غالباً ما يتم تداول كلمات الحداثة في الوسط السياسي العربي بمعان ومدلولات تقليدية ووفق منهجيات قديمة، وغالباً ما يُستخدَم الوعي التقليدي الدوغماتي للتعامل مع نتاج الوعي النقدي الإنسانوي، لذلك تُهضَم ظاهرة المجتمع المدني ضمن ممارسات وأصول أقرب للتحالفات العشائرية أو الطائفية، وتُسطَّح الديمقراطية إلى صناديق اقتراع وانتخابات، ويُفهم العقد الاجتماعي الجان جاك روسي بمنهجية العصبية الابن خلدونية، ولذلك يتم الخلط بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة، بين الأمة كتعبير ثقافي والشعب كتعبير سياسي...إلخ. وفي العمق، فإن هذا الوضع هو نتاج منهجية التأصيل الدوغماتي في تناول مفاهيم ذات طابع حداثوي إنسانوي: أي استخدام أدوات تقليدية قديمة في فهم وممارسة مفاهيم إبداعية حديثة. ويعود ذلك إلى الإمعان في انتزاع المفاهيم من دلالاتها التاريخية وإلى تجاهل أهمية تأصيلها المعرفي. وبهذا المعنى تصبح العلمانية، مثلاً، مصطلحاً مترجماً لا يدل على شيء، فيُقدَّم كموقف ضد الدين، أو موقف باتجاه الفجور، أو سلاح لإبعاد شبح الفقيه، وتتشوه معظم دلالات المصطلحات. وبهذا المعنى دأب أغلب الوسط السياسي السوري المعارض منذ قيام الثورة على التذكير بما أسماه "الضرورات" وعلى التأكيد عليها، وتكرارها باستمرار عبر جميع وسائل الإعلام، وتختلف الأصوات والنغمة واحدة: ضرورة إسقاط النظام بكل رموزه وأشكاله، ضرورة قيام الدولة المدنية الديمقراطية، ضرورة تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة، ضرورة القطع مع الاستبداد والفكر الإقصائي...إلخ. كان لهذا الخطاب ما يبرره في بداية الحراك الشعبي، رغم بديهية الفكرة التي يحملها، ولكنه اليوم بشكله الببغائي، وبما يحمل من ضحالة في طريقة الطرح، ومن ثبات في طريقة التكرار اللفظي من دون أي محاولات لتكريسه المعرفي والعقلاني، ودون أي ترجمة سلوكيّة له سواء على صعيد الأفراد أو المؤسسات، فإنه يتحول إلى مزاودة على البسطاء في معرفة أبسط البديهيات، ولا يدل على شيء أبعد من ذلك. وإن أي محاولة لوقعنة هذا الخطاب يجب أن تمر من بوابة التأصيل المعرفي والتوضيح الدلالي وتؤدي للتوقف عن ممارسة الكلام الذي يدور حول معلومات شعاراتية غير متشبعة عقلياً، وبالتالي لا يمكن أن تُترجم سلوكياً. هذا التأصيل المعرفي هو الذي يؤدي لتجاوز العرقلة المعرفية القائمة في الوسط الفكري والسياسي السوري ويجعلنا ننتهج منهجاً يأخذ بالنسبية والتاريخانية، وهو منهج مطلوب...إذن: لنقلِ مفاهيم كالديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية والعلمانية...إلخ من حيز النظرية المشوهة إلى حيز النظرية المعرفية وبالتالي إلى حيز الواقع والممارسة، وجب علينا البدء بعملية هضمها معرفياً وفهمها دلالياً: أي تأصيلها المعرفي. وتقع هذه المسؤولية على كل من يعمل بالسياسة السورية من منطلق وطني، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات، دون استثناء. وربما تبدأ هذه العملية من تحرير العقل من سجن الدوغما والعقائد الدينية، ومن سجن المسلمات والأيديولوجيات المتعالية على سنن التاريخ والنمو والتطور: أي الانطلاق من قاعدة تقوم على مبدأ الأنسنة بكونها موقفا فكريا يجمع جميع ميادين التفكير والبحث العلمي، وكونها تؤكد الطابع الإنساني للعلاقات بين البشر وتشكل جذراً من جذور فكر الحداثة (الحداثة كثمرة للتطور التاريخي للبشرية وكثقافة كونية). الأنسنة هي اهتمام الإنسان بالإنسان، اعتدادٌ بالإنسان، حماية واحترام الإنسان، ورفع من شأنه وفكره وعقله، تعميقٌ لمداركه وتحصينه ضد الجهل، تقديره لذاته بصفته إنسان لا لأي صفة من صفاته أو لأي من محمولاته. فالإنسان هو المنطلق والغاية، وهو الثابت الوحيد الذي يمتلك قابلية التحسن والتطور والتقدم إلى ما لانهاية، وعليه يتأسس المجتمع المدني والمواطن الذي يؤسس لوجود مجتمع سياسي. والأنسنة بكونها شرط المساواة هي شرط المواطنة وبهذا تؤدي إلى ضرورة حياد الدولة الإيجابي اتجاه جميع الأيديولوجيات والعقائد والانتماءات العرقية والمذهبية والدينية، وهكذا تكون الأنسنة جزءاً أساسياً من النسق المفاهيمي المتكامل الذي تقوم عليه الدولة الوطنية الحديثة، وتكون قيمة شديدة الاتصال بهذه الدولة، وتتعزز بالديمقراطية كشرط أساسي لأنسنة الحياة الاجتماعية.
الإرادة السياسة هي القاعدة الأساسية للموقف الإنسِي، والموقف الإنسي شرط أساسي لعقلنة السياسة ووقعنة الفكر، ومن هنا تتضح ضرورة أنسنة الفكر والخروج من سجن الدوغما، وكذلك أهمية أنسنة فكر الضرورة التي يتردد بابتذال في الوسط السياسي السوري. ولذلك يكون طرح الأنسنة_ الذي يحمل بعداً دلالياً لمفاهيم السياسة والفكر المنتشرة_ طرحاً مهماً جداً، ولكن تبقى نجاعة هذا الطرح مشروطة بوجود من ينهض بهكذا فكر من أفراد ومؤسسات، وبوجود من يكرّسه في الممارسة النابعة عن تشبع معرفي به كنموذج بديل عن التقليد والكلام الاستعراضي الذي لا تتوفر له خلفيات دلالية ومعرفية، وإلا تحوّل الطرح إلى تقليد جديد. وبهذا يكون هذا الطرح تحدياً كبيراً، وهو تحدي الأفراد لذواتهم، وتحدي المؤسسات لنظام مأسستها: هو تحدٍ داخلي أولاً، يؤدي للقدرة على خوض التحدي الخارجي لأي كيان سياسي هادف وحالم ثانياً، هو تحدي لقدرة المؤسسات السياسية على النهوض بجميع أعضائها لحالة التشبع المعرفي بالمفاهيم الفكرية والسياسية ، بما يتطلبه هذا الأمر من تواضع، وجهدٍ معرفي، ورغبة في العمل، وارتفاع في سويَّة الأخلاق، والقدرة على الحوار وتبادل الخبرات بين الأعضاء. وبما يتطلبه من قدرة على اتباع منهجية تنظر بنسبية وتاريخانية المعرفة.
إن المعرفة العميقة تنتج نوعاً من السياسة العميقة، وهذه السياسة هي المطلوبة لإنقاذ سوريا مما هي فيه. أمّا الاستمرار في تعميق الاستعراض الفارغ من أي مضمون معرفي فلن يجلب إلا تعاسة تضاف إلى تعاسة، ولن يخدم إلا الاستبداد والتطرف لأنه يدعم "قابلية الاستبداد" ويشكّل "قابلية التطرف". فلا بأس بقليلٍ من التعلُّم، وقليلٍ من السعي نحو المعرفة قبل كل شيء، لأن في هذا بداية السياسة الناجحة وبذرة الثورات الرائعة.
*كاتب سوري نائب رئيس الأمانة لحزب الجمهورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية