا تستمد جماليتها من وسامة الرجل المُصَوَّر، وتناسق قسمات وجهه، وإنما من خلال أهمية شخصيته، وعمقها، وغناها، وهيبتها.
على إثر تلك المقالة العجيبة أصبح عندي مع اسم عماد نداف ما يشبه (المُنْعَكَس الشَرْطي)، فأصبحت، بمجرد ما أرى اسمه في مكان ما أقلبُ الصفحة، تلقائياً، وأمنع نفسي من ممارسة الفضول لمعرفة محتواها، متيقناً من أنه مهما أسفَّ في هذه فلن يبلغ الإسفاف الذي بلغه في مقالته عن صورة القائد.
في يوم الأربعاء 23/7/2014، وبينما أنا أقلب بعض القنوات التلفزيونية عثرتُ على برنامج ينتمي إلى جنس "المنوعات" تبثه الفضائية السورية، فتابعتُه، حتى وصلتُ إلى الشارة الأخيرة، فاكتشفتُ أنه من إعداد الإعلامي الكبير الرفيق عماد نداف.
في هذا البرنامج يَنْكُتُ عماد نداف عظامَ الموتى الرميمة، من خلال استعراضه تمثيلية تهرأت من فرط ما أعيد بثها، وبالأخص في الذكرى السنوية لحرب تشرين، عنوانها "عواء الذئب" كتبها خالد حمدي كاكا الذي أصبح اسمه، فيما بعد "خالد حمدي الأيوبي" وأخرجها الراحل شكيب غنام.
أنتج التلفزيون السوري هذه التمثيلية سنة 1974، وفيها "أبو عمر" صلاح قصاص (1932- 1990) محكوم بالإعدام شنقاً، ومطلوب للعدالة، ومع ذلك فهو بَطَلٌ صنديد، يتمكن من أسر طيار إسرائيلي أَسْقَطَتْ طائرتَه قواتُنا الباسلة، وحينما يحاول الطيار الإسرائيلي رشوته بمبلغ محرز من المال يرفض بشهامة ويقول لزوجته خديجة (سلوى سعيد) تلك الجملة الإنشائية الخطابية الشهيرة:
- مية حبل مشنقة ولا يقولوا أبو عمر خان يا خديجة!
ولأجل أن يبعث عماد نداف الروح في شريط هذه التمثيلية المهترئة، أحضر إلى الاستديو مخرجين مخضرمين اثنين هما غسان جبري ورياض دياربكرلي، ومطرباً مقلداً اسمه جهاد الأمير (جعله يغني واحدة من أغاني ملحم بركات)، وأجلس مذيعة شابة تسألهم عن رأيهم في هذه البطولة الإنشائية التي أكل عليها الدهر وشرب.
ولكن، مع ذلك، وفي التماعة ما، بدا لي عماد نداف إعلامياً كبيراً بالفعل. فقد مهد الجو تمهيداً مدهشاً ليجعل غسان جبري (الذي كان لا يتوانى عن انتقاد النظام السوري عشر مرات في اليوم القصير ويقف على يسار أكثر المثقفين اليساريين تطرفاً) يبدي إعجابه بموقف أبي عمر الإنشائي، الخطابي، ويذهب إلى أن محاربة الاحتلال الإسرائيلي من خلال أسر الطيار وتسليمه لقواتنا الباسلة، ليس أروعَ من بطولات قواتنا الباسلة التي تلاحق- اليومَ- فلولَ الإرهابيين اليوم وتحمي البلاد من المؤامرة الكونية! (طبعاً هو لا يعترف بوجود ثورة وما ثورة، ولم يرَ أية جريمة ارتكبها النظام بحق الشعب، ولا حتى مجزرة الكيماوي)..
ومع أن أبا طلال، رياض دياربكرلي، رجل متحفظ، لا يحب إطلاق التصريحات الإعلامية جزافاً، إلا أن الإعلامي الكبير عماد نداف استطاع أن يحاصره في "خانة اليَكْ"، ويتفق مع زميله غسان جبري في مسألة أخرى طالما انتقداها سوية، وهي أن الأداء الإعلامي السوري قد بلغ أوج النجاح والازدهار خلال السنوات الأربع الأخيرة المتعلقة بمكافحة الثورة، عفواً: أقصد الإرهاب!
يعني، من الأخير، صديقنا المخرج المخضرم رياض دياربكرلي، أبو طلال، لم يعد يعتقد أن الإعلام السوري كذاب أشر!
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية