تذكر الكاتبة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في كتابها (تراثنا بين ماضٍ وحاضر) "أن ذخائر المخطوطات في مصر بعضها كان مودعاً في المساجد والزوايا بضاعةً رخيصة لا تساوي وزنها ورقاً عند خدُّام المساجد الموكول إليهم أمرها، وقد حدَّث شاهد عيان من أساتذتنا أنه رأى بعينيه خادم مسجد المؤيد يملأ السلال بنفائس المخطوطات ويبيعها لمن يطلبها بثمن بخس !".
ويذكر (الكونت فيليب دي طرزي) "أن خادماً يُدعى ابن السليماني" عُيِّن في منتصف القرن التاسع عشر خازناً لثلاث مكتبات كبرى في مساجد مصر وجعل له ديوان الأوقاف راتباً شهرياً قدره خمسة وعشرون قرشاً، وكان الرجل يستعين على العيش ببيع قصب السكر فجعل يقف في زاوية تحت سلم مدرسة السلطان حسين ويضع بجانب بضاعته من القصب أكواماً من مخطوطات المكتبات الثلاث يبذلها لمن يدفع له القرش والقرشين !!".
والذي حدث في مصر حدث في الشام، ففي كتابه "خطط الشام" يكشف العلامة محمد كرد علي هذه المأساة قائلاً: "ومن المصائب التي أصُيبت بها كتبُ الشام أن بعض دول أوروبا ومنها فرنسا وجرمانيا "ألمانيا" وبريطانيا وهولندا وروسيا أخذت تجمع منذ القرن التاسع عشر كتباً من تراثنا، تبتاعها من الشام بواسطة وكلائها وقناصلها والأساقفة المبشرين "هكذا تسربت أكثر البقية الباقية من كنوزنا إلى الغرب ونحن نيام، وأُبيحت ذخائر تراثنا لأجانب دون أن يجدوا من يصدهم عنها، فذهبوا بها على مرأى منا ومسمع، وكان نصيبنا من ثمن البضاعة قروشاً معدودات لحرَّاس الكتب وفرصةً للتندر بحمق هؤلاء المغفلين الذين تستهويهم مخطوطات صفراء لا قيمة لها في حسابنا !! أو في أحسن الأحوال نتمثل القولة الشهيرة لذلك الإعرابي المغفل الذي سلبه بعض اللصوص إبله فقال: (ذهبوا بالإبل ولكن أوسعتهم شتماً).
مصحف في القلعة
من ذخائر المخطوطات التي فقدناها في غفلة من الزمان مصحف سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي كان في حوزتنا نحن المسلمين العرب إلى ما قبل قرن من الزمن ثم ضاع وتاهت آثاره، واختلفت في مصيره الظنون، وتعدَّدت الأقوال، فثمة من يرى أن المصحف الشريف نقل إلى الآستانة وحُفط في متحف الأوقاف الإسلامية وهناك من يقول إن إمبراطور ألمانيا غليوم أخذه يوم زار بلاد الشام أواخر القرن التاسع عشر حتى قررت معاهدة "سيفر" إعادته إلى المسلمين وتسليمه ولكن ذلك لم يحصل.
ومن المعروف أن عدداً من صحابة رسول الله رضوان الله عليهم كانوا يكتبون ما يُملى عليهم من سور القرآن الكريم التي كانت تنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وينسخون منها صوراً، وأحياناً يحفظوها ويعطون واحدة للنبي (ص)، وكانوا يكتبون كعادة العرب على الجلود والأخشاب والعظام والأحجار والجريد والنسيج، كل واحدة منها تسمى صحيفة، وبقي القرآن الكريم أثناء حياة الرسول الكريم محفوظاً على هذه الصورة في تلك الصحف المتفرقة والموزعة بينه وبين الكتَّاب، وفي صدور عدد غير قليل من الحُّفاظ ومنهم زيد بن ثابت وأُبي بن كعب، وبعد موقعة اليمامة التي استُشهد فيها كثير من حفظة القرآن الكريم ندب الخليفة أبو بكر بناءً على اقتراح عمر (رضي الله عنهما) زيد بن ثابت لجمع القرآن كتابة، إذ كان أحد كتاب الوحي ومن أوثق الحُّفاظ، بقيت هذه الصحف مرتبة تحت رعاية أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، ثم أُودعت بيت حفصة بنت عمر (رضي الله عنهما) بعد موت أبيها، ولما اتسعت الفتوح وتفَّرق المسلمون في الأمصار، وأخذوا يقرؤون القرآن الكريم بقراءات مختلفة، جمع عثمان بن عفان الصحابة (رضي الله عنهم) واستشارهم في تجميع القرآن الكريم في مصحف واحد تُنسخ منه نسخ وتُرسل إلى الأمصار فأقروه على ذلك، وندب إليه جماعة من الحُّفاظ وعلى رأسهم زيد بن ثابت عوَّلوا على الصحف المودعة لدى حفصة واستنسخوا منها عدة مصاحف، وبعثوا إلى كل قطر بمصحف سُّمي باسمه، فقيل المصحف البصري والكوفي والشامي والمكي والمدني وسُمي المصحف الذي احتفظ به عثمان (المصحف الإمام) وهكذا انتشرت أكثر من نسخة لمصحف عثمان، منها نسخة مخزونة في متحف قصر (طوب قاي) في اسطنبول ونسخة ثانية في مسجد الإمام الحسين عثرت عليها وزارة الأوقاف المصرية مدفونة في خزانة مهملة برواق المغاربة في الجامع الأزهر عام 962 م، وثمة نسخة كانت محفوظة في مقصورة الجامع الأموي بدمشق، ولكنها اختفت في الحريق الشهير للجامع.
يد السفاح
الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون أن مدينة حمص السورية كانت تضم مصحفاً لسيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) محفوظاً في قلعتها، وهذا ليس بمستغرب على مدينة ضمت أضرحة ومقامات نسبت إلى خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن خالد وأولاد جعفر الطيار وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وأبي ذر الغفاري وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وكعب الأحبار ودحية الكلبي وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري وغيرهم عشرات من الصحابة والتابعين.
وفي الحرب العالمية الأولى الممتدة من عام (1914- 1918) استلم جمال باشا السفاح قيادة الجيش العثماني وإثر هزيمة الأتراك تناول المصحف العثماني من مخبئه المحفوظ فيه ونقله إلى اسطنبول مع ما نقل من كنوز و ذخائر.
ولكن ما هي حكاية هذا المصحف وكيف وصل إلى مدينة ابن الوليد؟
يصف الرحالة المؤرخ الخياري في رحلته إلى سوريا عام 1083 هـ القلعة والمصحف قائلاً: "وفي يوم الأربعاء السادس عشر من الشهر سرنا في رياضٍ مخضرة يفوح بها نشر الشيح إلى أن لاح الفجر، فلاحت أعلام حمص، وأول ما ظهر لنا قلعتها: فإذا هي قلعة منسَّقة الجوانب، كثيرة المذاهب بها مصحف سيدنا عثمان الذي يزعمون أنه قُتل وهو يقرأ فيه، وهو أحد أربعة مصاحف يقال فيها ذلك، واحد بالمدينة، وآخر بمصر –بجامعها العتيق– وآخر بالشام بالجامع الأموي، ويقال إنها منذ فُتحت في زمن سيدنا عمر بن الخطاب لم تزلْ خراباً -يقصد القلعة-".
وبعد رحلة الخياري بحوالي ربع قرن زار حمص العارف بالله (عبد الغني النابلسي) وأنشأ يقول في كتابه (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز) (ص 111- 114)، في يوم الجمعة التاسع من المحرم، في هذا السفر المبارك ذهبنا إلى القلعة لأجل زيارة مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه فصعدنا إليها في طريق مرتفع متهدم الجوانب.
وبعد أن يستفيض النابلسي في وصف جولته داخل القلعة يقول: (ثم طلبنا زيارة المصحف العثماني فقام رجل من أهل البلاد وفتح لنا خزانة في قِبلي الجامع المذكور بالقرب من المحراب، وأخرج لنا صندوقاً ففتحه، وإذا فيه مصحف الإمام عثمان "رضي الله عنه" وعليه أثر الدم في بعض الآيات فقبَّلناه وتبرَّكنا به وقرأنا الفاتحة لسيدنا عثمان "رضي الله عنه"، وقرأنا فيه بعض الآيات وهو بالخط الكوفي الغليظ وأرواقه عتيقة مهترئة "ويذكر النابلسي" أن أحد الأمراء قد دفع مائة قرش لرجل من المجلدين في دمشق الشام حتى يأتي إلى بلاد حمص ويصلح هذا المصحف المذكور، فذهب وأصلح أوراقه وأتقن حبكته وعمل جلده".
استسقاء وتبرك
كان أهل حمص إذا احتاجو إلى المطر يُخرجون مصحف عثمان ويستسقون به ويدعون الله فتحصل لهم السُقيا، وقد تكرر لهم ذلك مراراً على ما يذكر (محمد مكي بن السيد الخانقاه) في كتابه (تاريخ حمص) حيث يقول "وفيه صار الطلب السقيا من الله، وخروج الناس من القلعة وتنزيل المصحف العثماني من محله إلى المحراب نسأل من الله الرحمة بجاه الأمة وسراج الظلمة آمين (1129 هـ -1716م).
ونظرا لأهمية هذا المصحف وقيمته التاريخية والدينية نقله أهل حمص من جامع السلطان (جامع مصحف عثمان بن عفان)، إلى القلعة ليوضع في مكان حريز تحصيناً له، وكان في أحيان كثيرة ينزل إلى الجامع النوري الكبير للاستسقاء والتبرك على ما يذكر (محمد مكي السيد في كتابه آنف الذكر حيث، يقول بلغة عامية (وقبل بكم يوم جاء جراد عظيم لا يعلم إلا الله مقداره، في تلك الأيام قلَّت الأمطار فسأل أهل حمص الله اللطيف نزول المطر وهم يحملون مصحف سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه نهار الاثنين. وفي عام 1114هـ 1702 م كان نزول المصحف الشريف العثماني من القلعة إلى الجامع الكبير".
وعندما هُجرت القلعة وانهدمت معظم مبانيها ولم يبق مستعملاً فيها سوى مسجدها خاف الناس على المصحف الموجود فيه من صروف الدهر فنقل إلى جامع خالد بن الوليد وبقي محفوظاً فيه ضمن خزانة سنوات، ولكن يد السفاح (جمال باشا السفاح) كانت أفتك من صروف الدهر ... لم يعلق أحداً على مشنقة –هذه المرة– ولكنه شنق أمنيات مدينة كانت أحق من غيرها في الاستحواذ على مصحف عثمان وضمه إلى حنايا القلب إلى جانب مراقد الأئمة والصحابة والتابعين الذين اختاروها مثوى لأجسادهم الطاهرة.
خالد عواد الاحمد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية