في الحقيقية كان التاريخ الإسلامي شائقاً لكل من يقرأه، مليئا بالتضحيات والعبر والدروس وصنع الحضارات وأسس الثقافة الخاصة بالشرق ودينه الجديد والدويلات والولايات التابعة "للدولة الإسلامية"، لكنه أيضاً فيه من الأكاذيب والخدع والتمجيد والتأليه الكثير، إضافة لكونه في صعود وهبوط إلى الانحدار الأخير والذي نحن في أوجه اليوم، فالمتحرّي بصحة التاريخ يعلم أنَّ التاريخ يعتمد في كتابته على المؤرخين والكل يضع رأيه في الأحداث سواء كان الرأي موافقٌ للواقع أو لا. ومن المؤرخين من تحرّى الدقة وكل الصدق ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لكي يكتب الحقيقة ولكي لا يغش الناس في العصور المتلاحقة.
*التاريخ صاعداً وهابطاً ثم منحدراً إلى السقوط:
فلو عدنا إلى قضية الخلافة الراشدة التي كَثُر ذكرها اليوم أو التي لا يهدأ بعض المروجين لها منذ أكثر من قرن إثر سقوطها المدوي أيام العثمانيين (وإن كانت الإمبراطورية العثمانية ليست خلافة راشدة)، يحاولون إعادتها عبر أحزابٍ وتيارات إسلامية لها أدبياتها المتباينة فيما بينها، ولها مناهج تصل إلى الاختلاف والخلاف أحياناً، فقسمٌ كبيرٌ منهم يجتمعون على أن الخلافة الراشدة قادمة وذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت" رواه أحمد، وهو حديث حسن.
أول ما قُتلت الخلافة الراشدة تماماً واجتثت من المجتمع الإسلامي بعد ثلاثين سنةٍ من رسوخها فيه ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأت خلافات سياسية تطول الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، خلافاتٌ كان أولها بُعيد مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه على يد الخوارج الأوائل، ومطالبة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بدمه مع حشد من بني أمية، وتولي الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستمرار المناوشات وظهور الخوارج والتي انتهت بمقتل علي وتنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لمعاوية عن الخلافة الراشدة.
الخلافة الراشدة والتي يصل لها الخليفة أو الإمام أو أمير المؤمنين (بتسمية العلماء لهم) عن شورى بين أهل الحل والعقد وهم الذين ينوبون عن الأمة (وبتشبيه معاصر بعيد جداً ربما، يُنتخب الرئيس الأمريكي اليوم عبر مفوضين عن كل ولاية من الولايات الأمريكية هم من ينتخبون الرئيس وليس كل الشعب).
فيما يجمع العلماء المسلمون على أن معاوية بن أبي سفيان كان أول ملك في الإسلام بل وأول من سن المُلك فيه، وبذلك يعتبر عهد معاوية بداية الملك وليس استمرار الخلافة الراشدة، هكذا يقول التاريخ الإسلامي الصحيح، التاريخ الذي كتبه المحدثون الذين حفظوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كالبخاري ومسلم وغيرهم من أهل الحديث وغيرهم من أئمة أهل العلم كالذهبي وابن تيمية والذين حاولوا ببشريتهم أن يواجهوا التاريخ كله بقوة، أن يواجهوا الأكاذيب التي طالته والتحريف الذي ناله، حيث رفع المحرفون الصحابة إلى درجة العصمة عن الخطأ وهو مغاير للإسلام والواقع أيضاً.
ووضعوا قاعدة مهمة في الخوض في أمر الصحابة -رضوان الله عليهم- هي "تقديس المبدأ القرآني مع احترام مكانة الأشخاص" مع شرط العلم والعدل في ذلك.
فالمبدأ القرآني الذي نص على أهمية الشورى في تولية الخليفة أو أمير المؤمنين انتهى بمجرد التغلب بالقوة على الحكم كما نرى اليوم من انقلابات عسكرية تطول البلدان وخصوصاً التي دارت بها رياح الثورات والربيع العربي
فالملك ليس خلافة، وتعيين ولي العهد ليس من النص القرآني في شيء، وليس من سنن وفلسفة الحكم التي سنها الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستمر الأمر كذلك حتى استلم الملك في بني أمية عمر بن عبد العزيز والذي عُرف بعدله وحكمته وتواضعه ولكنه قُتل ويُعرف بالتاريخ الإسلامي بأنه الخليفة الراشد الخامس.
وعاد الأمر لما كان ملك تحت اسم الخلافة أو إمارة المؤمنين في عهد بني أمية ثم بني العباس والذي زاد الصراع السياسي والتشتت في عهدهم، ومع بداية القرن الثالث الهجري تسلط المتغلبة الترك على سياسة الدولة وانتشروا في كل مفاصلها، وكانت الخلافة في أوجها وازدهارها في عهد المعتصم، وبدأت أوراق الخلفاء تحترق وتسحب الوسائد من تحتهم رويداً رويداً لينتهي الأمر بمقتل المتوكل والذي يعتبر من أقوى خلفاء بني العباس، والذي قُتل على يد مماليكه وخدمه وشهدت الخلافة العباسية سيطرة المماليك من البويهيين الفرس ثم السلاجقة الأتراك من بعدهم، وأصبح (الخليفة) مسمى لا حول له ولا قوة وله رمزيةٌ شكلية في البلاد الإسلامية.
أنشأ بني أمية في الأندلس خلافة أخرى هي امتداد لخلافة دمشق المنصرمة ثم أنشأ الفاطميين "الشيعة" خلافتهم في المغرب مع وجود الخلافة الضعيفة في بغداد حتى أتى صلاح الدين الأيوبي، وقضى على الدولة الفاطمية ووحد مصر والشام تحت اسم السلطان صلاح الدين، وإن كان للخليفة في بغداد بيعة في عنق الأيوبيين ثم حرر بيت المقدس من الصليبيين وأعادت الخلافة العباسية في بغداد هيبتها الجزئية حتى أتى التتار وزعيمهم هولاكو فقتل الخليفة في بغداد وأحرقها فأسقطت الخلافة العباسية رسمياً، لينتهي شر التتار في معركة عين جالوت على يد المماليك في مصر بزعامة السلطان قطز.
وانتهى الأمر بيد العثمانيين والذين تنازل لهم الخليفة الشكلي محمد المتوكل على الله عن الخلافة لصالح السلطان سليم ياوز، لكن الخلافة لم تكن واضحة جلياً في بني عثمان والذين أبقوا اسم السلطان على الحاكم، إلا في القرارات والمراسلات الرسمية فكان يظهر اسم الخليفة.
وانتهت الخلافة العثمانية ((الملكية)) بعد عبد الحميد الثاني نظرياً وفي عهد السلطان محمد السادس عملياً عندما أتى كمال أتاتورك ونفى الخليفة الأخير وألغى الشريعة الإسلامية من تركيا عاصمة الخلافة الإسلامية الأخيرة والتي زورت أن قيل إنها احتلال بحسب التاريخ البعثي وحرفت حين قالوا إنها راشدة بحسب المنهج الإسلامي المزاود، بل هي كانت إمبراطورية ملكية تخللها ظلم وعدل صعود وهبوط ككل من حكم البلاد الإسلامية من قبلهم.
*غياب الوعي عن تلافيف الأمة
بدأ الهبوط في مسألة الخلافة، بعد أن أصبحت ملكاً وهو أمرٌ لا يخفى على عاقل، إذ شُرعن المُلك بطاعة ولي الأمر ودرء الفتنة وحقن الدماء، وهذا ما شرعنهُ بعض أهل العلم للسلاطين والملوك الملقبين بالخلفاء، فكيف تُدرأ فتنة بفتنة أعم وأعظم، وهي تشريع الملك علماً أنه (لا ملك في الإسلام)، وبذلك غابت روح الشورى وانطمست معالمها عن روح الأمة، وبدأ الظلم ينتشر والفقر يتغلغل شيئاً فشيئاً، وإن كانت الفتوحات الإسلامية تسير سيرها، والصناعات والحرف تزدهر، والعلم له مكانته وانتظمت الدولة بمؤسساتها، لكن ذلك لا يعني أن الخلافة كانت راشدة، فما وصلت له الأمة الإسلامية في عهد عمر ثم عثمان من رفعة وازدهار وفتح وانتشار هو الرشد والعدل، حيث حكموا أي الصحابة جميعاً بوجود رأس هو أمير المؤمنين عمر وحوله كبار الصحابة الكرام، وكانت مصلحة الأمة فوق كل شيء، ومصلحة شؤون الدولة ورعايتها والحفاظ على أفرادها وأموالها وأراضيها وحتى حيواناتها مهمة الخليفة قبل أي شخص.
وهو ما قل بعدهم بسبب الفتن والاضطرابات الداخلية، ثم اندثار روح الشورى بقتل روح الخلافة الراشدة.
لكن الوعي المنتشر عند أغلب الناس أن كل من مَلَكَ رقاب المسلمين هو خليفة وهو راشد لأنه يحكم بكتاب الله وسنة نبيه وإن وصل بالدم إلى الحكم، مع أن الدم الذي أريق هو أول مخالفة لروح الشريعة ومبدأ القرآن بالحفاظ على أرواح المسلمين وأهل ذمتهم من أي خطر أو اعتداء وهذه هي مسؤولية الراعي أو الخليفة أو أمير المؤمنين وهي قمة العدل والرشاد.
إن اعتلاء أي فرد إلى سدة الحكم ليس من الإسلام في شيء، فالخليفة له شروط مقيد بها، وأحكام لابد عليه من رعايتها وإلا بطل حكمه ووجب عزله، وليس من الخطأ تنظيم أمر الشورى بما يتناسب واتساع الأمة الإسلامية وازدياد أعدادها.
إن التصفيق لأي شخص بأن يكون ولي أمرنا وإن كان مجرماً، عاث فساداً وخراباً ثم صار أميراً للمؤمنين لهو انعدام الوعي عند الناس، وإن كان يتحلى بأوصاف تطبيق الشريعة، وهل نُلزم الشريعة السمحة والقرآن دستورها أخطاءنا وإجرامنا وانعدام الأفق في رؤوسنا؟ وهل من العقل في شيء تولية خليفة لنسبه وليس لكفاءته؟ فإن كان عمر الفاروق رضي الله عنه لم يولِّ أحداً من أهله فَسَادَ الإسلام وارتفع وانتشر وإن كان أهل عمر خير الناس وأول ما طَبَقَ أحكام الدولة مضاعفة عليهم من حدودٍ وقوانين، وقبل ذلك على نفسه.
إن الأسس التي وضعها رسول الله قبل وفاته جعلت القبائل العربية وغير العربية أمة إسلامية رائدة من بعده، لتكون على نهضة كبيرة من الزرع الذي زرعه النبي في عقول وقلوب أصحابه، فكونوا على مدار السنوات الثلاثين حضارة عظمى استمرت بعدهم لأكثر من ألف عام ونيف.
إن الخلافة اليوم شبه حلقة ضائعة في بحر محيط لا تلمع ولا يُرى بريقها، لشدة انحدارنا على كافة المستويات دينياً وثقافياً وعلمياً ومعرفياً وصناعياً وحربياً وسلوكياً واجتماعياً وسياسياً في عالم كبير منفتح على بعضه، والاختراق الكبير والتشتت الواسع بشكل لا يصفه عقل، والتحزب، والتكتل في جماعات وأفراد.
لا سيما انتشار فلسفات الحكم الحديث وسيطرتها على ثروات العالم ومقدراته وعقوله والأيدي العاملة كل ذلك له أثره الكبير، مع الحديث عن حقوق الإنسان والعدالة والمساواة وإن كانت شبه غائبة عن كل أطراف العالم.
فأغلب ديمقراطيات العالم بُنيت على رفات المظلومين والفقراء والمحرومين بتمييز عنصري وديني وعرقي لا جدل فيه.
لا شك لا نستطيع الوقوف على حديث حسن فقط، في تقرير سياسة الأمر الواقع من انفصال فكري شبه كامل بين شعوب الأمة المسلمة الواحدة، بل إن فقه الواقع والمقاصد من الشريعة شبه غائبة عن الناس وفقهاء الناس اليوم وهو ما كان عمر الخليفة الراشد يقرره في خططه مع أصحابه، لكل الأجيال القادمة، فهل هناك خطة كبرى لتشويه سُنة الخلافة الراشدة بثلة مجرمين؟ وتحقير ما أبدعه الكبار قديماً بطائفة تكفر كل الأمة الإسلامية.
لابد من أن التغني بالتاريخ شيء مهم، إن أحدثت معه فارقاً جيداً، أما التفاخر مع كامل الانحطاط الفكري وإعادة الحاضر بما فيه إلى هناك هو عينُ الحمق، كمن يدعي ويرفع يديه نحو السماء على جيش العدو دون أن يواجهه بجيشٍ مقابل، إن الغرب الذي ينظر نحو المستقبل فقط ويرمي التاريخ كل التاريخ وراء ظهره أحق منا اليوم بقيادة العالم والوعي، ليس لأنه قلل من قيمة أجداده بل لأنه قرر أن يكون تاريخاً في المستقبل، وهذا ما قررنا أن لا نكون فيه.
ناصر زين – ريف دمشق - مشاركة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية