أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

تاريخ لظاهرة شعبية طريفة.. الحكواتي يروي قصص الماضي وبطولات الأجداد بقالب حماسي

اختلفت تسمياته من بلد إلى آخر ففي تركيا دُعي (المكلا) وفي الجزائر والمغرب العربي (القوال) وفي العراق (المحدّث) وعلى سواحل الأطلسي الوسطى (إيميادزين) وفي إيران (النقال) أو (التقليدجي). وعند شعوب أفريقيا الغربية (هريوت) إنه (الحكواتي) كما يُعرف في مصر وسوريا الذي كان مظهراً من مظاهر الفرجة الشعبية وكان الناس في مقاهي المدن والقرى يلتفون في أمسيات رمضان بخاصة حول هذا الحكواتي يحدثهم عن قصص الماضي وبطولات عنترة وأبي زيد الهلالي ويغني لهم مآثر الأجداد الخالدين، فيثير في نفوسهم الحماس ويلعب بعواطفهم كيفما شاء، فيصيحون مشجعين أوساخطين وغالباً ما يضطرّن الحكواتي إلى إعادة ما قاله، ولكن بالشكل الذي يطيب لهم ويدوم سرد القصة الواحدة عدة أيام يتوقف في كل ليلة عن الكلام في مكان يشد السامع لكي يأتي في اليوم التالي لمعرفة ما حدث.

كان الحكواتي في حمص يروي في الماضي قصصه أمام أبواب المقاهي في أمسيات الأعياد وليالي رمضان، فيجلس في مكان مرتفع يطل على الجمهور الذي يصغي إليه باهتمام بالغ ويقص روايته ويغني ما فيها من أشعار ويعزف على الربابة والجمهور جالس على حصر أو سجاجيد، بعضهم يدخن النرجيلة وآخر يشرب الشاي أو القهوة، لكن العيون لا تبتعد عن هذه الشخصية التي تشدهم بحركات جسمه ويديه وتعابير صوته، وفي قمة الحماسة يضيف الحكواتي إلى الرواية ما تجود به قريحته، وهذا الارتجال يجعل من العروض التي يقدمها الحكواتي مختلفة لا يشبه بعضها الآخر في الجلسات الأخرى ينسى التجار تجارتهم بمجرد ظهور الحكواتي ويتبعهم أصحاب المهن الشعبية وغالبيتهم من السمّيعة وجماهير العتالة والدكاكين في الحارات الضيقة والبائعين الجوالين وأصحاب عربات الفول والمخلل وبائعي الذرة المشوية والمسلوقه يقابلون مقاطع الحكاية الحماسية بالتحسر والآهات وصرخات الإعجاب التي تصبح صراخاً أعلى مع كل موقف وبعض المشاهدين ينفعل ويستلّ سيفه أو خنجره إذا استدعى الحال إنقاذ بطله الأسطوري الذي ترويه السيرة الشعبية وتمتد المشاكل بينهم ويعلمون على بعضهم أياماً طويلة وقد ينتقل الشجار من الآباء إلى الأولاد مما يدفع المختار وكبار الحارة والوجهاء ومعهم الحكواتي للتدخل لفض هذه المشاكل وعندما يتم الصلح تجتمع الحارة في المقهى ليحتفلوا من جديد.


تأثير الحكواتي
فرض الموضوع الشعبي نفسه اجتماعياً (نتيجة الظروف) على الحكواتي فنراه يقوم بتثبيت وتقوية الروح العربية على صعيد شعبي، واستنهاض الهمم وإذكاء الحماسة والتضحية والاعتزاز بالنفس والتركيز على قيم أخلاقية وحث الناس على حب الفضائل، وإذا دققنا في صياغة موضوعات الحكواتي نجدها تأخذ سير عنترة العبسي –سيف بن ذي يزن– الأميرة ذات الهمة والسيد البطال– السيرة الهلالية والزير سالم، وهذه المواضيع كانت تستلهم التاريخ لكن إعادتها الآن في عصرنا الحديث لم يعد ذا تأثير اليوم بسبب تغير نمط الحياة والتحولات التي طالت حركة الناس والمجتمع، بينما كانت إلى وقت قريب في منتصف القرن الماضي ذات تأثير كبير، إذ إن التلفزيون لم يكن موجوداً ولا تسلية لدى الناس بعد انتهاء يوم عملهم الشاق إلا الذهاب للمقهى ومشاهدة الحكواتي والاستماع لحكاياته التي كانت تقسم الحاضرين إلى قسمين يدفعهم التأثر إلى حدود الشجار حماسة لشخصية عنتر أو الزير فتراهم جزءاً من الحدث، رغم أنهم يجلسون في المقهى على كراسي قش أو خيزران يدخنون النرجيلة. يستمتعون ببداية رواياته وصوته الجميل، مردداً الأشعار التي تقال بحق بطل القصة التي يرويها مع إطلاق كلمات الإعجاب والإطراء بالحكواتي "أبو فلان" قبل أن تشتد الحكاية وتصل لذروتها ويشتد معها حماس الناس وانفعالهم لدرجة الشجار بين الحاضرين وقد يكون هناك تراشق بالكراسي والضرب بالهراوات من القبضايات ووجهاء الحارة. 


دخلاء المهنة !
لم يعد الحكواتي ضرورة اليوم كما كان منذ أكثر من نصف قرن بل صار تاريخاً لظاهرة شعبية طريفة، ولم يعد الجمهور يعيش الحالة الدراماتيكية التي كان يعيشها آنذاك بل اقتصر الاهتمام بالحكواتي (قبل الحرب طبعاً) على السهرات الرمضانية كنوع من التسلية وتزجية الوقت، وأًصبح بمثابة فاكهة للسهرات الرمضانية، ومتابعو الحكواتي الآن يشاهدون الظاهرة ولا يواكبونها بل يعيشون بشكل حيادي تجاهها وبالأصل لم يعد هناك مقهى فيه سدة مخصصة للحكواتي واختفى اللباس العربي الجميل (الدامر والشروال والشملة)، أو الطربوش والقنباز والمزوية المزركشة وكتابه الذي يحتوي الحكايا والأقاصيص الشعبية المحببة الذي لم يكن أحدٌ يستطيع أن يقرأ فيه إلا هو. لأنه صار جزءاً من كيانه، و"للأسف دخل الكثير من الدخلاء على هذا المجال وصار أي شخص ثرثار أو مهرج يأخذ مكان الحكواتي في أماكن السهر ويسرد كلاماً فارغاً لا قيمة له دون أن يستطيع جذب المشاهدين لأنهم منشغلون بلعب الورق أوالطاولة ولأن التلفزيون الذي يتصدر كل زاوية من زوايا المقاهي أخذ من اهتمام الناس الشيء الكثير"- كما يقول الحكواتي محمد خير الكيلاني- لـ"زمان الوصل"، مضيفاً إن مقاهي الإنترنت صارت اليوم أكثر وسائل الاتصالات استعمالاً وبكبسة زر تستطيع أن تعرف ما يجري في أقصى بقاع العالم، إلا أن هذه الوسائل العصرية لن تكون في المحصلة بديلاً عن الحكواتي الذي نعرفه، فلا التلفزيون أخذ مكان السينما والراديو ولا السينما أخذت مكان المسرح ولن تأخذ هذه الوسائل مجتمعة مكان الحكواتي حتى لو صار متحفياً.

خالد عواد الاحمد - زمان الوصل
(1201)    هل أعجبتك المقالة (781)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي