في نقض وهم دولة الخلافة لدى من ادعى قيامها والحالمين بها

منذ أيام فقط كتبتُ في مقالٍ أخير الفقرة التالية:
"هناك خيرٌ عميمٌ فيما فعلته (داعش) عبر إعلانها دولة الخلافة. لأنها أخذتنا وأخذت السوريين، بل والمسلمين جميعاً، إلى نهاية طريقٍ كانت ملامحه تُراود الكثيرين كأحلام، ولو التبس فيها عند البعض جموحُ العاطفة بمقتضيات العقل والمنطق".
لم تمض أيام إلا وشعر (الجولاني) أن (البغدادي) سبقهُ في (تحقيق الحلم).. وأنه قد يُصادر هذا الحلم ويستولي على كل مميزاته، فلم يكن منه إلا أن سارع لإعلان الإمارة، واستخدم في هذا عباراتٍ في غاية الدلالة منها: "لن نسمح لأحد كائناً من كان أن يقطف ثمار جهادكم مهما بلغ منا الحال ولو لم يبقَ منا قطرة دم واحدة.. لن نسمح لمشاريع علمانية ولا لمشاريع انبطاحيه ولا لمشاريع خارجية غازية لن نسمح لأحد كائنا من كان أن يقطف ثمار جهادكم مهما بلغ بنا الحال.."
ثمة في العبارة ما يوحي بالاقتباس من ثقافة بشار الأسد في الفهم والمصطلحات، لكن القضية آخر المطاف تكمن في (استثمار) ثمار الجهاد وقطفها.. والمفارقة أن هذا جاء بعد أيام فقط من انتقاد (النصرة) لإعلان الخلافة.. ولكن يبدو أن للضرورة أحكاما..
عودةً إلى العبارة الأولى في هذا الكلام، الحقيقةُ أن موضوع الخلافة وحلمها يراود الغالبية العظمى من صفوف الإسلاميين الحركيين وفرقهم وأحزابهم.. وهم إذ يختلفون في توقيتها وشروطها وطريقة الوصول إليها يقفزون جميعاً فوق حقيقة تزداد وضوحاً وتتمثل في أن الحديث المشهور الذي يتحدث عن مراحل الحكم في الإسلام، وأنها تنتهي بـ"خلافةٍ على منهج النبوة" هو ابتداءً حديثٌ ضعيف وموضوع حسب دراسات تحقيقية جدية لكثيرٍ من العلماء والباحثين. سنعود لهذا الموضوع، ونكتفي هنا بالإشارة إلى دراسة للدكتور خالد بن محمود الحايك، وغيرها مما يستطيع البحث عنه أي باحث.
المهم في القضية أن هذه الحقيقة (المطموسة) تتعلق بالحكم الذي أطلقناه في المقال المذكور، وقد هاجَمَنا البعضُ عليه حين ذكرنا مايلي: "إننا نُخطىء إذا ألقينا تَبعةَ هذا الفهم على أهل داعش وأمثالهم فقط، وإذا تجاهلنا حقيقةَ أن هذه الطريقة في التفكير هي النتيجةُ الطبيعية لكل أشكال الفهم المشوﱠه للإسلام، والتي كانت تتوزع الأدوار في دعوى تمثيله والحديث باسمه في المجتمعات العربية، بأسماء وتفسيرات وفرق مُختلفة. من الإسلام الفقهي (المشايخي) التقليدي وصولاً إلى الإسلام الحركي، مروراً بالإسلام السلفي والصوفي، وغير ذلك من تلاوين وتنويعات..
هل يدرك أصحاب التجليات الإسلامية المذكورة أعلاه أن ما وصلت إليه داعش كان في الحقيقة مجرد مرحلةٍ متقدمة لفكرٍ يتقاطع في كثير من دوائره مع تفكيرهم؟
سترفض غالبيتهم يقيناً هذا التحليل وتستهجنه، وثمة هروبٌ واضحٌ من مواجهة هذا الواقع عبر إقناع النفس بالشعارات والبيانات، وبإقناع النفس أن (طَرحَنا) مختلفٌ تماماً عن طرح داعش، دونما بحثٍ عن تلك الخيوط الدقيقة التي تنسج في نهاية المطاف الثوبَ نفسه".
لم تُكلِّف التوجهات الإسلامية الحركية نفسَها، جميعاً، مؤونة مراجعةٍ علميةٍ دقيقة للموضوع، ولا البحث في إمكانية وجود هذا النظام (الخلافة) في الواقع المعاصر ابتداءً..
لم تمتلك الشجاعة والقوة والأمانة الأدبية لاكتشاف أنه صورةٌ تاريخيةٌ ماضية لايمكن أن تتكرر بمفرداتها وتعابيرها ودلالاتها المباشرة، ولتُصارح أبناء المسلمين بهذه الحقيقة.. ولم تنتقل إلى محاولة تجاوز هذا التصور إلى صورة نظامٍ معاصر يكتفي باستصحاب المقاصد العامة للسياسة الإسلامية من الحرية إلى العدل ومن الكرامة إلى المساواة ومن التنمية إلى المشاركة. وتوضيحِ حقيقة أن ذلك النظام لا يحقق خير ومنفعة ومصالح المسلم فقط في معاشه وحياته قبل آخرته، بل لابد له أن يكون (رحمةً للعالمين).
أقصى ما في الأمر أنها تلاعبت بالموضوع وناورت حوله، تركيزاً على الحديث عن شروط التوقيت والأهلية والظروف العالمية وما إلى ذلك. لكنها بقيت في نهاية المطاف مهووسةً في أعماقها بتحقيق الخلافة.. ويشاء الله أن يظهرَ هذا بوضوح في البيانات والتعليقات الأخيرة التي صدرت من مختلف الهيئات تنتقد البغدادي و(خِلافته).
لم يدرك المرءُ هذه الحقيقة بهذا الوضوح إلا بعد التعامل مع كل التوجهات التنظيمية الحركية السورية عن قرب، وعلى مدى ثلاث سنوات. لكنهُ أصبح يراها بكل أبعادها رأي العين بينةً واضحةً الآن: كل ما في الأمر شيءٌ من التقديم والتأخير، ولكن لو أعطينا الزمن فرصته، ولو وجدت تلك التوجهات الظروف مناسبةً، لوجدنا كل تلك التنظيمات تُفرّخُ لنا دولات (خلافة) إسلامية، يغلب أن تكون متناحرةً متضاربة بحجم تضارب تفسيراتها للإسلام على جميع المستويات.
مرةً أخرى، تظهر الأدلة متتاليةً على أن ثمة خيوطاً كثيرةً وقوية، ثقافيةً ومنهجية، تربط بين جميع التنظيمات المذكورة على ظاهر اختلافها في العناوين والشعارات. وعلى أن هذه الخيوط لم يكن لها إلا أن تنسج لنا أثواب دولٍ إسلامية متنوعة تكون بمثابة (فضيحةٍ) كبرى للإسلام في نهاية المطاف.
نعم، بمثل هذه الشواهد التي تحتاج لتفكير أولي الألباب، يحفظ الله نقاء دينه، ويُبقي كمونه للأبناء، رغم الغياب الطاغي للوعي الجماعي لدى الآباء..
تختصر الثورات العربية، والسورية منها تحديداً، الزمن على الأجيال الجديدة لترى عملياً بؤسَ ما ينتج عن فهم الإسلام وتنزيله على الواقع العربي. لأن مستتبعاتها فتحت الباب الذي كان موصداً أمام تحويل كثيرٍ من الأفكار التقليدية إلى مواقف وسياسات وممارسات.
ويبقى أن يستفيد من دروسه وعبره (أليست العبرة للعبور..) أجيالٌ لم يعد يليق بها أن تقبل بتقزيم الإسلام حتى يُصبح صغيراً على مقاس المحتكرين له والناطقين باسمه.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية